الجمعة 12 يوليو 2013 04:13 مساءً السفير سعدى علوه كانت الاشتباكات المسلحة، بين الجيش وأنصار الشيخ أحمد الأسير، محتدمة في عبرا، عندما بثّت إحدى القنوات التلفزيونية المحلية مقاطع فيديو «مباشرة من داخل مجمع الأسير»، تصوّر ضحايا أصيبوا بطلقات نارية في رؤوسهم. وسرعان ما تهافتت معظم التلفزيونات على نقل المشاهد ذاتها، وفق توصيف مكاني أدقّ: «مسجد بلال بن رباح من عبرا، بعد سيطرة الجيش عليه». وفيما أشارت بعض القنوات إلى أن المشاهد منقولة عن «يوتيوب»، تم «حفظ حق النقل» عن التلفزيون «السبّاق» لدى قنوات أخرى. ولا يخفى على أحد حساسية عرض مشاهد مماثلة، محورها شبان من فئة معينة من اللبنانيين، مقتولين «داخل مسجد»، في تلك اللحظة المؤججة بالذات، ووسط تحريض على الجيش، واتهامات بمشاركة «حزب الله» بالقتال إلى جانبه. لكن بعد نحو ربع ساعة من بث المشاهد، بالتزامن مع فتح «الهواء المباشر» للتحليل، اعتذرت إحدى المحطات التلفزيونية عن بثها، معلنة أنها «صوَر قديمة لتفجير في أحد مساجد العراق». وليس في ذلك تخل عن مسؤولية الإعلام في مراعاة السلم الأهلي، وعدم التجييش الطائفي والمذهبي فحسب، وإنما فيه ما يصيب المهنية الإعلامية للمستفيدين من امتياز الفضاء العام، عبر دخوله منازل المواطنين. ويمكن لمتابع تقارير «الرصد الأسبوعي»، الذي تنجزه إحدى الشركات لمصلحة «المجلس الوطني للإعلام»، أن يجد توصيفات لبعض ما تبثه الشاشات اللبنانية. تعتمد التقارير على 75 ساعة بث مرئي، و65 ساعة بث مسموع، كما تشمل المحطات المصنفة فئة أولى في لبنان. ولا يخلو أحد التقارير، في ما يتعلّق بمضامين البرامج التلفزيونية الحوارية على التلفزيونات كافة، من توصيفات مثل «منافٍ للمهنية الإعلامية. اتهام أطراف لبنانية بالإرهاب. تشهير واستهزاء بالشخصية الفلانية. كلام مثير للنعرات الطائفية والمذهبية بامتياز. تحريض واضح وجلي. وسؤال موجه ومثير للغرائز. الخ..». ولا تعفي تقارير الرصد نشرات الأخبار، التي تتحول مقدماتها إلى «آراء سياسية»، بعيدة «كل البعد عن حق المواطن بالإعلام والخبر المجرد». ويورد التقرير أن «الشاشات، على اختلافها، تقدّم الخبر نفسه بطرق مختلفة، تنسجم مع توجهاتها السياسية، حتى يظن المشاهد أن الخبر لا يدور حول المعلومة ذاتها». وبينما يرفض المسؤولون في التلفزيونات مضامين هذه التقارير، ويصفها بعضهم ب«المخابراتية»، ترتسم على وجه بعض مقدمي البرامج التلفزيونية ابتسامة متواطئة، لدى سؤالهم عن تأثير الحلقات التي تشهد تراشقاً كلامياً، يصل في بعض الأحيان إلى حد التضارب بين الضيوف. يعترف بعضهم بأنهم يلجأون لذلك عمداً لاعتقادهم أن حلقات مشابهة ترفع نسبة المشاهدين، وبالتالي ترتفع نسبة الإعلانات وتتغير أسعارها وتزداد شهرة الإعلامي، بالإضافة إلى أنها تحظى بمتابعة «نارية» على مواقع التواصل الاجتماعي. إلى النيابة العامة يرى رئيس «المجلس الوطني للإعلام» عبد الهادي محفوظ، أن «التقارير التي يعدها المجلس تهدف إلى إطلاع الرأي العام والمؤسسات الإعلامية، على المخالفات التي يرتكبها الإعلام لتصويب الأداء الإعلامي». ويشير إلى استخدام المؤسسات الإعلامية، «لغة غريبة عن الأدبيات اللبنانية، خصوصاً في موضوع الشتائم»، مشدداً على «ضرورة التمييز بين الخبر والرأي، إذ غالباً ما تتضمن مقدمات الأخبار مقاييس تتناقض مع الشفافية والقانون». ويعتبر أن المعالجة تكون بالحوار مع المؤسسات الإعلامية، التي تتباين في نسبة التجاوب، مؤكداً أن ما يهدد «هذه المؤسسات ليس التقارير، بل المخالفات التي ترتكبها». ويقول إن «المجلس قد يعمد إلى تحويل تقاريره إلى النيابة العامة التمييزية، لأن الانقسام السياسي في البلاد يحول دون وجود قرار لدى السلطة التنفيذية، التي لا تمتلك إرادة واحدة تمكنها من تنفيذ توصيات المجلس خارج الاستنسابية السياسية». يضيف أن معظم المؤسسات الإعلامية، تنتسب إلى الفريقين السياسيين الرئيسيين في لبنان، أو ترتبط بجهات خارجية، معرباً عن تفاؤله ب«مشروع القانون الجديد، الذي يمنح المجلس صلاحيات كاملة تمكنه من تنفيذ القرارات التي تصدر عنه مباشرة من دون المرور على الحكومة». وينص المشروع على إيجاد محكمة إعلامية، للبت بين المجلس والمؤسسات الإعلامية التي قد تعترض على قراراته، «وعندها لن يكون هناك أي حماية أو استنسابية سياسية، وهذه تجربة مستقاة من فرنسا»، وفق محفوظ. تجاوزات.. سالكة ثمة تقرير رفعه «المجلس الوطني للإعلام» إلى مجلس الوزراء، مطالباً بوقف بث أحد البرامج الحوارية المهمة لمدة يحددها القانون، بمثابة عقاب على التجاوزات الخطيرة التي تضمنتها إحدى حلقاته. لكن التقرير رُمي في أدراج الحكومة مثل تقارير عدة أخرى مشابهة، وفق منظومة تسمح لكل فريق سياسي بحماية المؤسسة الإعلامية المحسوبة عليه، فيما يداري رجال السياسة المؤسسات الإعلامية والإعلاميين الذين يحرصون على عدم معاداتهم. ويمكن تصوّر «الهمروجة» التي تلي اتخاذ أي إجراء بعنوان «حرية الإعلام والتعبير». وعلى سبيل المثال لا الحصر، عدد التقرير الذي طلب معاقبة البرنامج الحواري، مخالفات حلقته كالتالي: عدم المحافظة على النظام العام ومقتضيات المصلحة العامة، فضلا عن احترام الشخصية الإنسانية وحرية الغير، والطابع التعددي للتعبير عن الأفكار والآراء والموضوعية في بث الأخبار والأحداث. بالإضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى أن البرنامج «لم يلتزم بعدم بث كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ترويج لعلاقة مع العدوّ الصهيوني، وخالف الفقرة التاسعة، التي تنص على عدم بث أو نقل كل ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية، أو الحض عليها أو كل ما من شأنه أن يدفع بالمجتمع، وخاصة بالأولاد، إلى العنف الجسدي والمعنوي، والانحراف الخلقي والإرهاب والتفرقة العنصرية أو الدينية». ويسأل مصدر رسمي مطلع ومعني بموضوع الإعلام، عن «السبب الذي منع الحكومة من اتخاذ قرار بمعاقبة البرنامج موضوع التقرير»، لافتاً إلى أن «المخالفات ذاتها ترتكبها معظم البرامج الحوارية، وعدم المعاقبة وفق القانون، هو ما يشجع على ارتكاب المزيد منها». «تقارير استخبارية» يرفض المسؤولون في المؤسسات الإعلامية، تقارير «المجلس الوطني للإعلام» جملة وتفصيلاً. ويؤكد كل منهم أن محطته بعيدة كل البعد عن اتهامات مماثلة: «نضبط برامجنا ونشراتنا الإخبارية على إيقاع الموضوعية والواقعية، ونقوم بنقل ما يحصل على ألأرض». وتصف مديرة الأخبار في تلفزيون «الجديد»، مريم البسام، تقارير المجلس الوطني ب«التقارير المخابراتية، وعندنا شكوى عليهم وعلى تقاريرهم». وتسأل: «لماذا يكلف المجلس شركة خاصة بإنجاز التقارير ويمنحها موازنة، بينما هناك عشرة أعضاء من الكتبة؟ ماذا يفعلون وما هي وظيفتهم؟». من جهته، يعرب مدير الأخبار والبرامج السياسية في قناة «إم تي في»، غياث يزبك، عن عدم ثقته بالتقارير ذاتها، معتبراً أن «معدّيها غير مهيئين مهنياً لإنجازها، وليس لديهم معايير حول أخلاق المهنة». ويطالب، كما البسام، بأن يقوم أعضاء المجلس بهذه المهمة، «لأنهم أصحاب كعب عال ومتفرغون وليس لديهم أي دور آخر يقومون به». ويتحفظ يزيك على نشر مضامين التقارير في وسائل الإعلام، مشيراً إلى «وجود عبارات مجتزأة أحياناً، ويتم تفسيرها بشكل يشوه المعنى ويغيره». وتعليقاً على تقارير «المجلس الوطني للإعلام»، يرى رئيس مجلس إدارة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» بيار الضاهر، أنه «عندما توصف كل التلفزيونات بالتعابير نفسها، فهذا يعني أن هناك خطأ إما في القانون أو في تطبيقه، خصوصاً أنه وُضع في العام 1994 حيث كانت الأجواء في البلاد مختلفة». «اللبنانية للإرسال» و«المنار» يرفض الضاهر تحميل وسائل الإعلام مسؤولية الأوضاع المتشنجة في البلاد، قائلاً «إننا نسمع الكلام نفسه منذ العام 1975، وكأن الإعلام هو من أوجد الحرب». ويرى أن الإعلام «ينقل ما يحصل في لبنان فقط لا غير، وتأتي الاتهامات لتوحي كأنه لا مشكلة طائفية وسياسية واصطفاف، ودول تتدخل في مسائلنا ورفض للرأي الآخر، كأننا نحن من نخترع كل هذا». ويقول الضاهر إن «المُشاهد الحرّ يستطيع أن يبدّل القناة التي لا يريدها»، سائلاً: «ألا تصب تصريحات السياسيين في خانة التجييش المذهبي؟». إلى ذلك، يعتبر المدير العام لتلفزيون «المنار»، عبدالله قصير، أن «المنار تتجنب استضافة أشخاص معروفين بكلامهم الذي يسبب التوتر، وخصوصاً عندما يمر لبنان بظروف حساسة ودقيقة، ولكننا لا نستطيع أن نضمن ضيوفنا مئة في المئة، نحن نلفت نظرهم ولكن بعضهم لا يلتزم». ويؤكد أن «المنار» تعتمد «أجندة تراعي التنوع، حتى أننا استضفنا صحافيين محسوبين على تيار «المستقبل»، والنائبين محمد الحجار ومحمد قباني». شاكياً «عدم استجابة من يختلفون مع سياسة المحطة لتلبية الدعوات، إذ غالباً ما يعتذرون بذريعة الانشغال». ويقول «إننا لا ندّعي التزام الحيادية، حيث لا حيادية في الإعلام وكل وسائل الإعلام لديها أجندة سياسية، لكننا نحاول مراعاة الموضوعية والمصداقية، ونركز على عدم بث أي خبر من شأنه توتير البلاد مذهبياً وطائفياً». «الجديد» و«إم. تي. في» تحمّل البسام مسؤولية الاتهامات التي تساق ضد وسائل الإعلام المرئية، للإعلام المكتوب: «أصبحوا بلا رحمة، ويمارسون التقوى الإعلامية». وترى أن الإعلام المرئي يتعرض للظلم والإساءات، بينما يتلقى مراسلوه الضربات في الشارع، ويعانون من المناطق المغلقة على هذه الجهة أو تلك». وبعد تعدادها أمثلة عن مخاطر ومضايقات يتعرض لها مندوبو «الجديد»، تشير إلى أنها لن تسكت على أي اتهامات بعد اليوم «وسوف نرد»، معتبرة أن «الإعلام المكتوب يحرض على التلفزيونات، ويضعنا في عين العاصفة المجنونة». وترى أن ما تنقله التلفزيونات، ليس سوى «حال البلد، ونحن لا يمكننا أن نخرج من الواقع والحالة المتوترة والانقسامات التي تفرض أسماءها علينا». وتذكّر