للهوامش سطوة على المتن، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم، والذاهبة إلى التحديد وإثبات الحق والمرجع، فيصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن وإكمال صورته، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم، فإن وجدت فيها ما تبتغيه، وإلا فدعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. أحمد قاسم فنان الأداء الصعب إن أول ما يدهشك في تجربة الفنان الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم، هو ذلك الأداء الأوبرالي الباذخ، والهيمنة العميقة على تقنيات العزف على آلة العود، سمات عُرف بها هذا الموسيقار العدني الفذ منذ نشأته الفنية الأولى، ففي الوقت الذي كان الكثير من روّاد الأغنية العدنية ينزعون نحو الاعتماد على الثقافة المحلية واستلهام طبيعة المكان وشاعريته وفلسفته الحميمة، كان الفتى أحمد بن احمد قاسم قد تشبعت روحه بطغيان روح المكان على ذاته الشفيفة، فشكلت منه خميرة طينية طيعة تبحث عن نحات ماهر يعيد تكوينها ورسمها بنفس فني أخاذ، فكانت وجهته إلى مصر الكنانة، في زمن العطاء العروبي والريادة الفنية لعمالقة الأغنية العربية بمصر – زمنئذ – موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، الموسيقار الكبير فريد الأطرش، العباقرة السنباطي، كارم محمود، محمد فوزي، سيدة الغناء العربي الدائمة أم كلثوم، عندليب الفن العربي عبدالحليم حافظ، هذه الأجواء وتلك الكواكب الفنية وغيرها كانت الأكاديمية التي رغب فيها فناننا الكبير ليجعلها تحديه المباشر واحتكاكه اليومي لصقل موهبته وتشكيلها بملامح فريدة وخاصة، فقد كان يدرك مدى تأثير هذه المدرسة الفنية وسطوة إيقاعاتها وكنهها اللحني، إلا أنه وهو يرتقي سلم المجد الفني في مدينته الأثيرة عدن كان يعمد إلى تعميق تجربته المحلية ورفدها بينابيع صافية من نهر الأغنية العربية الجاري في دماء الأمة العربية من الماء وإلى الماء. فنان الرؤية الواضحة: لقد كانت رحلة الفن القاهرية للفنان الكبير الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم خطوة تغياها بوعيه العميق ورؤيته الثاقبة في سياق محاولاته اكتشاف دواخله الفنية العامرة بعشق لا حد له، وإيمان برسالته الإنسانية النبيلة الخالدة، فالنبوغ الفني المبكر والموهبة الأصيلة لدى هذا المبدع الكبير كانت أدواته الأولى لاكتشاف هويته الفنية التي يحاول الإمساك بها وتوجيهها وفق قناعاته التي يحملها والرؤى الفنية التي يشكلها وفق ذهابه التأصيلي لتجربته الفنية، ولم يكن صعباً التقاطه لحقيقة هذه الذات الفنية والذهاب بها إلى مرافئ الفن السامي، وهو ما جعله يندمج في الوسط الفني القاهري في مطلع ستينيات القرن الماضي ويتعايش معه في مجالات الفن جميعها، وما ريادته الفنية السينمائية (حبي في القاهرة) - حتى اللحظة - إلا دليل على اعتداده الكبير بما لديه من ملكات فنية وما تحمله روحه الرقيقة من توثب دائم لخوض تجارب المجهول الفني بوصف الفنون جنون الرغبة في اكتشاف الآخر المجهول، ونحن هنا لسنا بصدد تقويم هذه التجربة التحدي التي حاولها الموسيقار ابن قاسم ولكننا آثرنا السير في تأملات عجلى لمسيرة التجربة الفنية الثرية للفنان الكبير وقد غادرتنا ذكرى رحيله السابعة عشرة ولم ينل حقه - علينا - من اكتشاف مواطن الخلود الفني لتجربة مازالت تحمل عبق القادم الغنائي وألق الجديد، كونها، تجربة تجاوزت خصوصيتها المحلية لتصنع خصوصيتها العربية بقوة حضور في المشهد الغنائي حتى لحظة الرحيل، ومابرحت روائعه الغنائية لكبار الشعراء (أمان، جرادة، بركات، خضر، لقمان) وغيرهم من شعراء العربية، تضعنا أمام طاقات فنية وفضاءات لحنية واسعة لم تُكْتشف بعد، ولم تبلغها أغنيتنا المحلية، ولن تبلغها في المدى المنظور. فنان الزمن الآتي: في ظل الانحدار السحيق الذي تهوي إليه الأغنية المحلية، خاصة، والعربية، عامة، لا يستطيع المرء التغافل عن أهمية التراث الفني الذي عرفته تجربة هذا الفنان الكبير وزمنه العبقري وصحبه العمالقة الكبار، وتبقى خصوصية موسيقارنا الرائع تكمن في انفتاح تجربته الغنائية - كلمات، ولحناً - على المحيط العربي وقدرة - هذه التجربة - على احتراق الحجب التي كثفتها أدخنة الغثاء الفني الراهن، إذا ما أعيد تصديرها بقوة ومثابرة عبر الأجهزة الإعلامية في بلادنا، خاصة، الفضائية، وفق رؤية تعيد تشذيب وتهذيب الذوق العام المحلي أولاً وتستهدف التأثير في المحيط الإقليمي في سياق البقاء على ذاكرة الفن الحقيقي والرائق متقدة في محيطها العربي الكبير، مصحوبة ببرامج حوارية فنية وثقافية تفتح مغاليق ما غمض في هذه التجارب الغنائية الثرية والباذخة، فهل من مجيب؟ وكفى!.