إن التاريخ هو سجل البشر الحافل بأعمالهم عبر امتداده الزمني منذ ظهور الكتابة – بأي نوع – عبر الحضارات المتعاقبة منذ ذلك الزمن السحيق . والتاريخ يكاد أن يكون هو الإنسان نفسه ، كما يقول الأستاذ /عبدالله البردوني :” كما أن الإنسان صانع التاريخ فإنه مادة صناعته لأن التاريخ معرض أعمال البشر حميدها و ذميمها ، فالإنسان هو التاريخ عارضاً ومعروضاً كاتباً ومكتوباً عنه متطوراً مع التاريخ بمقدار تطور التاريخ به” وهذا التاريخ المدوَّن قام بتدوينه القاهرون على أعدائهم سواء في لحظة الحدث أو بعد ذلك . فهل كان هذا التدوين حقيقياً ؟! مطابقاً لما حدث فعلاُ ؟! قد نتفق أنه ليس تماماً ، وإن فيه من الأحداث الشيء الكثير، لكن الصورة ليست مكتملة وما وصل إلينا من امتداد القرون المتعاقبة إلا ما أفلت من تحت يدي الأيام من توثيق من جهة استطاعت أن توثق بل وساعدتها الظروف العديدة في بقاء هذا التوثيق حاضراً عبر العصور ... لكن هذا ليس كل شيء فما كتبه المؤرخون لا يكاد يتعدى التاريخ السياسي للأحداث وما يدور حول الطبقة الحاكمة غير ملتفتين إلى طبقات الشعب المختلفة ، ولو دونوا شيئا عن هؤلاء الأخيرين فلن يكون إلا هامشيا على متن التاريخ السياسي .. يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت صاحب “قصة الحضارة” ملخصا الحضارة :” هي نهر ذو ضفتين يمتلئ أحيانا بدماء الناس الذين يقتلون ويسرقون ويصيحون ويفعلون أشياء يسجلها المؤرخون عادة. ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا لا يحس بهم أحد وهم يبنون البيوت، ويمارسون الحب والجنس، ويربون الأطفال، ويتغنون بالأغاني، وينظمون الشعر، بل ينحتون التماثيل. وقصة الحضارة هي قصة ما حدث على الضفتين. ولكن المؤرخين متشائمون، لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر”. مشكلتنا مع التاريخ في عالمنا العربي -الإسلامي مشاكلنا مع التاريخ متعددة ، تبدأ من عدم قراءتنا لهذا التاريخ إلا بعين واحدة متفردة دون النظر إليه من جوانب متعددة ضمن التاريخي الإنساني الكبير ؛لأن تجربتنا الحياتية لا تنفصل عن التجربة الإنسانية الكبيرة .. وكذلك في التعامل مع تاريخنا الذي قسمنا ما بين ( مقدِّس) و( ناقد) لهذا التاريخ بكل حيثياته وهناك منْ يحاول تلمّس طريقه وسط زخم هذا التاريخ الذي شق حقبة ألف وأربعمائة عام من جسد التاريخ الإنساني، ووصل (تراث) هذا التاريخ إلينا دون أدنى (غربلة) تُذكر، لكن كتب وروايات ونصوص امتلأت بها المكتبة الإسلامية .. فأدى التعامل ال ( مقدِّس) للتاريخ إلى اختلاط الإرث التاريخي بالديني ، فتعددت الأمة فرقا وجماعات كلٌ يغرف من هذا الإرث ما يدعم حجته ويفنّد حجج الآخرين ؟! فكان من نتاج هذا التقديس أن “ يأخذ أموات الماضي برقاب أحياء الحاضر “ ، وننكفئ في ماضوية مقيتة تجتر أحداث الماضي كل يوم دون أن تضيف للإرث الإنساني أي شيء .. أما التعامل الناقد- للنقد فقط - فقد أدى إلى التفلّت من كل جذر وهوية لنا، والبحث عن هويات أخرى لتغطية هذا الفراغ ! ونوع عجيب من التعامل ذلك الذي ينظر إلى تاريخنا كأنه مجرد بطولات يستمتع بها على طريقة سرد الحكاية في ألف ليلة وليلة ! كما يقول نزار قباني: شرقُنا, الباحثُ عن كلِّ بطولةْ.. في أبي زيد الهلالي.. .. هذه البطولات التي يريد أن يستحضرها في كل موقف حاضر دون أدنى كيفية لوجودها في حاضر الأمة المتردي.. الوعي بالتاريخ .. إن الوعي بالتاريخ هو الوعي بالذات نفسها ، والوعي بالحاضر المعاش ، كما يقول فرناند بروديل:” نظرتنا للتاريخ تعبر دوما عن توتراتنا في الحاضر وتوقعاتنا للمستقبل” يقول د محمد عمارة :” إن قراءة التاريخ تضيف إلى القارئين أعمار السابقين ، أما الوعي بالتاريخ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع واستشراف المستقبل، فيصبح هذا الوعي اسهاماً في صناعة التاريخ “ ذلك أن ما يكتبه المؤرخون في كل العصور عن ذلك الحدث هو (قراءتهم) لذلك الحدث ضمن تأثير ظروف عصرهم الذي يعيشون فيه لتأتي قراءتهم (عصرية) للحدث، طبعا لن يغيروا من وضعية الأحداث التي تمت ،لكن يربطوها بواقعهم المعاش متجاوزين كل مشكلات الحاضر بذخيرة الخبرة المكتسبة من التاريخ عن تلك المشاكل نفسها “ لأن التاريخ يحمل في داخله نوعا من الإنذار المبكر لمنْ يعرفون كيف ينصتوا إليه أو يحسنون قراءته”.. إن هذه القراءة /الكتابة أو لنسمها إعادة قراءة للتاريخ - تساعد المؤرخ لوضع الحاضر في مكانه الصحيح ذلك أن التاريخ يوسع مدى إدراكنا للعملية التاريخية فمعرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر فالتاريخ حوار بين الحاضر والماضي.. فتصبح درجة التقدم في علم التاريخ ونضجه “ إنما تعبر عن درجة نضج الحاضر أكثر مما تعبر عن درجة عظمة الماضي “.