مثلت الثورة اليمنية بمرحلتيها السبتمبرية والأكتوبرية حدثاً ذا أهمية على كل الصعد وطنياً وقومياً بل وعالمياً أيضاً , وخلقت في كل منها تباينات في الرأي حيال الموقف منها بين مؤيد ومعارض ليس لأن الصراع بين المعسكرين القائمين في العالم كان على أشده فحسب بل ولأن الثورة اليمنية ذاتها قد فاجأت العالم من حيث الزمان والمكان وأفضت في النهاية إلى نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية بعيدة المدى تتعدى حدود اليمن البلد الصغير القابع في عزلة عن العالم وكان خطابها السياسي الأول مفعماً بالمضامين الوطنية والقومية المتحررة والعداء للاستعمار والرجعية دون أدنى تحفظ يذكر ,وفي المضمار العملي طرحت لأول مرة أسلوباً جديداً لنظام الحكم في عموم الجزيرة العربية قوامه مشاركة الناس العاديين في صناعة القرار السياسي , مما يعني الاعتراف بأن الشعب مصدر السلطة وليس العائلة أو الفرد تحت أي مزاعم , وأتت بنصر عبدالناصر لليمن رسالة قومية ووحدوية واضحة بعد أن كاد الانفصاليون ينجحون في إرغامها على الإنطواء والعزلة من جديد عن محيطها العربي وانتعاش وتسامي الأفكار القائلة بأن مصر جزء من حضارة المتوسط وليست العروبة سوى حالة آنية أملتها الرغبة المتهورة لمجموعة صغيرة من الضباط للتوسع وبسط النفوذ في مشرق العالم العربي. كما أدت الثورة اليمنية إلى إنسحاب الانجليز من كل ماكان يسمى بمنطقة شرق السويس بصورة كاملة وسمحت للنفوذ السوفيتي الذي كان يمثل زعامة المعسكر الآخر والقوة العظمى الثانية في العالم بالاقتراب من بحيرة النفط الكبرى التي كان الغرب ولما يزل يعتبرها في مقدمة المناطق التي تتواجد فيها أكثر مصالحه الحيوية والتي يخوض فيها التحالف الغربي بزعامة امريكا إلا أن حربه العالمية الثالثة إذا جاز التعبير هي من أجل احتكار السيطرة على المواد الأولية وفي مقدمتها النفط لضمان بقاء تفوق إسرائيل بوصفها الممثل الدائم لحضارة الغرب ومصالحه الاستراتيجية وحامل قيمه الثقافية في الشرق العربي ومن أجل منع العرب من إقامة دولتهم القومية والامساك بناصية العلوم الحديثة ,وبرغم الفارق الكبير في التشبيه فإن خصوم الثورة اليمنية ولاسيما على الصعيد الإقليمي شأنهم شأن خصوم الثورة الفرنسية قد أدركوا مبكراً دلالات تلك الثورة وانعكاساتها على البلاد المحيطة بها ربما قبل أن تدرك الثورة ذاتها ذلك , ولذلك فقد تالبوا عليها كما فعلت الرجعيات الأوروبية مع ثورة الباستيل وبادروا إلى شن الحرب عليها دون سابق إنذار ومن أول يوم لقيامها على مدى سنوات طوال وأرغموها على تكريس كل طاقاتها للدفاع عن نفسها وكان أقصى ما تأمل الفوز به من حربها الدفاعية المرهقة هو البقاء مجرد البقاء والكف عن نشر رسالتها التحررية عن طريق تقديم المثل الذي يرمز إلى اسلوب جديد في حياة الشعوب ,ورغم رفض خصوم الثورة لكل ما جاءت به من الشعارات والمبادئ والأسماء وشنهم الحرب عليها بكل الوسائل فلم يكن بوسعهم تفادي انعكاساتها على مجالات الحياة المختلفة في بلدانهم , فقد شرعت الأسرة الحاكمة في الجزيرة والخليج في إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية مختلفة, وأعلنت بخجل انتماءها ولو جزئياً إلى العصر الذي تعيش فيه ربما تفادياً لثورة مماثلة , واتخذت المملكة العربية السعودية قرارها الخطير بتحرير العبيد والتخلي رسمياً عن تجارة البشر وبادر شاه إيران