بين آونة وأخرى تطفو على السطح قضية من قضايا الصراع بين قطاعات من المسلمين من جهة والفكر الإسلامي من جهة أخرى، لتؤكد الحقيقة التي يحاول شيوخ المذاهب إخفاءها أو التقليل من شأنها طوال الوقت، ألا وهي حقيقة أن الفكر الإسلامي (وليس الدين الإسلامي) يعاني أزمة حقيقية في العصر الحديث، تتبدّى هذه الأزمة في قضايا الفنون والحريّات والحقوق، وقضايا المرأة على وجه التحديد، فقد ظلّت قطاعات كبيرة من المسلمين تعتقد أن موقف الفقه الإسلامي من هذه القضايا غير لائق وغير مقبول، ولابد من إعادة النظر فيه بما يتفق مع المقاصد الشرعية نفسها من ناحية، وبما يلبّي حاجات المسلمين في عصرهم الحديث من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي لم يستوعبه شيوخ المذاهب حتى هذه اللحظة، وفضّلوا اتهام هذا الصوت بالفسوق والمروق بدلاً من اتهام الفقه نفسه بالقصور والضمور، وكأن الفقه تنزيلٌ سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ومن القضايا التي أثيرت مؤخّراً في هذا السياق - على هامش الدستور الجديد - قضية دية المرأة في الفقه الإسلامي، إذ يبدو أن في اللجنة الدستورية من يرغب في إدراج الخطأ الفقهي الذي يقول بتنصيف دية المرأة ضمن الدستور، أقول: “الخطأ الفقهي” على الرغم من أنه كاد أن يكون من المُجمع عليه بين شيوخ المذاهب في التاريخ الإسلامي كلّه، لكن هذا الإجماع المزعوم لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، وهي ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يجمع فيها الشيوخ على خطأ ما، أو يزعمون له الإجماع، ثم يتبيّن أنه خطأ محض، وما قصة النسخ في القرآن عنّا ببعيدة، فهاهم بعض شيوخ المذاهب المعاصرين يراجعون هذه المسألة ويفندونها تفنيداً علمياً دقيقاً على الرغم من أنها حصلت على إجماع تاريخي يفوق إجماعهم على حجية الحديث نفسه..!!. وعلى الرغم من أن كاتب هذه السطور لا يؤمن أصلاً بنظرية الفتوى والمذهب الجمعي، ويعتقد اعتقاداً راسخاً أن المذاهب في الإسلام فردية لا جماعية، تحقيقاً لقوله تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» مما فصّله في مقالات سابقة؛ إلا أن واجب اللحظة يقتضي الإسهام في مناصرة قضايا المجتمع التي جنى عليها الفقه الإسلامي لسبب من الأسباب، وذلك بمحاولة الكشف عن هشاشة الرأي الفقهي الخاطئ، حتى بالنسبة إلى القواعد الأصولية المعتبرة لدى شيوخ المذاهب أنفسهم، لكي يدرك الطرف المتعصّب للفقه أن القضية – في أدنى حالاتها – من قضايا الاجتهاد التي يسوغ فيها الاختلاف، وليست مسألة قطعية لا مجال فيها لرأي، فما حقيقة تنصيف دية المرأة عند الشيوخ، وما مبرّرات المذهبيين فيها، وإلى أي مدى يمكن أن تصمد أمام النقد والسبر..؟! هذا ما سنحاول الإجابة عنه - على عجل - في السطور القادمة: يقول الشيوخ إن الشريعة الإسلامية تعطي المرأة نصف دية الرجل فقط، ويفسرون ذلك بقولهم إن المرأة لما كانت ناقصة - كما هو حال العبيد أيضاً – فقد راعت الشريعة هذا النقص في عدد من الأحكام منها هذا الحكم، ثم اختلفوا بعد ذلك في طبيعة هذا النقص الذي طال المرأة، فقال الحنفية إنه نقص “مالكية” لا نقص ذات، في حين رأى آخرون أنه نقص ذاتي في طبيعة تكوينها، والمقصود بنقص “المالكية” نقص في القدرة على التصرُّف في نفسها، ونقص في القدرة على الكسب المادي والإنفاق، وحين تسألهم عن براهين هذا النقص الذي أدّى إلى تنصيف ديّتها، يقدّم شيوخ المذاهب دليلين على دعوى تنصيف الشريعة لدية المرأة هما: دليل الإجماع، ودليل القياس على تنصيف شهادتها وتنصيف ميراثها، فما قيمة ذلك من الناحية الفقهية يا ترى..؟! هذا ما ستخبرنا به السطور القادمة. 