في قرية اسمها «العالم» يصعب التكهن لمن الغلبة..؟! في صراع الثقافات القائم, ونحن كأمة حبانا الله بقيم سماوية خالدة, وضعنا ليس «بالمطمئن», فالطفرة المادية المزعجة مازالت تزبد وترعد وتعربد وتنخر بقوة في عقول شبابنا.. سواء ممن عايشوها عن قرب, أو تأثروا بها عن بعد، بفعل وسائل الاتصال المختلفة.. وتبقى العودة مُرّة.. فهي كفيلة بطمس هويتنا.. والتمكين لهذا«الآخر» أن يستحوذ على مقدراتنا بكل سهولة ويسر. مفلسون؟! شيء جميل ومهم أن يطلع الواحد منا على ثقافة غيره من الأفراد والمجتمعات وأن يأخذ من تلك الثقافات كل أو بعض إيجابياتها, لا أن يجعل من سلبياتها نهجاً ومرجعاً. هذا ماذهب إليه الأستاذ شاجع علي ذمران معيد في كلية التجارة جامعة تعز واصفاً في الوقت ذاته أولئك العائدين بالثقافة السلبية للغير بأنهم «مفلسون» يكتنفهم شعور بالنقص.. فهم من خلال الأفكار الانحلالية والمفاهيم الخاطئة التي يحملونها, يمارسون سلوكيات خاطئة خارجة عن القيم الدينية والضوابط الأخلاقية وهم من خلال هذه الأعمال يوهمون أنفسهم بتعويض ذلك النقص مما يدخلهم في صراع مع أفراد مجتمعهم, وهو الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة من عدم التأقلم والتفاعل معهم. مسئوليات غير بعيد عن هذا التوجه يعتقد صلاح علي سلام نائب رئيس اتحاد طلاب جامعة تعز، أن تأثيرات هؤلاء العائدين بالثقافة السلبية للغير تطال المجتمع برمته وخاصة الناس المحيطين بهم.. والمراهقون أكثر تأثراً لأنهم ليسوا مدركين خطورة مايقدمون عليه.. وكذلك الأصدقاء المقربون فهم ينخدعون بالمظهر والكلام المتكلف والنصائح العصرية الواهمة التي تدعوهم إلى مجاراة المدنية المنحلة.. وليس بعيداً أن يقودهم إلى شرب الخمور والمخدرات والتسكع في الشوارع ومعاكسة الفتيات, وعدم الإحساس بالمسئولية وكذلك نسيان اللغة أو تناسيها كنوع من عدم الاكتراث والجهل بأهميتها. وخلص سلام أن الأصل أن ننظر إلى هذه القضية بجدية, خاصة وأن بدائلنا التربوية لم تفعل جيداً للمواجهة, ولو استشعر كل عضو في هذا المجتمع مسئولياته, ما استبدت أي ثقافة على ثقافتنا العريقة. نظرة مختلفة سمر الكمالي طالبة في كلية العلوم التطبيقية جامعة تعز.. لديها وجهة نظر مختلفة تقترب كثيراً والتجديد الراقي الذي لا يبتعد عن الأسس الحضارية لأي أمة فاعلة.. والجامعة هي محطة التواصل التي تلتقي فيه الثقافات المتماهية بالرأي والرأي الآخر. سمر لم تخرج عن ذلك الإطار المعرفي فبعض أساتذة الجامعة كما تصف استفادوا كثيراً من دراستهم في الخارج.. وعادوا بثقافة غربية ترتكز على البحث العلمي وتستند إلى طرق تدريس فاعلة, تنشط المدارك وتنمي المواهب وتكشف الابداعات. يشاركها الرأي ياسين عبدالعزيز، الطالب في ذات الجامعة.. الذي أضاف: العودة بعادات وسلوكيات جيدة مثل التعامل بنظام ودقة في المواعيد, مع أنها من أخلاقيات ديننا إلا أننا تنكرنا لها والواقع يشهد شيء رائع. على النقيض محفوظ سلطان أحد أولئك الشباب العائدين من الغربة.. لا ينكر اكتسابه الكثير من الثقافات والعادات الجيدة بسبب احتكاكه بأصناف شتى من البشر”هم” كما يصف أكثر منا ثقافة ودراية ورغم ذلك يصر محفوظ أن الخصوصية اليمنية الفريدة