هناك عادات كثيرة نمارسها في مجتمعنا وقد أصبحت لدى بعضنا من الأشياء المألوفة والاعتيادية كتعاطي القات وشُرب المداعة وشُرب الشاي والقهوة (البُن) فهي عند كثير من الناس لا تعني شيئاً سوى أنها جملة من عادات درجوا على ممارستها , فهي تقف عند هذا الحد ولا تتعداه، غير أنها في الشعر - فصيحاً وعامياً- تعني الشيء الكثير.. فلها عند الشعراء شأن آخر وما دامت وجهتنا هي الشعر الشعبي فسنعرّج على واحدٍ من مؤثرات الشعر الشعبي وهو(التُمباك).. نحن نعرف ان (شُرب المداعة) عادة متأصلة في مجتمعنا اليمني لها, عشاقها ومدمنوها.. فهناك من يفضّل شرب المداعة في الساعات التي يقضيها في تعاطي القات وهناك من يستلذ بشربها في غير هذه الساعات, أي في أوقات أخرى .. ولأن الشاي والقهوة والتُمباك والقات من المؤثرات الهامة على الشعر الشعبي فقد كانت عند بعض الشعراء وسيلة ضرورية للإبداع ولتفجير الطاقات الفكرية والصور والمعاني الشعرية الجميلة وقد أوسعوها وصفاً وتصويراً في جانبيها السلبي والايجابي.. فإذا كانت عادة مفضّلة وممتعة عند شاعرٍ ما نجدها عند شاعر آخر ممقوتة وغير مُستحبة , ولكل واحد في ذلك رؤية وقناعة خاصة تعكس ذوقه وإحساسه.. تعالوا معاً نتجوّل في حديقة غنّاء ونَضِرَةٍ نقطف منها باقات جميلة ..هذه الباقات عبارة عن مقاطع شعرية تُفصح هذه المقاطع عن واحد من مؤثرات الشعر الشعبي وهو التُمباك، ولنبدأ بما قاله الشاعر الشعبي محمد بن محمد الذهباني محذّراً شارب التمباك: يا شارب التبغ وقّفْ اسمع لصدري هُداره من أجل تدري وتعرفْ هذا المرض ماشناره وَحْذر لقولي تُخالفْ يا مولعي للشقاره للمرء هي سُمْ قاصِف للصدر تنعث حِجاره فهناك كما ذكرنا من الشعراء من وصف هذه العادة واعتبرها خطراً يتهدّد صحة الانسان ويفتك به..كما قال الشاعر عبد الصمد باكثير في إحدى قصائده: شجراً زعافاً سُمُّه لاينتهي دون انتهاب الروح والجثمان ِ عكفوا عليه يشربون دُخانه قوم من الأوباش والأعيانِ هذا لعمر أبيك عار شُرْبه شؤم أتى في آخر الأزمانِ هل عاقلٌ يرضى دخاناً منتناً يمتصّهُ من فيه كل أوانِ؟ على الرغم من معرفة الناس – سلفاً– بمضار الإدمان على هذه العادات ومن ضمنهم الشعراء الشعبيون إلا ان الشعراء كما قلنا يرون ذلك تبديداً للهموم والكدر والكُرَبْ التي تستوطن النفوس والأفئدة .. فهي تخلق لديهم نشوة يستطيعون التغلّب بها على ما يعكر صفوحياتهم من منغّصات تحول دون استمرارهم في اللهو والجذل بما يحمل ذلك من براءة النفس وطهارة القلب ..هذا الجو النفسي الرائق تختزله الأبيات التالية من الشعر الشعبي: هات القهوة وهات التُتَنْ لي يزيل عنا الكُرَبْ هذا الصديق في ذا الزمنْ ذي يبعدنا عن المحنْ تُتَنْ.. تُتَنْ .. يجلي الحزنْ يجيب لي أفراح هذا الزمنْ نعرف ان للمداعة أحجاماً مختلفة , فمنها الطويل الفارع ومنها المتوسط , ومنها الصغير الذي يُعرف في بعض المناطق بالرشبة وفي أيامنا هذه بدأت الشيشة بحجمها الصغير الأنيق وبمنظرها الجذّاب تسحب البساط علىالمداعة القديمة ولكن على رغم ما تمتاز به الشيشة من شكل مختصر ..إلا ان شكل المداعة القديمة وهي منتصبة في الديوان بشموخ وكبرياء يظل المنظر المنقوش في الذاكرة الشعبية , فهي تُضفي على المكان جواً من الجلال والوقار.. وعلى الرغم من كثرة متطلباتها والتي يضيق بها غير«المولعي» إلا ان لذّتها كما يقول الموالعة تكمن في هذا التعب الجميل ..تعالوا نرى كيف وصفها الشاعر الشعبي محسن علي بريك وصفاً بديعاً بدت فيه وكأنها حسناء فاتنة تُحيط بها الأعين وتحاصرها بنظرات الإعجاب والافتتان, إذ يقول: ما أحلى المداعة كالعروسة تمامْ يلتف جماعة حولها في انسجامْ يبادلوها نظرات الغرامْ في كل نظرة نحوها اهتمامْ حلوة قَرْقَرَتْها كهديل الحمامْ الكل نشوانٌ يستطيب الكلامْ وهكذا فإن الحديث عن المداعة باعتبارها جزءاً هاماً من الثقافة الشعبية سيأخذنا إلى آمادٍ تتسع كلما دلفنا نحو أعتابها, ذلك انها-أي المداعة-عشيقة وفاتنة الكثيرين, وتحظى بعناية واهتمام الناس, وفي كل منطقة من مناطق اليمن يأخذ هذا الاهتمام أكثر من شكل وأكثر من صورة..لدرجة ان بعض الناس يفضّلون الاصطباح بها في وقت مُبكّر جداً من صباح كل يوم ..كما كان الحال عند الحاج ((مصطفى المقرمي)) رحمة الله عليه.. فقد كان يصحو باكراً وقبل كل شيء يقوم ((بتبديل)) وتهيئة المداعة قبل الشروع في أي شيء آخر. [email protected]