إلى م.أ.غ. صاحب الطريق الطويل الإرهاق يمتص كل عظامها. في كل أجزاء جسدها صرير، الراحة عندها كلمة لا تعرفها. امتص العمل كل شبابها. وامتص طفلها الذي تركه «مدهش» في أحشائها نظارة ثديها، أصبحت خرقة قديمة ممزقة. الطفل يزحف بعظامه فوق أتربة الغرفة، والنور لا يدخل إلا مسلَّماً عابراً. فالدار من ذلك الطراز القديم في الأبنية اليمنية.. نوافذ لا يطل فيها وجه إنسان، ولكنها مكان صالح لاستخدام البندقية، الهدوء مات منذ أن بني الدار. وعمر الدار كعمر الزمن مجهول. قالوا أنه قد تهدم منه طابق. لكنها تكتفي بما تبقى. فالبقرة مع غنيمات في الصبل، وصوتها هو الموسيقى الوحيدة التي تسمعها كل يوم. وتكتفي من الغرفة بزاوية حادة، فرشت فوقها حصيرة بالية وفراشاً قد تمزق وخرج منه القطن وأخذ لون القطن وأخذ لونه الغبار. الوقت عصراً، عادت تبلل قليلاً من الحول، والأمطار بخلت قليلاً هذا العام. والعيدان التي كانت قد بدأت تخضر أخذ الجفاف اخضرارها لكنها تداوم كل يوم على العمل. الحبوب القليلة التي تبقى لها من المدفن. يبعد عنها شبح الجوع. وإن كان الجوع هو حياتها. مرت جارتها من أمام الدار. سمعت صوتها. تركت الطفل يمضغ التراب وراحت تحدث صاحبتها. كانت في ثوب شبه جديد، ومقرمتها التي تلبسها في الأعياد عرفت أن الجارة في طريقها للزيارة. إلى أين يا بنت عمي؟ قالت الجارة وكأنها تخفي فرحة يقولون «الجمّال» قد وصل من عدن. دق قلبها. لعل رسالة تطل مع القادم.. وتابعت الجارة: تشتيني أسأله لا في جواب؟ مضى وقت طويل لم تسمع عنه، الصمت يغلّف وجوده هناك. وبايرد لا شفي القلب الموجع. وهل ترى عودة الجمّال من عدن يشفي غليلها، بكلمة أو نبأ. لم تستطع إلا أن تهز رأسها موافقة. لم تنتظر الجارة، حفيف ثوبها يشي برغبتها في الإسراع إلى دار القادم. قالت لنفسها الحق أن تسر، فزوجها يعيش في عدن، ولم يكن كزوجها يمخر عباب البحار ويرتاد البلدان. لم تستطع أن تحرك نفسها. رأت بقرتها بجانب الدار، ولم يعد الراعي بأغنامها التي تدفع ربع سعرها زكاة سنوية للإمام. كان عقلها في منزل الجمّال، مع النساء الفرحات، وكل واحدة في هذه الدقيقة تستلم الرسائل والنقود والهدايا والثياب. تعلقت أبصارها بمنزل «الجمّال» كأنها تريد أن تعرف المجهول. في قلبها شبه يقين بأنها في هذه المرة ستعرف الأنباء. مضت إلى غرفتها. الطفل لا يزال معلقاً في التراب، وفمه وخده تلوثا بلون ما يلعقه. وفتحت صندوقها القديم، نفضت منه أكوام الغبار. تريد أن تخرج بدورها ثوبها الذي تلبسه للعيد، ومقرمة طوتها باهتمام. تذكرت أن هذه الأشياء لم تلبسها من قديم. من العيد الذي مضى. وكان زوجها قد سافر على العمل في رمضان قبل العام. وكان في أحشائها طفلها الذي يزحف جنبها، ليلقي نظرة على ما تخفيه في صندوقها المصنوع من خشب. طفلها ولد بعد أن سافر زوجها بأشهر ثلاثة. وكتبت له بأنه جميل وأنه يشبهه. وأرسل إليه بعد أن مضى على ولادته أشهر كثيرة ملابس قالوا لها أنها من بلاد اسمها «الجعفان» وكان زوجها كلما يمر في موانئ قريبة، يرسل النقود والملابس. وانقطعت أخباره. وقال العائدون بأنه في بلد بعيدة أسمها «مريكان» وأنه يعمل في جبال الفحم. وانه عندما يعود سيحمل النقود والملابس. كانت تريده هو. وكتبت