تلك هي الجزيرة العربية، منذ أن ولد أول بشري فيها، خلق قبله أو معه، اللسان العربي، قال تعالى:{الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان}. وعلى كل: أكان معنى القرآن المعنى الحقيقي لكلام الله الذي بين أيدينا، أم كان مصدراً من الفعل «قرأ» فإن كلاً منهما يؤيد الآخر فهما يشتركان في الفعل والمصدر معاً. اتفق المؤرخون على تسمية الجزيرة التي كوَّن الله فيها صفوة خلقه، وبرأ الأمم، وأرسل الرسل إليهم ب«الجزيرة العربية» وهو لفظ أو مصطلح ذو دلالة واضحة بين قاموس الألسنيات. “كان الناس أمة واحدة” هل نستطيع تسميتها “الأمة العربية”؟ فبعث الله الأنبياء من قلب هذه الأمة، مبشرين ومنذرين هي مهمة تقتصر على البلاغ المبين، أما اللغة فهم مشتركون فيها، مما سهل عليهم فهم الرسالات. أطلق القرآن دلالة اللسان على جامع لما تفرق تحت هذه الدلالة من لهجات “واختلاف ألسنتكم وألوانكم” نعم ، قد تختلف الألسن لكن لا تختلف اللغة بل تتطور وترتقي بتطور وارتقاء الأمم والشعوب.. فنقول: “ لسان قريش، ولسان قحطان، ولسان تميم، وهكذا..” ولا نقول لغة فلان وفلان إلا على قصد المجاز، لأن اللغة هي الأم، وإنما الاختلاف ضرب طرأ على لسان المتكلم، ألا ترى أن الألثغ والأرت قد يخفيان بعض الحروف، وقد يخرجان الحرف عن صفته الخاصة به إلى صفة أخرى، كإخراج الراء مخرج اللام وغيره. ناهيك عن انعدام صفة الحرف عند لسان وظهورها عند لسان آخر، وهذا عائد إلى المتكلم أو الواضع نفسه، إما لجمود هذا الحرف عنده، أو لنقص في تطوير الحرف ذاته، وهو قصور قد يكون غير متعمد، إما سياسياً لجغرافية دولة أو قبيلة ما، وإما ثقافياً لتأثره وتأثيره بدولة أو قبيلة ما. وخاصية التطور الدلالي مراحل قد تصل إلى ذروة النضج، وقد تقصر هذه المهمة فيحدث نضوج نسبي يمكن أن نطلق عليه مصطلح “الإبانة” وهو مصطلح راق متحضر إذ يجعل من غيره في مقام “العجمة” وهو مصطلح يطلق على كل لسان فيه غموض أو قصور. وهنا تكون الحاكمية للمبين وما تحته محل تأثر وتأثير تابع ليس إلا، فيفرض المتبوع سلطته الثقافية على المجتمع المحيط به تبعاً. تعرض القرآن لهذه الخاصية الفرضية الجدلية اللغوية فسمى الاختلاف تبعاً للسان، وكل ما كان غير مبين أطلق عليه مصطلح العجمة. قال تعالى:«وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم...» يبين لهم ما اختلفوا فيه من خصائص لغوية ذكرت عنده لكماله، وجهلها قومه لتحكم اللسان بهم وهيمنته عليهم. وقال تعالى:« آعجمي وعربي» وقال تعالى:«لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين». الفارق بين الأعجمي والعربي صفة الإبانة وهذا ما دأب عليه القرآن في وصف اللسان جميع مواضعه واستخدم القرآن دلالة العجمة ضد المفصل أي المبهم الغامض أو لنقل المجمل كما أطلق العربي على المفصل وعليه ورد الذكر موضع التفصيل. قال تعالى:” ولو جعلناه قرأناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته آعجمي وعربي...”.إطلاق المصطلحين وقع على القرآن نفسه الكل متفق على عربيته، وبذلك يكون المراد: أقرآن عربي ولكنه معجم في الوقت ذاته، فحمل الخاصتين لا أن الوصف أسقط على اللسان، فكيف يكون اعجمياً أي غير مفصل وهو عربي بذاته. ومن هنا جاء الذكر مفصلاً أي عربياً ولهذا لم يستخدم اللفظ المقابل وهو مصطلح الإبانة لأنه لا يطابق المفصل هنا. ونعلم من القرآن أن الذكر نزل على موسى من قبل وهو ما شمله الوصف الآتي بعد الآية مباشرة” ولقد أتينا موسى الكتاب فاختلف فيه”. والكتاب أشمل من الذكر ومثله القرآن فحصل الاختلاف في الكتاب لعدم التفصيل فأعجم عليهم وكذلك كان من الجائز الاختلاف في القرآن، لكن لمنع الحجة السابقة من الاختلاف جاء مفصلاً شاملاً للذكر معاً قال تعالى: «ص والقرآن ذي الذكر».