قبل قرون مضت،كتب العلامة السيوطي كتاباً متشكيّاً من هذه الظاهرة، وحرّره على شكل مقامة من المقامات الأدبية؛ وأسماه:(الفارق بين المصنف والسارق)، وقد اعتبره البعض أول محاولة فقهية تحوز قصب السبق في الإشارة إلى حقوق الملكية الفكرية، ورامت التأصيل لها آنذاك، وهي حقوق– حسب هؤلاء- لم يتعرف عليها العالم الإ بعد أربعة قرون من وفاة السيوطي، أي من خلال إتفاقية برن 1886م، وهذا سبق تاريخي لا يتسانخ معرفيّاً مع مفهوم السبق في أطروحات الإعجاز أو العجازة كما في تعبير بعض الساخرين، فهو- أي هذا الأخير- ليس في حقيقته سوى سبق تفسيري لطبق اجتهادي، تم تسويقه على أنه المعنى المنزل، وهو لا يمتلك أي عصمة أو حصانة، بل لا يخلو من التهور والرطانة، والمجازفة والتكلف وانعدام الرزانة، ولا يكاد يصفو من مخرجاته سوى بضع نماذج؛ وهن للأسف في أحسن الأحوال مما يحتجن إلى إعادة النظر بالفحص والصيانة. وحتى لا يخرج بنا الحديث فيما قد يرد على الإنتاج السيوطي، وما أُحيط به من ملابسات، فإنا نروم إبعاد سَوْق الاستهلال وراء ذلك، ونؤثر عدم الإنجرار، حتى لا تنتقل لفتة السبق من التعاطي التاريخي للمسألة إلى قراءة الظرفيات وتقييم عملية الإنتاج، وبالتالي الدخول تلقائياً في قياس الإستحقاقات المترتبة على ذلك التقييم، وهو ما يشمل تمامية الإحراز للسبق المدعى كما جاء أعلاه، ولذا نعود حثيثاً إلى سياق جملة ما ابتدأناه في توصيف المحاولة السيوطية لوضع الفوارق بين العمل الإبداعي، والإجتهادي المنضبط، وبين أعمال لصوص الكلمة، وممتهني السطو، تلك الأعمال التي تنمو على هيئة النباتات المتسلقة على جذوع الأشجار وقامات الآخرين، والمتطفلة على الموائد العلمية بمسالك شتى، وأشكال متعددة، لعلّ الصنف ذا النزعة الأعرابية من أسوئها، وهو الصنف المفضوح الذي بعد أن ينتهي من تطفله ونيل مراده،لا يُتبع ذلك بلسان حاله أو مقاله إلا ببطر الحق ومقابلة الحسنات بالإساءة، فلا تراه شاكراً أو محسناً لذوي الإحسان – على الأقل- بالإشارة؛ أو العزو الإحالة؛ تاركاً بذلك سنة أهل الفضل الأكرمين، متبعاً هواه وطريق العالة المستكبرين، ممن جعلوا ما استاقوه واستقوه عضين، لكأنها من خالص إنتاجهم، وصرف جهدهم، وبنيات أفكارهم. وهذه الفعلة لعمري هي الخيانة المقرفة، ولذا رأينا السيوطي يفتتح كتابه السابق :(الفارق بين المصنف والسارق)، قائلاً بعد بسم الله الرحمن الرحيم:”(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). هل أتاك حديث الطارق؟ وما أدراك ما الطارق؟! الخائن السارق!، والمائن المارق! ... فأوسعناه براً فقابله بجفاء، وعاملنا بغدر إذ عاملناه بوفاء، وتطفل علينا في الموائد، فأنعمنا له بشيء مما لدينا من الفوائد، وأذنا لطلبتنا أن يسمحوا له بإعارة مصنفاتنا الدر الفرائد، فما كان من هذا العديم الذوق، الإ أنه نبذ الأمانة وراء ظهره وخان، وجنى ثمار غروسنا وهو فيما جناه جان، وافتض أبكار عرائسنا اللاتي لم يطمثهن إنس قبلنا ولا جان، وأغار على عدة كتب لنا أقمنا على جمعها سنين، وتتبعنا فيها الأصول القديمة، وما أنا على ذلك بضنين...