له وكتبت. وعلمت أن الجواب يضيع في الطريق. وعلمت أنه كانت هناك حرب، وأن بواخر يعمل فيها من أبناء اليمن تغرق باستمرار. الليل دائماً يطول عندها. هواجس كثيرة ومقلقة، لعله غرق، لعله مريض، لعله تزوج، لعله.. لعله.. لعله... أقفلت الصندوق، ولم تعد جارتها.. والطفل فاتح فمه، عيونه غائرة ووجه مصفر وكلمات عذبة تخرج من فمه: أمه.. أمه.. أمه.. رغم أن عمره قد قارب العامين لكنه لسوء ما يأكله ويشربه لا يستطيع أن يسير بقدميه. والكلمات عنده شبه مبهمة لكنه كزوجها صموت. وسمعت صوتاً يهتف باسمها. مضت مسرعة وقابلت جارتها. كانت تحمل أشياء. وفي صوتها فرح، وكان قلبها يدق باستمرار. وحلقها قد جفّ، وعقلها يصدر الأشياء بسرعة الشريط. الجمّال معه جواب.. لم تسمع البقية، مضت بسرعة تلبس ثوبها ومقرمة، وخطفت طفلها، وتركت البقرة بجانب الدار. وقلبها يدق باستمرار. هل أسرعت، وكيف وصلت. وهل رأى النساء خفق قلبها. كان حياؤها يمنعها من الكلام. ونظر الجمّال صوبها، ولاح في وجهه المجعد العجوز ظل بسمة. وأخرج الجواب من كيسه الذي تعرفه من لونه الذي قد صنعه العرق. زوجك بخير.. ويسلم على ابنه كثير.. وأرسل لكم مصاريف وحق المرعاية وحق بيت المال. وهو يشقى في بلاد «المريكان». كان يعد أمامها المالاريا تريزا وسمع الجمّال صوتها الخجول: وما يقولش أيحين يعود؟ هزّ العجوز رأسه المنحوت من سنين: لا ما يقولش.. في قلبها تمزق شريان. وفوق وجهها نمت سنون لم تعشها. وطفلها ينظر باستغراب. وأذنه تسمع كل طرقات قلبها الولهان. ويده تشعر بالحرارة التي يقذفها الجسد المنهار. رأت أمامها كومة من النقود: هذي مائة ريال. آه. وماذا تصنع النقود. مائة ريال ثروة كبيرة. لكنها مصروف أشهر عديدة. وربما للقحط إن أتى مثلما أتى قبل عام والتهم النقود والحبوب والنفوس. وبيت مال مولانا الإمام له نصيب من هذه المائة، وربما كان نصيب بيت المال أكثر من نصيبها، والشيخ والعاقل لهم نصيب. وذهب الجمّال لغرفة بعيدة، لعله يأتي معه «بصدارة» جديدة. تلفتت رأت عيوناً لا تعرف عددها تحملق وتحملق. والوجوه مغبرة ومفجعة لنسوة حزانى، ينتظرن مثلها كلمة أو نبأً أو صدارة. مو اشتنفع البي هذي؟. كم قالوا ما أرسل لك شيء. والدولة تشتي كل شيء. والمطر ما هلوشي. وهزت العجوز المتكلمة رأسها استعجاباً: قاهو أشكل من غيره. الله يحفظه ويرزقه، عاده ما بوش شيء يرسل ولو مرة في العام. لكن الثانيين المضيعين حتى ولا جواب. الله يعلم فين مدفونين. ولا تسمع الحديث حولها، في رأسها مشاكل كثيرة، لكنها ستشتري غداً لحماً ودجاجاً، وليشرب الصغير معها المرق. أكثر من ثلاثة شهور لم ترَ لون المرق ولم تذقْ قطعة من لحم. وأقبل الجمّال يحمل في يديه بقية أشياء: هذي صدارة من مدهش، سكر ورز ومقرمة وثوب وملابس للابن، مع صابون.. ياحظها السعيد.. هدية من أثمن الهدايا. لم تعرف الصابون من سنة، والرز لم تذقه، فالحرب قد أخفت الأشياء. الطفل لا يصدق أن أمه ستحمل الأشياء كلها للدار.. فرحتها لم تكتمل، فعددته مطلبها، لكنها ظلت طوال الليل تدعو له بالعافية، وأن يعود بالسلامة. راحت تقبل الخطاب، وتخبر الصغير حنينها بأنه سيقرأه عندما يذهب للفقيه. ومرت السنون، وتبعتها سنون، والخطاب قد تمزق لكثرة التقبيل والبكاء.