اليمن حاضرة البحر، ومنتهى الحضارة الإنسانية، وقطب دائرة الجزيرة العربية، ولدت قبل غيرها، ما الحجاز وأمثالها، شيء يقارن بها، منها وإليها مبتدأ الحضارات، وتنوع الألسن واللهجات، لم تكن غائبة يوماً عن روح الأنبياء والمرسلين، ولا نائية عن وحي رب العالمين. إن ماحيك ضد لغة الجنوب ليس بالهين، مثل خروجاً كخروج البنت عن أمها، وتبرؤ الولد من نسب أبيه، خضع ذلك للظروف السياسية البحتة، وتدخل الثأر والانحياز، والمركز المرموق، والظروف الاقتصادية لم تكن بمنأى عن ذلك كله. اهتم بعض الباحثين قديماً وحديثاً بتتبع بعض الألفاظ اليمنية في القرآن الكريم، وأورد بعضاً منها قد لا يتجاوز الثلاثمائة لفظ ذكرها المفسرون. إن هذا التعامي عن منهجية اللسان الأم هو ما عزل بيئة الجنوب عن بيئة الشمال نهائياً، بل دفع التعصب الأعمى بعضهم إلى الاعتقاد بأن حروف اللغة الجنوبية لا تمت بصلة إلى حروف اللغة الشمالية «لغة القرآن في اعتقادهم». كل من حاول الاقتراب إلى بيئة الجنوب، ودراسة بعض إن لم نقل معظمها، كما يفعل الزعماء وأرباب السياسة في كل عصر وزمان، التهم الجاهزة، والأساليب القمعية المميزة، والأدعياء الأوصياء من أهل البادية الأميين، كل ذلك تحت رداء وغطاء ديني مسيس. لعله لا يخفى على أحد ما واجهه العلماء الذين انحازوا إلى دراسة الحرف الجنوبي، وإن كان في اعتقادهم مصطلح اللهجات شائعاً، لا يخفى ما تعرض له ابن دريد حين ألف ولوى عنان همته وأطلق سرج حصانه، نحو اللغة الجنوبية، لفقت حوله الأكاذيب، وطويت وبسطت له الأحابيل، لم يسلم دينه ولا نسبه، ولا علمه، ولا أمانته، اتهم بالخبل، وارتكاب المحرمات مثل شرب النبيذ، وأحرقت كتبه، وما كتب عن لغة اليمن خاصة تحت ذريعة واهية هي الجنون والخبل، إذ قاده إلى إحراق مكتبته، كما فعل بأخيه الجاحظ من قبل. ولم يسلم من الملاسنة؛ إذ كتب عنه النحوي المشهور نفطويه: ابن دريد بقرة وفيه عين وترة ويدّعي من جهله وضع كتاب الجمهرة وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره نعم تهمة السطو على حقوق الآخرين، ونهب ممتلكاتهم الفكرية، ومصادرة أفكارهم وآرائهم الخاصة والعامة، إنه ابن دريد الذي سطا على كتاب العين للإمام الشهير الخليل بن أحمد الفراهيدي، ونسبه إليه بعد تعديل وتغيير مسماه «الجمهرة» وهما في اللغة معجمان. ضاعت جهود ابن دريد، وضاعت كل اهتماماته سدى، تحت غبار العصبية والسياسة، وهي معتقدات قطعت حبال المودة بين ذوي الأرحام جميعاً. لا أبالغ إن قلت: إن القرآن ثلاثة أرباعه لغة اليمن، ولغة الشمال هي اللغة المتشظية في أثناء القرآن، كيف لا وهي رحلة الشتاء والصيف، ومهبط الوحي على أنبياء الله ومولد إبراهيم الخليل، ونحن في صدد ما يكشفه الحرف واللسان عن لغة اليمن ولسانه لاحقاً إن شاء الله تعالى...