الذي كان معادياً للثورة اليمنية بنفس القدر إلى القيام بجملة من الإصلاحات بما في ذلك حل مشكلة الأرض تحت عنوان الثورة البيضاء. لقد أدى خروج مصر عبدالناصر إلى الجزيرة العربية إلى فتح أعين قادة الغرب على المشروع القومي الوحدوي الناصري وذكرهم بمحاولات محمد علي الكبير وإبراهيم باشا وكرس لديهم الاقتناع بضرورة التصدي له وإحباطه بحرب يونيو حزيران 1967م كما هو حال موقف العراق اليوم بزعامة صدام حسين من الوحدة اليمنية والابتهاج بقيامها والموقف المتفرد بدعمها , أقول برغم ماكان للثورة اليمنية من اصداء وتداخلات عميقة بالصراعات واتصال بموزاين القوى القومية والعالمية فإن حرب الحصار على رغم أهميتها ذروة في الحسم ومنعطف نهائي في مجرد الصراع انتهت كحدث محلي مغمور وخصوصاً على الصعيد القومي مثلما كان الأمر بالنسبة لطرد الانجليز بالقوة من جنوب البلاد , ولم يفلح هذان الحدثان اليمنيان في جذب انتباه المثقف والباحث أو المؤرخ العربي برغم أهميتها البالغة كأول رد فعل عربي ناجح يعقب هزيمة ينويو حزيران بعدة أشهر لاغير , ولست أدري أن كانت حروب اليمنيين هذه التي انتهت بالانتصار العسكري على الأقل وانطوت على الكثير من الإبداع والتضحيات قد وجدت طريقها إلى حصص الدراسة في المعاهد والأكاديميات العسكرية العربية ومبلغ علمي أن ذلك لن يحدث مطلقاً فلماذا؟ إنه سؤال موجه إلينا جميعاً لنرد عليه قبل أن نسأل الكتاب العرب عن ذلك ,بل أن الموسوعة العسكرية العربية التي صدر منها حتى الآن أربعة مجلدات عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الشام لم تشر من قريب أو من بعيد إلى صنعاء كواحدة من المدن التي تعرضت للحصار في الوقت الذي اشتمل بيانها في هذا الخصوص على معظم المدن والمراكز الحيوية التي حوصرت عبر التاريخ بدءاً من حصار طروادة وحتى محاولة مصر فرض الحصار على خليج تيران عام 1967م ولاشك أن جهوداً طيبة قد بذلت في الأعوام الأخيرة لإعادة تسجيل وقائع حرب الحصار ولكن هذه الجهود على عظمتها ظلت متداولة بين صفوف مجموعات صغيرة من المثقفين والمهتمين اليمنيين ولم تصل بعد إلى الرأي العام اليمني أو مقاعد الدراسة في مدارسها ذاتها إلى ذلك , ولدينا جميعاً يقين بأن جيلاً بكامله من أبناء اليمن لايملكون أية معلومة عن وقائع حرب الحصار ناهيك عن الأحداث الأولى المبكرة للثورة اليمنية بأسرها. وقد تساءل الكثير لماذا نكتب التاريخ؟ وماهي أهمية إعادة استحضار وقائع الحصار؟ وأعتقد أن فوائد ذلك كثيرة ومتعددة تخدم الحاضر والمستقبل معاً , فالتاريخ ذاكرة الشعوب وفنون الأمم وإبداعاتها في الحروب أنه جزء من ثقافتها وقيمها العامة ,والحروب مهما كانت فإنها تمتحن أخلاق الشعوب وتختبر قدراتها الكفاحية. إن تسجيل وقائع الحصار يعد بالدرجة الأولى خدمة للحقيقة بحد ذاتها ومراكمة للتراث الإنساني وبالنسبة لنا في اليمن فإن إعادة تلك الوقائع وما صاحبتها من بطولات ومعاناة وإعادة إعلام الناس بها يشكل تجذيراً للثورة أو تنويراً لها على حد تعبير الأستاذ البردوني وتأصيلاً للوعي لدى الأجيال الجديدة في وجه حملات الدعايات والتزييف التي تريد إلغاء الثورة السبتمبرية من ذاكرة الناس ومن تاريخ اليمن واستبدالها بوعي آخر بزعم أن الثورة لم تكن سوى حدث عابر في تاريخ اليمن أن لم تكن حدثاً لاحاجة للناس به شأنه أي انقلاب عسكري حدث أو يحدث في بلدان العالم الثالث ,والآن وقد عاد عالمنا العربي إلى وضع يشبه ماكان عليه الأمر بعد الحرب العالمية الأولى حينما تسابق الاستعمار الغربي باساطيلة وقواته تحت غطاء عصبة الأمم إلى تقسيم العالم العربي والسيطرة على ثرواته بموجب إتفاقية سايكس بيكو الشهيرة، فلاشك أن اليمن بكيانها الجديد الموحد وديمقراطيتها الجديدة التي تزعج جيراننا بل وتقض مضاجعهم كما كان حالها في الستينات سوف تكون وحدة من الأهداف التي توضع على طاولة المعتدين بعد انتهاء حربهم الاستعمارية في الخليج ,ولاينبغي لنا استبعاد أي شكل من أشكال التهديد والعدوان بما في ذلك الحرب المسلحة ,ولذلك فإن الحديث عن حصار صنعاء وانتصار اليمنيين فيها بالاعتماد على الذات وبدون دعم الجيش المصري هو تذكير مشترك لنا ولخصومنا في أن اليمنيين قادرون على الذود عن بلادهم ومكتسباتها بامكانياتهم الذاتية المتواضعة ويزداد الأمر أهمية من زاوية النظر إلى مايسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يقوده ويسيطر عليه قطب واحد هو الولاياتالمتحدةالامريكية بعد أن تمكن حلف شمال الاطلسي بزعامتها من تمزيق المعسكر الآخر الذي كان يعرف باسم حلف وارسو وإخراج زعامته ممثلاً بالاتحاد السوفيتي من حلبة الصراع لقطب مواز بعد أن كسب الطرف الأول نتائج الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية. لاشك أن وقائع الحصار وتفاصيل الحرب الكثيرة ما برحت خافية وغير مكتوبة ومختبئة في صدور الذين شاركوا في الحرب أو في الأرشيفات المختلفة , بيد أن ما قيل أو كتب إلى حد الآن يكفي لرسم المعالم الأساسية للحرب ,كما أن نتائجها معروفة لنا جميعاً ولذا فإن الوقت قد حان للانتقال إلى المرحلة التالية التي تتمثل في التحليل والتمحيص والتدقيق في المادة الموجودة بين ايدينا وإعادة نشرها داخلياً وخارجياً بكل الإشكال والسبل المتاحة , ومن أجل استكمال الصورة ورسم لوحة المعركة بجوانبها المختلفة ينبغي تركيز الاهتمام على معلومات واستنتاجات الطرف الآخر في الحرب أي الملكيين والأطراف التي كانت تقف إلى جانبهم وقراءتها قراءة نقدية متأنية باسلوب المنهج العلمي المعتمد في كتابة التاريخ , واعطاء الأولوية للمعلومة أو الواقعة بذاتها والتقليل قدر الإمكان من صبغها بلون سياسي معين دون خوف من شيء طالما أن الجانب الجمهوري على يقين في عدالة الحرب التي يخوضها وطالما أنه كسب الحرب في مراحلها النهائية ,وفي الوقت ذاته يتعين علينا ونحن نقدم أحداث الحصار إلى مواطنينا والعالم أن نتخلص من العبارات والجمل الانشائية ونركز بالدرجة الأولى على تقديم مقارنة برنامجية للمضامين والأهداف السياسية التي كان كل طرف يبتغي تحقيقها من وراء الحرب ,فليست الحرب سوى امتداد للسياسة بطريقة أخرى على حد تعبير أحد القادة العسكريين الألمان القدامى. إن هذا النوع من التعامل مع تاريخ الثورة اليمنية من شأنه مخاطبة عقول الأجيال اليمنية والعربية الجديدة لاعواطفها ,سيما وأنها لاتعرف عن الإمامة وسياساتها الشيء الكثير وليس مهتمة بما ان عليه الحال بالأمس طالما إن الحاضر بهمومه ومشاكله الكثيرة يشغل كل دقيقة من حياتها , وأحسب أن هذا ما يستطيع جيلنا أن يقوم به , أما الكلمة النهائية في كتابة تاريخ الثورة وأحداثها الكثيرة بما فيها حصار صنعاء فستكون من مسئولية المؤرخ الذي سيأتي فيما بعد وأمامه الوقائع المجردة وليس واقعاً تحت أي تأثيرات من أي نوع.