ظلت راسخة في كيانه طوال سنوات غربته. وعن التغيير الذي يحدث للشاب في بلاد الغربة قال محفوظ: ما يحدث هو تغييرات شكلية فقط دون المس بالجوهر, فتقبل أفكار الآخر.. شيء وارد هناك لكي تستطيع أن تؤثر بمن حولك. يخالف محفوظ الرأي والتوجه الشاب العشريني سامي أحمد البعداني.. فهو ينتقد كل شيء في بلده الأم ليتحدث بتباهٍ مفرط عن «ماما أمريكا» حيث ولد وعاش أغلب مامضى من عمره. سامي قال: إنه يعود إلى اليمن في فترات متقطعة بغرض زيارة الأهل والأقارب الناتج أصلاً عن اصرار والده أن لا ينقطع نهائياً عن زيارة موطنه الأصلي.. إلا أن الابن غير الأب, أخذته الثقافة الغربية إلى متاهات موحشة من الترف والنزق والفوضى.. فنحن من وجهة نظره أمة متخلفة بيننا وبين الحضارة الغربية بون شاسع. تساؤل ملح لا أنكر أني حينما التقيت سامي هالني منظره المتعالي, وطريقة لبسه وكلامه وهنا أجدني مضطراً لأن أعذره! كونه شاباً ولد وترعرع هناك.. والأشد إيلاماً أن يتأثر ويعود بتلك الثقافة الانحلالية من اغترب لفترة زمنية محدودة, أو لم يغترب أصلاً, وهذا وارد بحكم تأثير «العولمة» الطاغي على كل شيء. وقبل أن أتعمق أكثر في تفاصيل هذه القضية من حيث الأسباب والمعالجات, أحب أن أشيد بمن يسافر لأجل”الفائدة” كما قال الامام الشافعي أو بمن اغترب لغرض العمل والدراسة وترك أهله وأحباءه وتحمل المشاق من أجل الوصول إلى مبتغاه من طموح ونجاح وتطلع لمستقبل أفضل. قابلية مسبقة الدكتورة فوزية الشرعبي أرجعت سبب ذلك التغير الذي قد يطرأ على كثير من شبابنا العائدين من الغربة إلى مرحلة التكوين «المراهقة»- المرحلة العمرية التي هم فيها- حيث يعمل أولئك الشباب كل مايعتقدون أنه جيد, وعندما يذهبون إلى بلد آخر, تكون عندهم قابلية مسبقة للتغير وتقبل أفكار هذا البلد أو ذاك؛ لأن هناك معتقدات راسخة في أذهانهم أن هذه البلدان متقدمة ومتطورة. ولفتت د. الشرعبي أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فثمة أسباب أخرى مرتبطة بالوضع الاجتماعي المعيش, فبعض الشباب الآن أصبح يتصف باللامبالاة والسلبية وضعف الإنتاج والمشاركة, وفقدان روح الانتماء سواء للوطن الذي يعيش فيه أو العمل الذي يقوم به أو الكلية التي يدرس فيها أو حتى الشارع الذي هو منه, وإذا كان بعض الناس في الغرب يشعرون بالإحباط لقلة مايعرفونه عن هذا الانتماء, فإن الواقع الاجتماعي في بلادنا النامية لا يعد بناءً مستقراً, إنما هو حركة مضطربة نحو أفق مفتوح، الشباب فيها مجرد مشروعات ناقصة. اللامبالاة يعتقد كثير من المغرر بهم أنهم بارتمائهم في ثقافة الغير, إنما ينشدون التحضر ويسايرون العصر والتقدم والانفتاح.. ناسين أو متناسين أنهم بذلك يفقدون خصوصيتهم وهويتهم, ويتنكرون لقيمهم السمحة التي هي أصل ودليل وجودهم. يقول شوقي قادري- باحث اجتماعي: إن هؤلاء يشكلون عبئاً ثقيلاً ومتراكماً على مجتمعنا المحافظ, فهم جاءوا بثقافة مزيفة تتعارض والتقاليد والأعراف المعيشة.. وهو الأمر الذي يولد اضطراباً وصراعاً مجتمعياً ثقافياً شاملاً, مما يجعلهم فئة منبوذة محتقرة غير مكترثة. قادري أكد أنه ليس ضد الظاهرة ككل، ولكنه ضد مايسيء للأصل ويتنكر له, وهؤلاء الشباب عندما يذهبون إلى