كثيراً ما نتساءل منْ هو الإرهابي ؟ جاء في تعريف الإرهاب أنه “ الاعتداء المنظم من فرد أو جماعة أو دولة على النفوس البشرية، أو الأموال العامة أو الخاصة بالترويع والإيذاء والإفساد من غير وجه حق.. فالإرهابي إذن منْ يقوم بهذه الأفعال ولا شك، لكن هل يكفي هذا لتحديد هوية الإرهابي ؟ في اعتقادي أن هذه الأفعال الإجرامية هي نتائج لفكر، وليست أفعال جاءت هكذا بمحض الصدفة، أو لمجرد التنفيس عن النفس من قبل شخصية مريضة تنتقم من المجتمع في شكل فردي أو جماعي ، فالذي يقوم بهكذا أعمال يكون شخصاً “مبرمجاً” أو عقله محشوٌ بأفكار انتقامية تراكمت لفترة طويلة، فتطورت من مرحلة رد فعل أو استجابة لموقف سلبي تعرض له إلى مبادرات لاعقلانية تدميرية هدفها تدمير المعبد بمنْ حوى! فالأحرى البحث بعمق في بنية المجتمع المعاصر، في نسيجه الاجتماعي وموروثاته وثقافته وكل ما يتعلق به لنعرف من أي بيئة ينبت مثل هذا الفكر التدميري، حتى نستطيع مجابهته ومقاومته أو التقليل من ضرره في أضعف الأحوال... منْ نلوم ؟ إن أول جهة نلقي عليها اللوم في صناعة هذا الفكر دائماً هي جهات التعليم الديني، فهل هذا صحيح ؟ القضية ليست في نوعية التعليم، إنما في أساليب التعليم التي ننتهجها سواء الديني منها وغير الديني؛ فأساليب التلقين والحشو، أساليب تجعل من المتعلم مجرد “علبة” تجميع للأفكار القادمة إليه دون أدنى تمحيص أو مراجعة، لأنه لم يشارك في الحصول على تلك الأفكار بل جاءته على طبق من “كسل”! فلو قارنا بين هذه الطريقة وطريقة البحث والتنقيب عن الأفكار والتجريبية التي تضع الأفكار تحت مشرط المراجعة والتدقيق لاتضح البون الشاسع بين العقليتين الناتجتين؛ فعقلية التلقين عقلية نقلية تمتاز - كما يقول د خالص جلبي - بثلاث صفات: (تمرير الأفكار) بدون مناقشة و(تكرارها) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت! في حين عقلية البحث والتنقيب عقلية نقدية “تحوّل العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على (تنقية وغربلة) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على (تأمل) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ…” ويزداد الطين بله عندما تكون مادة التلقي مادة مقدسة، ليس لدى المتلقي إلا أن يتعامل معها كما أراد معلموه إفهامه! فيصبح النص المقدس أداة تُسيّر المتلقي الذي تم إفهامه أن ما يقوم به هو تأويل ذلك النص، إضافة إلى جعل هذا التأويل يحمل نفس قداسة النص الأصلي! خصوصاً أن كل التراث “المهول” الذي ورثناه من القرون الغابرة - بكل ما فيه من نصوص وروايات- ألقي على ظهورنا دفعة واحده بغثه وسمينه ،وزاد وعّاظ السلاطين - من جوقة الفقهاء المتزلفين للسلطان - في تجميل القبيح وتقبيح الحسن، فزادوا التراث التباساً حتى تماهى وتماهت عقولنا.... إن نظم التعليم العربية هي المسؤولة الأولى عن صناعة هذا الإرهاب الذي تعاني منه دولنا، لأن هذه النظم بتقاعسها عن القيام بواجبها المنوط بها فتحت المجال لكل جماعة أو تيار آخر ليقوم بهذا الدور في تلقين الناشئة كيفما شاء وغرس المفاهيم التي يراها مناسبة من خلال مدارس لا رقيب عليها تُدرّس النص المقدس وتأوّله على الوجه الذي تريده .. فالمستوى التعليمي والتثقيفي يلعب دوراً كبيراً في تشكيل الآراء، فقد وجدتُ أغلب من لهم آراء “متطرفة” من ذوي المستويات التعليمية المنخفضة أو بدون تعليم من أساسه! أضف إلى ذلك تردي الأحوال الاقتصادية والسياسية في مجتمعاتنا العربية في ظل اهتمام النخب بقضايا بعيدة عن الهموم المعاشة أو التصارع السياسي الذي يجعل الجميع ينصرف عن الهم الأساسي إلى هموم أخرى محصورة في المماحكات السياسية الدائرة! وهنا تأتي مسؤولية الأحزاب السياسية التي من واجبها تثقيف المواطن بحقوقه وواجباته ودفعه لإقامة دولة تكون السياج الحصين الذي يحمي الكل ،لكن أحزابنا تخلت عن هذه المهمة تحت هم المطالب والأطماع السياسية القريبة منها والبعيدة ،فكان أن ملأت هذا الفراغ الحاصل تيارات متعددة المسميات والشعارات جعلت من ثقافة التسطيح مطيتها لتغزو عقول الناشئة بعد أن قرّبت وزينت لها الآخرة ونعيمها من خلال خطابها “المورفيني” الذي لاقى هوى في النفس عند أناس كسالى لا همة لهم في بناء الدنيا ويريدون أن ينالوا الحظ الأوفر في الآخرة! لذا أقول إن الإرهابي اليوم ليس من يفجّر ويدمر ويقتل فقط، بل أيضا هو كل منْ يغرقنا في الغيبيات حتى نغيب بوعينا عن هذه الحياة الدنيا ! وهو كذلك كل منْ لا يقدّم مشروع للحياة وللناس بكل تنوعاتهم... والله أعلم ..