الخ” أه وإذا ما تجاوزنا السيوطي في أطروحته المبكرة والمبتكرة، فإن القرون من بعده ألقت بمسالك موحشة ودروب شائكة، تجعل من جرائم السرقات العلمية والأدبية أكثر تعقيداً وخطورة، وذات مشارب وأبعاد مختلفة، خصوصاً بعد عصر الطباعة والورق أولاً، ثم في عصر المعلوماتية والحياة المدنية ثانياً، لا سيما وكثير من هذه الأعمال امتلكت أداءات احترافية مذهلة، ومهارات فنية متقنة؛ تناسبت طردياً مع التطورات المصاحبة لعصر النهضة، الذي تزامن معه عصر الطباعة والورق، إلى عصرنا في مآلاته العولمية وصيروته التكنولوجية. وفي ظل هذه التطورات وتفيؤاتها ومدياتها المختلفة، فإن الإدارة القانونية والمرجعيات التشريعية، حاولت أن تواكب هذه التطورات، وأن تكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها، فقامت بوضع حُزم من التشريعات والقوانين في أجواء حراك قانوني دائم ومتجدد وسيال، عسى أن توقع بتلك الأداءات الإحترافية العقوبات المناسبة، وتقف أمام تلك الحيل والانتحالات بالأحكام العادلة، كما حاولتْ استقراء كافة الاحتمالات والصيغ القانونية بحق من يثبت تورطه في مباشرة عمليات السطو على الجهود الفكرية، وبراءات الاختراع، وحقوق الملكيات للمنتجين،سواء للأشخاص أوالشركات. ومع كل تلك القوائم القانونية والحزم التشريعية، فإن الظاهرة لم تنته، واتخذت أوضاعاً وأشكالاً جديدة عند بعض الممارسات من ذوي الخبرة والاحتراف، وهي أعمال يحتاج المفتش أو المحقق لكشف آثار تلك الجرائم إلى الوقوف طويلاً في أحايين كثيرة في ساحة الجريمة متلمساً الخيوط وجامعاً الدلائل، بينما بقيت بعض الأعمال تلعب على المكشوف، وفي وضح النهار، ولولا تقصير الجهات المختصة، وكادرها البيروقراطي الممل، لوجدت حزمة التشريعات طريقها للتنفيذ والانتصاف لذوي الحقوق. ورغم هذه الحزم القانونية المتقدمة، تظل المواكبة القانونية للواقع قاصرة، وذلك تبعاً لتجليات القصور الذاتي للعقل البشري – حسب تشخيص الدكتور عبد الكريم بكار الذي يرى ما حاصله: أن العقل يظل في حركته متأخراً عن متطلبات الواقع، إذ العقل في أثناء عمله يرتكب أخطاء ويوجد مشكلات ولكن حركته في معالجة تلك الأخطاء والمشكلات تظل متأخرة. أوكما قال. وعلى كل هي أبعاد لا يحتمل الموضع بسطها. وإذا ما التفتنا إلى واقع المصنفات ونحينا جانباً أمراضها وعللها وحالاتها المزرية أكان من حيث الكم فضلاً عن النوع والجودة، وإذا ما خصصنا الحديث عن الكتب الدينية، هل يا ترى سلمت مطبوعاتها المعاصرة من جرائم الانتحال والسطو؟! إن الإجابة بكلا ليست بالغريب أبداً، بل إن الحقيقة المرة أن يصدق ما سبق على بعض أدعياء العلم ممن لهم نشاط في الساحة، نعم !! من أولئكم الذين لا تزال ألسنتهم على المنابر وحلقات