على غير نظام العنونة التي استجيد تأخيرها حتى الفراغ من الكتابة آثرت في هذا الأسبوع أن أقتحم على القارئ أفق التلقّي بهذا التركيب «العنوان» الذي أزعم من خلاله أن ثمة ملاحظات تهم «اليمن» دون غيرها، و «اليمن» هنا تعني الأرض التي ولد فيها التاريخ ونبعت منها الحضارات.. أقصد: اليمن التي جاءت إلى الحاضر ومعها شواهد الماضي العريق من آثار ومخطوطات ودلائل تاريخية لا تزال محط إعجاب القارئ والسامع والمشاهد. ففي بلد تاريخي مثل هذا - وهي الملاحظة الأولى - يحدث اليوم أن ينقطع تدفق معينه التاريخي بانقطاع وتيرة الدرس التاريخي الذي يؤرخ ليمن ما بعد الإسلام وإنقاذ ما تبقى من مكنوناته الأثرية والعلمية، وذلك حين تشهد الساحة اليمنية في الربع الأخير من القرن المنصرم ومطلع هذا القرن تشهد بصمت موت جهابذة التاريخ اليمني وفطاحلته الذين فزع الجميع برحيل آخرهم المؤرخ الكبير إسماعيل بن علي الأكوع الذي ووري جثمانه الثرى قبل أيام قلائل. هكذا إذن يموت المؤرخون، وقد مات بالأمس القريب المؤرخ الكبير محمد بن علي الأكوع محقق التراث اليمني وكذا المؤرخ الشماحي والجرافي والحداد والإرياني والفرح وغيرهم بدون أن تنفرج الساحة اليمنية عن جيل جديد من المؤرخين الذين سيكملون - عن جدارة - ما تبقى من خطوات السير نحو حماية التاريخ اليمني وقيمه الحضارية وحراسة مكنوناته الأثرية من مخطوطات وآثار ونقوش مسندية وشواهد أثرية. إن المصاب جلل وعظيم ونحن نبصر فارساً من فرسان تاريخنا اليمني يترجّل عن هذه الدنيا، ورحالة معاصراً طاف مدن اليمن وقراها ووديانها وهو يوثق المعالم الأثرية والمدارس التاريخية ويتأمل في أحوالها، وظل حتى وفاته حارساً أميناً للتراث اليمني ومخطوطاته، وهو الذي كان قد جمعها بعد شتات وأحياها بعد خراب، وظل هذا شغله الشاغل - وأكرم به من عمل - إلى أن وافته المنية. ذلكم هو المؤرخ الكبير إسماعيل الأكوع الذي تفصح مسيرته العلمية عن دروس حية وأنموذج راقٍ للإنسان المخلص في حب وطنه والمعتز بتراثه وماضيه المشرق، وهذا الحب هو الذي أجبره على أن يمضي في تأليف موسوعته التاريخية «هجر العلم ومعاقله في اليمن» أكثر من عشرين عاماً. إنها سيرة شيخ كبير خلق من ضعف الشيخوخة فتوة علمية ونهماً زائداً للقراءة ومطالعة المظان حتى آخر نفس من الحياة، بل إننا قد وجدنا في مؤلفات هذا المؤرخ اللغة العذبة والأسلوب السهل والمعلومة الصحيحة الموثّقة وفق منهج تاريخي قلّ أن نجده عند أضرابه من المؤرخين، وللعلم فإن هذا المنهج الدقيق بحواشيه المفيدة هو نفسه الذي انتهجه أخوه المؤرخ الكبير محمد بن علي الأكوع. - رحمهما الله - في جميع مؤلفاته ومحققاته ليصبح اليوم ما أنتجه هذان المؤرخان بمثابة دُرر ثمينة تقع في واجهة المكتبة اليمنية التاريخية وهي جديرة بأن تصنف اليوم في إطار مدرسة تاريخية مستقلة اصطلحُ على تسميتها ب «مدرسة الأكوع في التاريخ والتحقيق» وهي دعوة للباحثين والدارسين والكتاب بأن تكون مؤلفات هذه المدرسة خير ما يحتاج إلى دراسة وقراءة، كما أنها دعوة أخرى نكرر إسماعها وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب - بعد أن سبقنا إليها الدكتور عبدالولي الشميري - بأن تعملا في طباعة وإخراج كل ما أنتجته هذه المدرسة التاريخية العريقة، وهناك الكثير ممن سينبئكم بأسماء ما طبع منها في الثمانينات دخلت منه المكتبات إن كان فيكم من لايعلم.. نسأل الله السلامة من ذلك. وشيء آخر، فقد لوحظ - وهي الملاحظة الثانية - أن جهد وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب في نشر الكتاب جهد يسير على غير هدى «هكذا يخيل إليّ» فنحن نلمس في كل عام ما يدل على أن إخراج التراث وإعادة طباعة ما اشتاقت إلى رؤيته الأعين لا نقول غير وارد في أبجدياتهم وإنما قليل بالقياس إلى ذلك الكم الكبير من الدواوين الشعرية وبعض الدراسات التي تفتقر إلى العمق. وإنني لا أزال أتذكر ما قرأته في مطلع عام «صنعاء عاصمة الثقافة العربية» في تحقيق نشرته العزيزة «الجمهورية» حيث تضمن هذا التحقيق وعوداً واضحة بإعادة طباعة كتب التاريخ القديمة «ووضع فهرس بأسمائها»، ثم وجدنا هذه الوعود قد صارت سراباً، فأين هو كتاب السلوك، وكتاب العسجد المسبوك وكتاب العقود اللؤلؤية وو... والأمر الذي ينبغي قوله - وهي الملاحظة الثالثة - إن وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب تتميزان بطبعات فاخرة عن كثير من مراكز ودور النشر العربية إلا أن هذه الكتب بأسعارها المرتفعة لا تحقق الهدف الأول من طباعتها وهو أن يكون «مشروع القراءة للجميع» ولذلك فخير لها أن توجد طبعات تجارية مناسبة الأسعار على غرار بعض الطبعات المصرية لتعم الفائدة وهو رأي يرحب به الكثير، ويرجو تحقيقه الكثير.