تحدث إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة معالي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بالمسجد الحرام، عن نِعْمة العَقْلِ والإدْرَاك،بادئًا بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العَقل هو أكبر المَعَاني وأعظَم الحواسِّ نَفْعًا، وبه يُدْخَلُ في التّكليف، وهو شرط في صِحّة التَّصَرُّفاتِ وأدَاء العِبَادَات»، وقال الإمام القرطبي في مُتَعَلَّقِ التّكريم: «والصَّحِيح الذي يُعَوَّل عليه، أنَّ التَّفضيل، إنما كانَ بِالعقل الذي هو عُمْدة التّكليف، وبه يُعْرَفُ الله، ويُفهم كلامه، ويُوصِل إلى نعِيمه وتصديق رُسله، إلاَّ أنه لَمَّا لم يَنْهض بكُلِّ المُرَاد من العبد، بُعِثت الرُّسل وأنْزِلت الكُتب»، وفيه قيل: «ما أُعْطي أحد شيْئًا أفضل من عقْلٍ يَهْديه إلى هدى، ويصُدُّه عن رَدَى»، وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «وقد جاءت الشريعة بحفظ العقل من جهتي الوجود والعدم»، وأضاف فضيلته قائلًا: ولِمَكانة العَقل السَّامِيَة، خَصَّهُ الله -سبحانه- بالتّكريم، وصَانَهُ وَوَقاه بالشرع الحنيف، عن الزَّيغ والجنوح والتَّحريف، وتعظيم الباري عن التشبيه والتمثيل والتكييف، ولذلك حَرَّم الشرع كُلَّ ما يُخِلُّ بِالعَقل ويُبَدِّده، أو يُتْلِفه ويفْسِدُهُ، وإذا غَاب العقل، سَقط التكليف، لأن الله -سبحانه- إذا أخَذَ ما أوْهَبْ، أسْقط مَا أوْجَب». وأوضح معالي الشيخ عبدالرحمن السديس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكون المسلم إمَّعَة سَبَهْلَلاَ، حيث قال: «لا تكونوا إمَّعَة: تقولون إنْ أحْسَن النَّاس أحْسَنَّا، وإن ظلموا ظلَمْنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحْسَن الناس أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا». وبين أن مِن حِفظ الإسلام للعقل، محاربته للوثات العقدية والإلحادية والشركية والبدعية ومجانبته للخُرافة والأوهام، وتلك الظنون والتّخرُّصات والمحدثات، ونحوها من السِّحر والشعوذات أو أضغاث الأحلام والمنامات التي استخفّت بكثير من العقول في المجتمعات، وتروج لها اليوم بعض الفضائيات وشبكات المعلومات، متى انْسَلَّت للأمّةِ أوْهَنَتْها ووأدَتْها، قال سبحانه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ). - وفي المدنية المنورة قال فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي: إن هذه الأمة صلح أولها بالزهد واليقين وهلك أخرها بالحرص والأمل، فالزهد الواجب هو كف النفس عن المحرمات، وسلامة المسلم عن أموال الناس ودمائهم، وتوقي المفاسد المحرمة، والحذر من المشتبهات، وإعطاء الحقوق للخلق المتعلقة بالذمم والأمانات، وأن ما زاد على ذلك فهو إحسان وفضل، وخير وبر، وطهر وزكاة، مرغب فيه شرعًا، يعظم الله به الأجر والثواب، ويرفع به الدرجات، ويدفع به الله عن العبد خزي الدنيا ومصارع السوء، ويحسن به العاقبة، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وتطرق فضيلته إلى أن الحرص على جمع الدنيا من حلال وحرام هو من أدواء القلوب، وأسباب الهلكة، ومحق الرزق، وقال: «إن الحرص هنا يلائمه ويوافقه ويؤاخيه ويكون معه البخل والشح»، وعرّف فضيلته صفة البخل بأنها منعُ الزكاة، والنفقات الواجبة، وحرمان السائل والضيف، والإمساك عن أبواب الخير من فضل الله، وقال الشيخ علي الحذيفي: «إن الشح شرُّ من البخل، فهو الحرص على أموال الناس، وحقوقهم والسعي في تحصيلها وضمها إلى اليد، ظلمًا وبغيًا وعدوانًا».