بأن الإعلام ليس «من خلق الأسير بل الدولة هي من فاوضته، كما أن وزير الداخلية مروان شربل زار النائب محمد كبارة في اليوم الذي طلب فيه رئيس الجمهورية رفع الحصانة عنه». وتؤكد البسام أن نشرة أخبار «الجديد» تخضع لأقصى أنواع الضبط، وتتجنب الفتنة. بدوره، يقول يزبك إن أجندة «إم تي في وطنية، وخطها الوطني كان يعتبر رديفاً للمنار في ما يتعلق برفض الاحتلال الإسرائيلي ومناهضته، حتى حلول العام ألفين». يضيف أن «المحطة تستلهم قناعاتها الوطنية من صلب الدستور اللبناني»، مشيراً إلى أنها «لا ننتمي لأحد سياسياً، بل نبحث عن لبنان متعدد يجب أن يتباهى بغنى هويته الثقافية والاجتماعية، وبكونه ملجأ لكل طالب حرية في العالم وخاصة في الشرق». ويؤكد أن المحطة تحرص، عندما تختار ضيوفها، على تمثيل كل فئة لتعبر عن آرائها، وثمة «صعوبات، غالباً، في استضافة مسؤولين من الصف ألأول، فتتم استضافة شخصيات تمثلهم». لكن المسؤولين في المحطة، وفق يزبك، تصيبهم الصدمة عندما يلجأ بعض الضيوف إلى «الشتم، فنحاول أن نكون صارمين معهم، ونمتنع عن استضافتهم مرة ثانية»، معتبراً أن «الإفلاس طال الشخصيات التي تتمتع بوزن وتجربة». ويلفت إلى «وجود منظومة قيم وقوانين وأعراف وقواعد مداسة في لبنان، وليس هناك ميثاق أخلاقي لممارسة المهنة»، مؤكداً أن «وسائل الإعلام المرئية ستعمل على إثارة الغرائز ومحاربة الآخر، ما دامت تنطق باسم جهات سياسية». «المستقبل» يعتبر مدير الأخبار في تلفزيون «المستقبل»، عماد عاصي، أن وسائل الإعلام تعكس الواقع السياسي، مؤكداً أن «تلفزيون المستقبل، ونسبة لانتمائه لتيار عابر للطوائف، هو المؤسسة الوحيدة في البلاد البعيدة عن الطائفية والمذهبية». ويشير إلى أن «هناك أحداثاً طائفية ومذهبية تحصل، لكننا ننقلها بعد محاولتنا التخفيف من لغتها الطائفية قدر الإمكان»، لافتاً إلى «لجوء بعض الوسائل الإعلامية إلى تغطية أحداث توتير مذهبي، فتضطر التلفزيونات الأخرى إلى اللحاق بها، وتتحول التغطية إلى سبق صحافي لاستقطاب هذه الفئة أو تلك لأهداف إعلانية». ويؤكد أن «جمهور المستقبل يعتب عليه لأنه لا يلجأ إلى التوتير المذهبي والطائفي». جماهير.. لا جمهور يرى الدكتور في كلية الإعلام في «الجامعة اللبنانية»، ومعد ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي في لبنان مع «برنامج الأممالمتحدة الإنمائي»، محمود طربيه، أنه «لا جمهور في لبنان، بل جماهير مقسمة حسب التلفزيونات الموجودة، حيث نعرف توجه الشخص من المحطة التي يشاهدها». ويشير إلى أن الجماهير تتابع المحطات «التي تشبهها وتشبع ميولها السياسية والطائفية والمذهبية». وكي تحافظ التلفزيونات على التنافس والاستقطاب، وفق طربيه، تلجأ إلى مخزون من المصطلحات ذات النبرة العالية، وتضخ «اتهامات مخيفة في مقدمات نشرات الأخبار والبرامج الحوارية». ويشير إلى أن «وسائل التواصل الاجتماعي تستكمل نقل الجو المتوتر مذهبياً وسياسياً، إذ تبث أي حلقة قد تلاقي صدىً وتمكن الجماهير من متابعتها في حال تفويتها». ويرى أن الإعلام «ليس مرآة للواقع كما يقولون، لأنه حالياً يعكس جزءاً من هذا الواقع وليس كله، حيث كرست المحطات اللبنانية تقليداً خاصاُ بها لا يدرس في أي كلية إعلام في العالم، في ظل غياب وازع ذاتي لدى المحطات».