يوم أمسكت القلم لأول مرة في حياتي، كانت يدكِ فوق يدي، تشدّ عليها وتوجّه حركتها فوق السطور، كنتِ ترشدينني للكتابة على نقاط رسمتِها لي مسبقاً. يومها قلتِ لي: ماذا تريدين أن تكتبي؟ فقلت: أمي الحبيبة!. اليوم وحين أمسكت بيد طفلي لنخط معاً أولى كلماته فوق الورق، سألته السؤال نفسه: ماذا تريد أن تكتب؟ فقال: جدتي العزيزة! .. خطّت يده الصغيرة الممتلئة اسمك الجميل جملة مهتزة الأركان، ثم أشرقت على وجهه ابتسامة رضى بانتهاء مهمته الكبيرة. حين رأيت فرحته الغامرة ونظرات عينيه المشعة تستجدي مني كلمات الثناء والمديح، أمسكت يده، ووسط دهشته الصبورة، بدأت أتحسّس دفء يديك من خلال كفه الدقيقة. مرّرت إصبعي على خطوطها الناعمة، لأشعر بنبضات حبك تسري فيها، قرّبت وجهي منها، سمعت صوتك يقول لي: أحسنتِ بُنيتي، ها أنت تحسنين كتابة أجمل الحروف والكلمات، سقطت من عيني دمعة، حين لمست ذلك الشعور العظيم، الذي يسميه الكُتاب «سعادة لا توصف»، سارع طفلي لمسح دمعتي من على خدي بهدوء وترقّب، وقد كان كلانا ينتظر لحظة نقطة آخر السطر! فها أنا ذا يا أمي قد صرت أخيراً أماً مثلك! وها هي ذي الكلمات المُتعرّجة قد صارت جملاً طويلة. خطوطك الراسخة في باطن كفي، الملتصقة بجسدي، حروف المد الممدودة من قلبك إلى قلبي عبر شرايين وأوردة أوصالي، واصلة عالمي كله. يوم أمسكت القلم لأول مرة، وكانت يدكِ فوق يدي .. تخشّبت سبّابتك عصا قصيرة، وأرغمت منطق الرياضيات بنقرة خاطفة على تغيير قاعدته «العمود أقصر المائلات»، فاشرأب عنق الألف في «أمي» المهموزة بقبعة الساحر عموداً بالغ الطول وتحوّلت مائلات الخطوط حوله قطع دومينو قصيرة مكبّة على وجهها. وانطلقت من أصابع يديك خطوط رحلات لازوردية .. ريش ألوان تسبغ على كل ما تحط عليه روحاً من روحها؛ فتكسر حواجز المنظور وقواعد الرسم، وترصف طرق خيالات معبّدة، تحملني على متنها أسراب طيور من قصص أطفال وأناشيد مدرسية، تسّاقط حروفها الظمأى للحرية على جوانب الطريق أوراق تبّاع شمس آبق من حقول ظلام. شكراً لك يا أمي، شكراً على كل خطوط الخير التي مددتها لي، شكراً على كل تلك المبادئ العظيمة والعقيدة الصحيحة، شكراً لكل الصدق والمحبة والتسامح والمغفرة والإحسان. شكراً أيتها العظيمة، الجليلة، الملهمة، الحنونة، العطوفة. ألف شكر لك. The post خطوط appeared first on صحيفة الرؤية.