مع إنطلاقة الشرارة الأولى لما سمي بثورات الربيع العربي وإذ كانت الفاتحة لهذا الربيع من تونس حيث قام الشاب محمد البوعزيزي باحراق نفسه أمام أحدى الإدارات الحكومية كتعبير احتجاجي مؤلم ورسالة غاصة بكل مشاعر القهر والكبت جراء سجل طويل من وقائع الإمتهات والممارسات غير الإنسانية التي دأب نظام الدكتاتور بن علي على إقترافها بحق مواطنيه. وهكذا كانت البداية إذ خرج كل أحرار تونس وأبنائه الشرفاء مطالبين باسقاط بن علي ونظامه وطي صفحة متخمة بالسواد من تاريخ تونس، حيث هرب ذلك الجلاد بعد إن أدرك حق الإدراك بان إرادة الشعوب لا تقهر وأن شعب تونس العظيم قد أراد الحياة وأنه قد آن للقدر ان يستجيب . في تلك الأثناء كانت عدسة الجزيرة تلتقط بالصوت والصورة كل تفاصيل المشهد وتعاود بثها عبر شاشتها في كل إنحاء العالم ،وكان ضمن تلك التفاصيل لقطة لكهل تونسي يعبر عن عظيم إبتهاجه وعمق فرحته بتحقيق الحلم والتطلع الذي طالما هو كان بإنتظاره . إذ كان المشهد يعبر عن اروع وإبهى صورة نضالية هي قطف ثمار الحرية التي ارتوت من عرق و دماء الاحرار الطاهرة، وبالعودة إلى ما أسلفنا فقد كان الكهل يمسح بيده على جبينه وهو يقول:(هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية). قرائي الاعزاء إن ما دفعني لسرد وقائع وسيناريوهات الثورة التونسية الذي باعتقادي ان احدا من هذا الجيل قد لا يجهل تفاصيل احداثها وما تلاها من تداعيات عاصفة على مستوى الوطن التونسي والمنطقة بشكل عام وما احدثته من تحولات عميقة في اتجاه وتركيبة الوعي الجمعي بمنظومتيه السياسية والاجتماعية والتي طالما تسربلتا بإنماط شتى من السلوك لا تعبر في مجملها الا عن ميول جامح لتكريس ثقافة احادية وخلق بيئة اقصائية طارده لكل آمال واحتمالات التعدد والتنوع . والان يمكني القول ان مثل هذه البيئة اللزجة بكل أنماطها البائدة من التفكير والسلوك قد اضحت من الماضي، ومن الصعب جدا أذا لم نقل مستحيل ان تكون حاضنة لأسس ومقومات مستقبل متعافي وسليم ، وبما اننا في الجنوب قد كان لنا السبق في بلورة الفكرة الثورية والتعبير عنها بوسائل وادوات نضالية جديدة لم تكن معروفة في المنطقة ولم يسبق اللجوء اليها فانه قد اصبح لزاما علينا استيعاب البيئة والمناخ اللذان انتجا مثل هذه الفكرة وهذه والوسائل والتعاطي معها بلغة جامعة ومنفتحة اذ ان " المستقبل لا يسكن بين جدران الماضي " بحسب امين معلوف . وكما تأثرت تونس بفكرة النضال السلمي الذي سبق واشرنا انه لم يط المنطقة كزائر جديد الا عبر بوابة عدن فقد اصبح من الواجب الضروري ان نخضع لقاعدة التأثير والتأثر التي يشير اليها علم الاجتماع طالما واننا قد اصبحنا طرفا فيها بوعي او دون وعي . تونس التي تلتنا في النضال السلمي يجب ان نتلوها في التأسيس لقيم التعدد والتنوع والإنفتاح على الآخر واحترام العمل المؤسسي وتجذيره في طريق السعي الى دولة عصرية يسودها النظام والقانون . لكنه قد يقول قائل ان لا وجه للمقارنة بيننا وتونس فتونس دولة مستقلة وذات سيادة وكل ما تخوضه من نضالات هي نضالات ذات طابع محلي فيما يخوض شعب الجنوب نضالاته ضد قوة غاشمة وصراع لا يتسم باي طابع او صفة محلية بل هو إعتداء خارجي كان ولا زال يعمد على إلغاء وتدمير منظومة البناء المؤسسي وتقويض ما بقي من ثقافة مدنية لهذا البلد واشاعة الفوضى والعشوائية بديلا عنها ، وهو محقا في ذلك إذ عنه لا يحق لنا مطلقا ان نغفل مثل هذا الإعتبار لكن هذا لا يمنعنا اوحتى يعفينا من التمسك بكل ماسبق من سلوكيات وقيم ايجابية والعمل على تكريسها في واقعنا وليس بالشرط أن تحوز إطارا رسميا، على الاقل كان لابد ان نعكسها في تعاملنا مع بعضنا والتمهيد لها كثقافة حتى يتوفر لها ذلك الاطار والانتقال بها معنا الى مرحلة الدولة وتوسيعها كمنظومه متكاملة تحوز عندئذ صفة الالزام ووسائل الحماية القانونية .