صار من المألوف أن نجد عديد قرى ومناطق ريفية في بلادنا محرومة الخدمات الأساسية كالطريق والكهرباء والماء والهاتف، وما يترتب عليها أحياناً من غياب المرافق التعليمية والصحية، لكن من غير المألوف ولا المعقول أن نجد منطقة أو حياً يربو عدد سكانه نحو “8000” نسمة ويقع ضمن نطاق جغرافي لكبرى المدن اليمنية وأقدمها تمدناً ويحرم من أدنى تلك الخدمات الأساسية في القرن الواحد والعشرين، في حين حظيت مناطق وقرى أبعد منه من وسط المدينة بتلك الخدمات! إنها المنطقة الأشهر عشوائية على الإطلاق في المدن اليمنية وتدعى “وادي حنش” في الجهة الغربية لمدينة تعز وعلى بعد 10 كيلومترات فقط، ضمن مديرية التعزية.. فإلى مأساة تلك المنطقة.. بين القاهرةوتعز! يتندر أشقاؤنا المصريون في أفلامهم العربية بالأحياء العشوائية وما يكتنفها من سلوكيات أبنائها “الغلابى” المطحونين بحرمان مصادر لقمة العيش وغياب الخدمات الحكومية، لكن ذلك التندر بحال العشوائيين تزامن في السينما المصرية بنقل هموم ومعاناة أولئك المحرمين، وهو ما غاب في بلادنا. في العام 2007م مررت بأحد تلك الأحياء، وأنا في طريق لزيارة صديق في حي الزهور في أطراف مدينة القاهرة العاصمة المصرية أتذكر حينها أن محمد سائق التاكس قال لي: إن غالبية من بنوا تلك المساكن العشوائية المهترئة ممن عادوا بعد غربة من الخليج أو ليبيا، لكنهم وبمجهودهم الذاتي تركوا مجالات فيما بين مساكنهم لتمر الشوارع وإن كانت ضيقة ولا تتسع لأكثر من عربة في الغالب إلا أنها شوارع والسلام وتفي بالغرض، لكن عشوائية تلك المساكن والشوارع لم تكن مبرراً للنظام المصري المخلوع، لحرمان تلك الأحياء من الكهرباء والهاتف والماء أيضاً، بل وعديد مرافق صحية وتعليمية تحيط بهم وتتوسط بعض فئاتهم المتاحة لذلك، وخلاصة ما خرجت به من زيارتي لعشوائيات القاهرة ضيق الشوارع وعشوائية وارتجالية تخطيطها، وبالتالي تدنت تبعاً لذلك الضبطية الأمنية على تلك الأحياء، وهو ما يؤدي إلى صعوبة مكافحة الجريمة هنالك.. دعونا من عشوائيات القاهرة وشأنها، فكل ما يعنينا هنا من عشوائيات القاهرة وشأنها فكل ما يعنينا هنا من ذكر تفاصيلها هو جلب المقارنة بينها وبين عشوائيتنا نحن وتحديداً المنطقة التي زرتها وأجريت عليها هذا الاستطلاع “وادي حنش” وأنا عندما أنعتها ب «منطقة» أكون متهرباً ومحتاراً بالفعل من اختيار ما يناسبها من وصف! فلا هي قرية أو عزلة بعيدة عن مدينة تعز لأنعتها بها، ولا هي حارة أو حي في مدينة لتوصف به، ولأن ساكنيها يدركون ذلك فلم يجدو لها تسمية ووصفاً سوى “وادي حنش” إنها بالفعل “وادي” لكن مهلاً.. حتى هذه التسمية لم أقتنع بها! لأن الأودية لا تخلو من المياه الجارية أو الجوفية أما هذا المدعو ب“وادي حنش” فلا بئر فيه ولا عين والمصدر الوحيد لمياه الأهالي البالغ عددهم نحو “8000” نسمة هي “الوايتات” القادمة من أماكن بعيدة.. إذاً ومع ما سلف وما يلي من مآسي الأهالي لاشك سيجعلهم يحلمون في العيش في عشوائيات القاهرة!! بعد أزمة الخليج بعد خروج معظم المغتربين اليمنيين من دول الخليج صمد من وصل منهم إلى مدينة تعز لبضعة أشهر في شقق الإيجار، معتمدين لسداد الإيجارات على ما تبقى لديهم من تحويشة العمر، لكن المعسرين منهم اتجهوا كما هو معروف إلى بيع أثاثهم ومقتنياتهم لسداد الإيجارات وتكاليف المعيشة “بلا عمل”.. من له بيت في قريته ومصدر للمعيشة فقد نجا وما دون أولئك ذاق الأمرّين، المهم أن عدداً من تلك الأسر تداركوا أنفسهم واشتروا بحلي نسائهم وما تبقى من أثاثهم وتحويشاتهم أراضي في عديد من المناطق المحيطة بمدينة تعز، لكن وادي حنش كانت أراضيه وماتزال أرخص من سواها ونظيراتها الواقعة على أطراف المدينة. عبد النور حازم الشميري “55” عاماً كان أحد من سكنوا تلك المنطق التي بدأت بالعشرات وبلغت اليوم شبيهة بأكبر أحياء المدن كثافة سكانية فقط وتقارباً بين المنازل. انعدام التخطيط أثناء استطلاع حال المنطقة بسيارة اللاندكروزر الخاصة ب«عبدالنور الشميري» لم تتمكن من نقلنا إلى أطرافه بسبب اعتراض عدد من الأهالي التي تمر الطريق “العشوائية” الضيقة بأراضيهم، وبحسب الأخ رشاد محمد سعيد، لسنا نحن الوحيدين نجبر على المسير والترحل بين الأشواك والوحل، فكل من يمرض يجد ذويه معاناة في نقله إلى خارج المنطقة للوصول إلى الشارع الإسفلتي ثم التوجه به إلى مستشفيات المدينة، كل ذلك بسبب تجاهل الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني منذ سنوات لتخطيط منطقتهم، ما حدا بالأهالي أحياناً إلى مقايضة من يقطعون الطريق عليهم؛ بحجة ملكية الأرض، أو الشجار معهم تارات أخرى. عقدة الاستيطان يشير الأهالي إلى مدى تلك المعاناة التي تواجه كل “مستوطن” جديد في المنطقة حد وصفهم فما إن يتورط في شراء قطعة الأرض عبر سماسرة الأراضي هناك، ويباشر البناء، وما إن يبدأ في جلب الأحجار ومواد البناء إلى أرضه، إلا ويبدأ هواة قطع الطريق بممارسة هواياتهم الدنيئة باعتراض شاحنات نقل الأحجار والماء و«النيس» ووو..الخ، وقد تنامى ذلك السلوك منذ بداية العام المنصرم بعدوى الانفلات الأمني واستهتار البعض بالكل والقوي بالضعيف.. ينقل الأخ رشاد محمد سعيد أحد الأهالي معاناة معظم الأهالي المحرومين منذ أشهر من دخول وايتات الماء بسبب جور الإتاوات التي يفرضها مُلاك الأراضي الواقعة على الطريق “العشوائية” كما ينقل معاناة كل من يحتاج إلى جلب الأحجار ومواد البناء لاسيما من «المستوطنين الجدد» - حد تندر الأهالي بهم - لجور ما ينتصب أمامهم من صعاب، لدرجة أن معظمهم “يطفش”ولا يطيق عبء إيصال مواد البناء عبر تلك الطريق الوعرة والمليئة بنقاط الإتاوات التي تصل بعضها إلى “5000”مقابل دخول بابور الأحجار على سبيل المثال! أو حتى اعتراض سيارة الإسعاف لإنقاذ مريض أو أم في المخاض، وقد قيل بأن منهن من لم يصلن مشافي المدينة بسلام. المدرسة الوهمية يبتسم أمين قاسم الذي يعمل مدرساً في المدرسة “المجازية” المدعوة ب “مدرسة محمد محمود الزبيري” قائلاً: شوف هذا الاسم بكله؟ “ملان الفم”..قلت: نعم..قال: أنت تتوقع أن تجد مدرسة تليق بهيبة هذه التسمية..قلت: كيف..؟قال: لا توجد مدرسة من أصله بل مجرد غرف ووحدات سكنية صغيرة متباعدة فيما بينها تصل إلى مئات الأمتار، وصلت بمعية رشاد ومدير المدرسة الأخ بكيل قاسم ووكيله فؤاد الكمالي لنجد باقي من تبقى من زملائهم ال«20» العاملين في المدرسة “المتناثرة” شُعبها. قيل لي: هذا المنزل المكون من غرفتين بلا تلبيس حصلنا عليه من مالكه الذي “طفش” ولم يتمكن من إكماله بسبب قطع الطريق أمام دخول المواد، وأشار رشاد بسبابته إلى صور منازل وغرف متناثرة ومتباعدة عن الإدارة التي نحن فيها قائلاً: وتلك منازل وغرف عملنا منها فصولاً واستطعنا بجهد جهيد وتعاون الأهالي أولياء الأمور من شراء قليل من الكراسي للمعلمين، أما الطلاب فلا أمامهم إلا الجلوس على الأرض والمحضوض منهم من يحظى ب “بُلكة” أو يتمكن وزملاؤه من جلب موكيت قديم ليجلسوا عليه بدلاً من جلوسهم على الأرضية الترابية لتلك الغرف والوحدات السكنية المؤجل استكمال بنائها.. يستطرد رشاد قائلاً: «رضينا بالهم والهم مش راضي بينا» على رأي المثل!..قلت كيف؟..