الدروس تُسمَع منادية بخلقي الأمانة والصدق، وهم أوّل من ينتهكها بل لكأنهم أشبهوا (زوربا) الذي حكاه كازنزاكي القائل:(ليت الوصايا العشر أكثر من هذا العدد حتى انتهكها كلها)، وهذا فعلاً ما لحظته في بعض المطبوعات الدينية في الآونة الأخيرة وأبطالها ممن ينتمون إلى السلفية المتشددة، وكانت أعمالهم نماذج حيّة للسطو المفضوح الذي يتناسب مع بيئة الصحراء الفكرية التي يعيشونها، ومسالك الأعراب الجلفة، وكنت قد دونت في دراستي عن السلفية المعاصرة في اليمن فصلاً عن مهزلة التصنيف والتأليف عند الجماعة، لكن ما أفقدني صبري هنا أني لقيت أحد الإخوة مشايخ السلفية ممن أعرفهم جيداً، وهو الشيخ سعد النزيلي وتبادلنا أطراف الحديث، واستفهمته عن آخر أعماله ومشاريعه، واستوقفني مع أحد أعماله القديمة وهو عبارة عن تحقيق وتعليق لكتاب الرائد في علم الفرائض، وهو كتاب كان لنا صلة به أيام لا تنسى في التحصيل العلمي، وقدم لي نسخة من الكتاب الصادرة بتحقيقه في طبعته الثالثة، ثم أردفها بنسخة أخرى صادرة حديثاً بتحقيق وتعليق إحدى الشخصيات، ثم طلب مني النظر في العملين مبدياً رأيي، ونظرت في النسختين وانشغلت بهما إلى اليوم الثاني، وبعد المقارنة والفحص بينهما لم أستطع إيقاف القلم الذي وجدته منشداً إلى كتابة هذه الأسطر مستشهداً به على ما دوّناه أعلاه: كتاب الرائد في علم الفرائض (الرائد في علم الفرائض) كتاب ألفه الشيخ الدكتور محمد عيد الخطراوي، وهو كتاب مشهور، ذو سمعه حسنة، يُدَّرس في الجامعات والمعاهد وحلقات العلم، قام الشيخ سعد بن عبد السلام النزيلي بتخريج أحاديثه وآثاره والتعليق عليه في سنة1423ه كما هو مدون في المقدمة، وهي تعليقات- كما يظهر منها- أنها اختمرت لديه خلال تدريسه للكتاب، وتوفرت نتيجة معاناة بحثية وتوثيقية، ومن ثم بدا له ضرورة نشرها في هامش الكتاب، وتنوعت بين الآتي: أولاً: بيان صحة الأحاديث والآثار المدونة وقياس مدى صلاحيتها للاحتجاج وبناء فقه الفرائض عليها. وثانياً: إزالة مبهم أو تقييد مطلق. ثالثاً: إضافة بعض الفوائد والتنبيهات، رابعاً: مقاربة بعض الترجيحات التي تبناها المؤلف ومناقشته فيها. وقد لقيت تلك التعليقات استحساناً، وكانت موضع قبول، ومحل تقدير من الأوساط العلمية، ويلحظ ذلك من خلال مقدمة وتقريظ كل من العلامة العمراني والعلامة الأستاذ الدكتور حسن مقبولي الأهدل لهذه التعليقات، وتم نشر الكتاب بحلته الجديدة عن دار التيسير للنشر والتوزيع- صنعاء- ونفذت طبعاته الثلاث. وفي نهاية عام 2009م ظهرت طبعة جديدة للكتاب حققها وعلق عليها أحمد بن سعيد شفان الأهجري صدرت عن مكتبة الإمام الوادعي بصنعاء، وبمجرد مطالعتي تلك التعاليق ومقارنتها بتعليقات سعد النزيلي،وجدت أن هذا الأخير أحمد بن سعيد شفان الأهجري لم يتعامل مع جهد الأول سعد النزيلي بأسلوب الاقتباس أو الاستشهادات، أو حتى على الأقل لم نره يشر إلى هذه الطبعة في مقدمته