تلك المجتمعات يحاولون الاندماج والتفاعل الكلي والتعرف على كل جديد من السلوكيات والثقافات المختلفة, ومن الضروري أن يكتسب الشباب قيماً واتجاهات ومعتقدات جديدة, والأصل في هذه الضرورة «حسن الاختيار» وعدم التصادم مع الموروث الحضاري الكامن في المجتمع من عادات وتقاليد وأخلاقيات تتعارف عليها الأجيال. استثناء وحيد ويرى قادري أن عملية التغيير الاجتماعي والثقافي تلعب أدواراً متميزة وتؤدي إلى تأسيس قيم وأخلاقيات تشجع الشباب على الانطلاق, ويقع هذا الأمر ضمن دائرة مايسمى بعملية نقل وتبادل الثقافات من جيل إلى آخر وهكذا تتداخل العوامل والمتغيرات. إذاً هو التعايش بدون استقواء أو إلغاء.. وهو الأمر الذي لم يدع إليه قادري فقط، بل يسانده في ذلك كل الباحثين والمهتمين في ذات الجانب. قادري دعا في بداية حديثه إلى ضرورة إجراء بحث متكامل من أجل سبر أغوار هذه القضية, ولو تأملنا الدراسات التي أجريت في الساحة اليمنية على المغتربين والعائدين منهم لوجدنا أنها أبحاث سياسية واقتصادية أكثر منها نفسية, ويبقى الاستثناء الوحيد ما قامت به الباحثة نورا أبو بكر البيتي التي ولجت إلى القضية من بابها النفسي والاجتماعي, ولها بذلك أفضلية السبق وأول الغيث قطرة. تشخيص ومعالجة الانتماء النفسي ظاهرة ليست مقتصرة على مجتمع دون آخر, فأينما وجد الانسان وجد الانتماء؛ لأنه يعبر عن صحته النفسية, وانتمائه لذاته وأسرته ومجتمعه ووطنه ودينه ثم قوميته وإن كان يتفاوت من حيث الشدة واللين ومن مجتمع لآخر ومن جيل إلى جيل آخر عبر الثقافات. وفي الآونة الأخيرة كثر الحديث عالمياً عن موضوع الانتماء بصورة تؤكد انتشار سلوكيات تنم عن الإحساس بعدم الانتماء بين قطاعات مختلفة من المجتمعات, وأن بعض الشباب الآن أصبح يتصف باللامبالاة وفقدان روح الانتماء.. وقد استحوذت هذه القضية على جهود العلماء في علم النفس الاجتماعي قديماً وحديثاً بالبحث والدراسة.. ومحلياً قدمت لنا الباحثة نورا أبو بكر محمد البيتي دراسة مقارنة في هذا الجانب بين الطلبة العائدين من المهجر وأقرانهم المقيمين في اليمن. وترى الباحثة نورا أن قضية العائدين من المهجر بشكل عام تترك أثراً في النفس تصعب مقاومته, أو الوقوف أمامه باللامبالاة, سواء إيجابياً كان هذا الأثر أم سلبياً, فالحالتان تتطلبان تشخيصاً ومعالجة. الانتماء أولاً الباحثة نورا لم تعف الأسرة من مسئولياتها في هذا الجانب؛ فلا يمكن إعداد الشباب للمهمات الحيوية وتنميتهم إلا بتنشئتهم على أسس سليمة بداية من الأسرة, فإذا نما الفرد وهو يشعر بالانتماء لأسرته؛ كونها الخلية الأولى التي يمارس فيها علاقاته الانسانية ولذلك كان لأنماط السلوك الاجتماعي الذي يتعلمه الطفل في محيطها قيم كبرى في حياته المستقبلية. ولم تعف أيضاً الأجهزة التربوية والمؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها من هذه المسئولية؛ فالانتماء كما تصف يمثل أحد القيم الإيجابية التي تحقق تكاملاً للشخصية. وتضيف نورا: إن هذا التكامل لا بد وأن يستشعره الطفل بين الأجهزة المهيمنة على تزويده بمقومات الانتماء ومظاهره, خاصة وأن الانتماء لا يقوم إلا من خلال خطة تتضمن أسلوباً علمياً لعملية التنشئة الاجتماعية.