قال: نتفاجأ في ذات الأيام عودة بعض ملاك هذه الوحدات التي ندرّس فيها مؤقتاً، طالبين إخلاءها ليستكملوا البناء وبالتالي نبدأ خلال العام الدراسي بالبحث لهم عن شعب جديدة من خلال ترصدنا لمن لم يستكمل تشطيب منزله، وإن لم يسطحه ليحتله طلابنا ويشدون على سطحه طرابيل! وكم أضحكني أحد المدرسين بقوله: تخيل أنني أدفع لسائق السيكل نحو “4000” ريال شهرياً مقابل نقلي من شعبة إلى أخرى فإن لم أسرع بالخروج من شعبتي الأولى والوصول إلى تلك الشعبة البعيدة قد لا ألحق الطلاب في الفصل ولا أجد نصفهم وأخرج لأطاردهم كالأغنام ليعودوا إلى الفصل!. يلخص الأخ بكيل قاسم - مدير المدرسة - مشكلة غياب مبنى المدرسة إلى تعذر الأهالي ومحلي مديرية التعزية في توفير قطعة أرض لفرع الصندوق الاجتماعي للتنمية بتعز الذي أبدى استعداده لذلك شريطة توفير الأرض وعلى ذلك النحو وتلك العراقيل تتجسد معوقات صعوبة حصول نحو “8000”نسمة أهالي تلك المنطقة التعيسة على دخول المرافق التعليمية والصحية وفي مقدمتها يأتي غياب المجلس المحلي وقيادة السلطة المحلية وفرع الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني لتخطيط المنطقة وفرض شوارع إجبارية كما ينبغي وما هو معمول به. الأكثر عشوائية في تعز الأخ سلطان مغلس المهندس المكلف بتخطيط المنطقة منذ أعوام لم ينكر أن وادي حنش هي الأكثر عشوائية في مدينة تعز على الإطلاق، لكنه أضاف مبرراً : هناك أشخاص من الأهالي وملاك الأراضي وسماسرتها اعترضوا عملنا وكل من نزل لتخطيط المنطقة إلى حد الاعتداء، لذا لا أعتقد أن المنطقة ستحظى بالتخطيط في ظل غياب الحماية الأمنية لفريق الهيئة العامة للأراضي. فداحة القرار السياسي من خلال التواصل مع بعض المعنيين في مكتب الأشغال بالمحافظة تبين لي من خلالهم فداحة القرار الحكومي قبل بضعة أعوام يفصل الهيئة العامة للأراضي واستقلالها عن مكتب الأشغال العامة، فبعد أن كانت مختزلة في إدارة التخطيط العمراني، ويجري عملها متوازياً ومتناغماً مع الأشغال وضمن ميزانية وإدارة واحدة وقرار واحد ومسئولية واحدة..صارت الهيئة اليوم منشقة لوحدها وبلا مبنى ملك يأويها، تارة ترمي بأخطائها على الأشغال، وتارة تتحمل منه الملامة والاتهام، وكل يغرد في سرب لوحده!.. وعودة إلى المهندس سلطان مغلس المعني بالتخطيط المتعثر للمنطقة، نقلنها إليه شكوك بعض أهالي المنطقة من إمكانية أن يكون المصنع المجاور لمنطقتهم وراء عرقلة التخطيط؛ كي لا يأتي بعد التخطيط سكان ميسورون ويطالبون المصنع بالتعويض عن الأضرار البيئية المتصاعدة عنه.. أجاب المغلس بأن ذلك من أبعد المستحيلات، مؤكداً بأن الأخ شوقي أحمد هائل وقبل أن يتعين محافظاً لتعز بأكثر من (7)سنوات تقريباً هو من تحمل كلفة تموين الفريق الهندسي من الهيئة لتخطيط المنطقة الغربية للمدينة بنحو عشرين مليون ريال؛ حيث دخلت وادي حنش ضمنها، وتم تخطيط ما حولها باستثنائها؛ بسبب ما سلف ذكره من اعتراض بعض الأهالي والسماسرة وغياب الحماية الأمنية. يضيف مغلس: فما بالك اليوم وقد صار شوقي محافظاً للمحافظة، بالتأكيد سيضع نصب عينيه أهمية الإسراع بتخطيط المنطقة. كنت أتمنى أن يرد علينا الأخ المحافظ الجديد بعد تكرار رسائلنا الهاتفية لمدير مكتبه الأخ زيد النهاري للاستيضاح حول علاقة مصنع السمن والصابون بمأساة خروج أهالي منطقة وادي حنش وحرمان طلابها ال«800» فقط للمرحلة الأساسية من مدرسة تؤويهم من الشمس، فضلاً عن أضعافهم في المرحلة الثانوية المتوجهين إلى مدارس بعيدة تلامس عفن مقلب قمامة تعز، ولو كلف الأمر شراء أرضية لهم باعتبار التلاميذ المساكين وذويهم ال(8000)نسمة يستحقون لفتة جار كريم يمد ذراعيه لبناء المدارس والمساجد في أصقاع البلاد، فيما جيرانه الذين رمت بهم غربة الخليج وطحنتهم لعنة نسيان وتجاهل المعنيين في تعز ولا تفصل بينهم والمصنع إلا السور بصرف النظر عن تلك العطايا الرمضانية التي يحظى بها «المحنكون» من الأهالي وبعض منازل أوائل العسكر القاطنين بالجوار من تيار كهربائي مجاني.. أو أوسع من ذلك.