فضلاً أن يذكر استفادته المباشرة منها، بل وجدته يجرف تلك التعاليق والهوامش من حرزها إلى عمله جرفاًً، وغنائمه منها نصوص مطوّلة، وتنبيهات محبرة، وإحالات توثيقية دقيقة، ولم يستطع أن يتخفّى سوى ببعض الكلمات تقديماً وتأخيراً، أو في استبدال بعض أرقام الآثار والأحاديث، بأرقام الصفحات والمجلدات، وفي أحسن أحواله أن يرجع إلى إحالات الأول- في بعض المواضع- ويعود إلى المظانّ الأصلية ليرجع إلى تعليقته بإضافة مرجع جديد، لا يبعد أن يكون غنمه أو(لطشه) من تحقيقات معلق هناك. فكان عملاً في حقيقته أشبه بوصف الأخ الأستاذ حسن آل حمادة- أحد أكثر من تعرضت جهوده للسرقة في الفترة الأخيرة- في عنونة مقال له:(لصوص لا يتقنون الغناء). والعودة إلى النسختين المذكورتين أعلاه كفيلة بضبط الثاني متلبساً بجريمته. حادثة عابرة أم جريمة منظمة؟! كنت أظن أن الحادثة عابرة لا صلة لها بإشكالات أخرى، لكن بعد أن حدثني أحد الأصدقاء أن صاحب مكتبة التيسير أخبره بقصة مفادها أن بعض طلاب وأصحاب المكاتب في معهد دماج الذي أسسه الشيخ مقبل الوادعي، وخلفه فيه الشيخ يحيى الحجوري، قدموا للتبضع من المكتبة، رفضوا شراء الكتاب المطبوع بتحقيق سعد النزيلي، نظراً لموقفهم من منهجه وانتمائه إلى تيار سلفي آخر، وفضلوا شراء النسخة الأخرى التي بدون تحقيق، وبعد أن وصلوا هناك كسدت الكميات عند أصحاب المكاتب ووجدوا أنفسهم بحاجة إلى النسخة الأخرى- أي النسخة المحققة من قبل سعد النزيلي، ليجدوا أنفسهم تحت ضغط الحرج من جماعات الضغط والمنهجيين في أن يستبدلوا النسخ بنسخ الطبعة المحققة، وهذه القصة توفر تحليلاً يؤكد مديات الخلاف السلفي الداخلي، وتشرح بواعث التحقيق الثاني للكتاب، وهو على ما يظهر كان غطاء تبرير لعملية الاطراد المنهجي في أصول المدرسة للتعامل مع كتب المخالفين وتحقيقاتهم وسائر مصنفاتهم، وهم ممن ينعتهم غلاة السلفية بكتب الحزبيين وأهل البدع والأهواء، خصوصاً وأنها تلحق المحقق والمعلق للكتاب سعد النزيلي بركب أؤلئك مع أنه من المدرسة ذاتها لكن في الجناح الذي لا يرتضيه هؤلاء، لذا رأينا من انبرى لإعادة تحقيق الكتاب من طلاب مركز دماج السلفي لئلا يكون عليهم حرج. ولست أروم هنا الدخول في تفاصيل شائكة في هذا الموضوع، فقد أتيت به على سبيل التمثيل، خصوصاً وهو حسب علمي قيد الإجراءات القانونية المعلقة في بيروقراطية الجهات المسؤولة في بلادنا، كما أنه مسلك ليس بالجديد أو الحديث، فالتاريخ يحكي اتهامات ودعاوى، ويثبت حوادث وانتهاكات، فقد أفاد ياقوت الحموي في (معجم الأدباء)أن المرزباني اللغوي محمد بن حبيب، كان ممن ينتحل كتب الناس بعد أن يسقط أسماءهم، وينسبها لنفسه-تارة بتغيير وأكثرها بدونه. وغيره الكثير.. يمكن التوثق منها في المظان المتخصصة، أما الضابط في السرقة العلمية، ومسطرة قياسه عند أهل العلم والقانونيين حديث طويل نؤثره إلى مقام آخر.. والله أعلم. الصفحات اكروبات