1 - دليل الإجماع: يقول الشيوخ إن الصحابة قد أجمعوا على تنصيف دية المرأة، ولم ينقل عنهم مخالف في هذه المسألة، وما أجمع عليه الصحابة فهو شرع، ونرد على هذا الرأي في النقاط الآتية: أ – أين هو الدليل القطعي المتفق عليه الذي يجعل إجماع فئة من الناس شرعاً متبعاً، وهل مازلتم متمسكين بدليل الشافعي الذي فنّده بعض الشافعية أنفسهم..؟!، وإذا كان دليل الشافعي الضعيف غير متفق عليه بين الشيوخ أنفسهم؛ فكيف تقولون بحجية الإجماع مع أن الفقهاء لم يجمعوا على صحة الدليل..؟!. كان دليل الشافعي على حجية الإجماع هو قوله تعالى: «ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى» وزعم أن المقصود ب “سبيل المؤمنين” الإجماع..!!. وقد ردّ عليه جماعة من الشافعية بالقول إن سبيل المؤمنين هو نقيض سبيل الكفر، ولا صلة للآية بمسألة الإجماع، ومن الواضح جداً أن الشافعي قد اعتسف الدليل اعتسافاً، وهي ليست الحالة الوحيدة بالطبع، فقد فعلها الرجل في حالات عديدة لا مجال لسردها هنا، ومع ذلك فإن الإجماع قد نقض نفسه بنفسه عندما لم يجمع الشيوخ على حجيته ولم يجمعوا على أية مسألة من مسائله التفصيلية، مما جعله مجرد خرافة علمية لا قيمة لها..!!. ب – زعموا إجماع الصحابة في المسألة، بدليل عدم ورود من ينكر ذلك منهم، مع علمهم أن إثبات وقوع الإجماع على مسألة في جيل من الأجيال يدخل في باب المستحيل، وهذا ما نصّ عليه ابن حنبل وغيره، فليس لدينا مضبطة تحمل توقيعات جميع الصحابة في هذه المسألة ولا في غيرها، ولم يستقص أحد منهم في حينه آراء الصحابة جميعاً ثم يدونها بشهادته، فمن أين لهم أن الصحابة قد أجمعوا على تنصيف دية المرأة..؟!. وإذا سلّمنا جدلاً أن هذا الإجماع قد وقع فمن أين لهم أنه لأسباب دينية لا لأسباب تاريخية..؟!. وأعني بالأسباب التاريخية ما أشار إليه بعض الحنفية من كون المرأة – في ذلك الزمان – ناقصة المالكية كالعبد، أي ناقصة القدرة على التصرُّف في نفسها لأسباب ثقافية خاصة بذلك الجيل، وناقصة القدرة على الكسب المادي والإنفاق، كذلك لأسباب خاصة بثقافة تلك الأجيال، وهو ما ندعوه ب«الإجماع المدني» أي إجماع جيل ما على مسألة ثقافية أو ضرورة اجتماعية لا تعلق لها بالدين، كإجماع أهل الدنيا اليوم على ضرورة وجود دولة ترعى مصالح الناس وتحميهم من دون الحاجة إلى نص ديني..!!. ج – أما السؤال الكبير فهو: هل يجوز من الناحية الدينية القول إن ما أجمع عليه الصحابة فهو شرع ودين، وما هو الشرك إذن إن لم يكن هذا..؟!. إن إجماع الصحابة المزعوم هذا إما أنه إجماع على نص قطعي، وفي هذه الحالة فإن النص يغني عن إجماعهم، وإما أنه إجماع على رأي ظنّي، وفي هذه الحالة فإنه سيكون اجتهاداً خاصاً بجيل من الأجيال لا يلغي اجتهادات الأجيال الإسلامية اللاحقة، وفي كل الحالات فإن ما ينتجه الناس من آراء – سواء بالإجماع أم دونه – لا يجوز أن يُنسب إلى دائرة الدين والشرع، إلا إذا رغبوا في ممارسة الشرك العلني “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون”..!!. 