(لا تقفين كثيراً على الأطلال خاصة إذا كانت الخفافيش قد سكنتها والأشباح عرفت طريقها .. وابحثي عن صوت عصفورً .. يتسلل وراء الأفق مع ضوء صباح جديد).. كانت آخر عبارة لفظتها لي.. وأنا مسندةً بجانب النافذة أتأمل إلى الخارج.. ولم أدرك بشيء غير سماعي لتلك وهي تلفظها بصوت شاحب منسحب .. كأن الكلمات تتنازع من بلعومها. كنتُ على يقين أن حديثها النصوح لن يغيب عني غير مدركة أن روحها ستذهب بعيدة وتتركني للخلاء غير مشيدةً لأحكام أحد . لكن حركة شفاهها وحركة لسانها لم تغب عني قط . فبقيت هي الأخرى التي تذكرني بها وبحديثها الحكيم. وبعدها كنت أحبس نفسي في البيت وأغلق ستائر كافة النوافذ كي لا أرى ضوء الشمس .. واخفت صوتي وأنكمش حول نفسي متوترةً ويداي تلف جسدي كاملاً .. وبقيت فترة بظلمة هالكة بالبيت لم أغتسل ولم أقم بتبديل ملابسي ولم أمشط شعري الناعم فبدوت كغجرية حسناء مبعثرة. طالت بي الفترة وأنا على حالي بينما ضاق صدري احتضنت جسدي وسألت نفسي مستغربة عن سر توتري المفعم بالاكتئاب والوحدة ، وقلت : كانت تنصحني كثيراً بأن لا التف حول نفسي ؟! سكت قليلاً فلم أدرك ما أقول واصطدمت عيناي بفراشها .. ثم أردفت : أنها متفائلة رغم إعاقتها وسحبت بنظري إلى أنحاء الغرفة وجلست مبهورة أتأمل بغير تصديق ، ثم قلتُ : لماذا نسيت نصائحها لي ، كانت تحبني كثيراً ، كانت على يقين بحالي بعد رحيلها فأمرتني بآخر نصيحة (ابحثي عن عصفور يتسلل وراء الأفق مع ضوء صباح جديد). ابتسمتُ وراودتني قهقهة بعدها.. رميتُ بالغطاء بعيداً وقلتُ : رحلت ، لكن نصائحك لن ترحل. تأنقتُ .. ولبستُ مجوهراتي ووضعت قليلا من أحمر الشفاه.. وقفت برهة أمام المرآة . أتأمل نفسي. - ( هل هذه أنا ) .. ومسحت بيدي على خدي ثم وجهي كاملاً .. ، و عاودت النظر للمرآة .. ( هل هذه أنا حقاً ) ، بقيت امسح بنظري لجسدي بالمرآة ، فقلت : ( ما دهاكِ يا فتاة هل جننتِ ) ، رميتُ بالمرآة على الأرض . فإذا بي أرى نفسي بين شظايا المرآة المنكسرة , مبعثرة من جديد. اقتفيت وشرعت أبحث عن مرآة جديدة. - ها قد وجدتها .. أقفلت أزرار قميصي ومررت بيدي خفيفاً بشعري .. ثم عاودت النظر للمرآة . ( ياااااه , كم أنا جميلة ) ثم خالط فرحي شجاعة أخذت أتمتم عبارة لها : ( لا تحزني على الأمس فهو لن يعود ، ولا تأسفي على اليوم فهو راحل ، ولكن أعملي للغد فهو شمس مضيئة). وكنت أفكر فرميت بالمرآة ثانية ولم أعاود أخذها .. ورحت متفائلة ، أهبط من درج البيت نازلة عن سطح الحزن الشاحب إلى المصباح الجديد.