2 - دليل القياس: يقول الشيوخ إن من القرائن الدالّة على تنصيف الشريعة لدية المرأة، تنصيفها لشهادة المرأة وميراثها بالنص القرآني، وهذا ما يسمّى ب«القياس الفقهي» ومعظم الشيوخ يعتقدون أن القياس من أدلّة الشرع، والرد على ذلك في النقاط الآتية: أولاً: هذه قضية خلافية بين شيوخ الفقه سوّدت فيها آلاف الصفحات، وكان ابن حزم يعتقد أن الفقهاء يخطئون حين يقيسون خارج النوع الواحد، معتقداً أن القياس الشرعي غير جائز إلا داخل النوع الواحد، فإذا كان النبي – مثلاً – قد أوجب الزكاة في البر؛ فإن من واجبنا أن نقيس على ذلك كل أنواع البر في كل الأزمنة، لكن لا يجوز أن نقيس على البر أنواعاً أخرى من الحبوب ونقول بوجوب الزكاة فيها، ومهما تكن القيمة المنطقية لرأي ابن حزم هنا، فإن الرجل قد لفت الانتباه إلى معنى آخر من معاني القياس، هو القياس الكلّي الذي أهمله الفقهاء لصالح القياس الجزئي، والقياس الكلّي يأخذ بعين الاعتبار الظروف والملابسات المحيطة بالقضية الجزئية المُراد قياسها، وقياس تنصيف دية المرأة على ميراثها وشهادتها خطأ من أكثر من وجه: فهو خطأ لأنه قياس جزئي يقيس مفردة على مفردة لوجود اشتراك موهوم بين المفردتين، دون اعتبار إلى الفروق الواضحة بينهما، ودون اعتبار للملابسات التاريخية والثقافية المحيطة بهما من ناحية أخرى. ثانياً: القرينة الأولى التي قدّموها في القياس نفسها فاسدة، فليس صحيحاً أن المرأة تأخذ النصف من ميراث الرجل في كل الأحوال، وقد رصد بعض المفكّرين الحالات التي ترث فيها المرأة - وفقاً لمنظومة المواريث القديمة - فوجدوها أكثر من ثلاثين حالة، فيها أربع حالات تقريباً تأخذ فيها نصف ما يأخذ الرجل، بينما تأخذ في بقية الحالات مثل الرجل أو أكثر منه..!!. مما يعني أن التنصيف ليس قيمة ثابتة كما يتصوّر الفقهاء، وإنما هي حالات مرتبطة بفلسفة التوريث نفسها التي تقوم على ثلاثة معايير: الأول: معيار القرابة من المورث. الثاني: معيار الإقبال على الحياة أو الإدبار منها، فالمقبل يأخذ أكثر من المدبر إذا تساوت درجة القرابة بينهما. الثالث: معيار الكسب والإنفاق، فالطرف الذي ينفق على الأسرة هو الرجل، ومن حقّه أن يأخذ في بعض الحالات أكثر من شقيقته القاعدة في بيتها مخدومة من الجميع، إلا إذا تغيّر الحال وأصبحت المرأة هي المنفق، فإن من حقها حينئذ أن تتساوى مع شقيقها وفقاً لمقاصد الشريعة. ثالثاً: القرينة الثانية التي قدّموها في القياس هي أيضاً فاسدة، فليس صحيحاً أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وقد أخطأ الفقهاء حين خلطوا بين الإشهاد والشهادة في قوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» فقد ظنّ جمهورهم أن المقصود بعبارة “استشهدوا” طلب الشهادة أمام القاضي؛ بينما الآية تعني طلب شاهدين على عقد المداينة، فهو إشهاد لا شهادة كما قال ابن القيّم في أعلام الموقعين، مع أن ابن القيّم نفسه ناقض نفسه بعد ذلك في نفس الكتاب وقال بتنصيف الشهادة..!!. والتنصيف في حالة الإشهاد على عقد مداينة ليس بسبب نقص ذاتي في طبيعة المرأة بل بسبب نقص عابر فيها ناتج عن عدم اشتغالها بأمور التجارة والمال، مما قد يجعل ذاكرتها أضعف من الرجل في هذه الحالة، والأخذ بمقاصد الآية قد يجعل الأمر معكوساً في ما تتفوّق فيه النساء على الرجال، بحيث تصبح سيدات الأعمال أكثر أهلية للإشهاد من العاطلين عن العمل من الرجال مثلاً..!!.