ذكرنا في الحلقة السابقة من مقال الصحفي الأمريكي، مايكل فايس، المطول حول الدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط بعنوان «العالم لا يشعر بارتياح لعودة روسيا إلى الشرق الأوسط»، الذي نشر قبل بضعة أيام على موقع «أميريكان إنترست» الإلكتروني أن الموقف الأمريكي من الأزمة السورية قدم الدليل على تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، مما هيأ الفرصة لروسيا لملء الفراغ الناتج. وأن انتصار الدبلوماسية الروسية أوجد حقائق جديدة في منطقة الشرق الأوسط تجلت في أبرز ملامحها في طرق العديد من حلفاء أمريكا أبواب الكرملين لاسيما في ظل ما أمكن ملاحظته حول المواقف المترددة للإدارة الأمريكية، في مقابل المواقف الثابتة للكرملين. في هذه الحلقة (الثانية) نواصل القراءة التحليلية لمقال وايز المهم. «البوتينيزم» (البوتينية): خلق المشكلة لحلها يقول وايز إن رسالة موسكو للبيت الأبيض في ذكرى 11 سبتمبر (الماضي) حملت العديد من المعاني والمؤشرات ذات الصلة بالإرهاب، ففي نفس اليوم الذي نشر فيه مقال رئيس الوزراء فلاديمير بوتين في «النيويورك تايمز»، أعلن وزير خارجيته الكسندر بافلوف إعادة تنشيط بيع إيران صفقة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز إس - 300 التي ألغيت في وقت سابق، وبالتالي جعل الدعوى القضائية التي رفعتها إيران ضد روسيا بسبب خرقها للعقد موضع نقاش. ويبدي وايز دهشته في أن يوجه بوتين مقاله في «النيويورك تايمز» في ذكرى هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في الوقت الذي يسلح فيه دون أي غضاضة دولة رائدة في رعاية الإرهاب الدولي. واعتبر وايز أن بوتين مارس سياسته في خداع إدارة أوباما منذ فترة حكم ديمتري ميدفيديف الذي كان ألعوبة في يد بوتين، وهو ما تمثل بشكل خاص في تظاهر موسكو بعدم دعمها لنظام طهران في مجال تطويرها لبرنامجها النووي في مقابل عدم توجيه واشنطن أي انتقادات للانتهاكات الروسية لحقوق الإنسان، وهو الأسلوب الذي وصفه أحد موظفي الكابيتول هيل ب البوتينيزم (نسبة إلى بوتين)، الذي يعني خلق مشكلة، ثم المساعدة على حلها، للحصول على انحناءة احترام وتقدير. ويرى الكاتب أن انتصار بوتين الحقيقي يظهر بشكل واضح في كيفية تعامله مع الأزمة السورية، تحديدا في نجاح الدبلوماسية الروسية في التوصل مع واشنطن إلى اتفاق نزع ترسانة الأسلحة الكيميائية من النظام السوري. وينبه وايز إلى أن الاتفاق كان ثمرة جاءت بالصدفة باعتبارها زلة لسان من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ليتضح بعد ذلك أن الهدف الحقيقي هو الحيلولة دون تصويت الكونجرس على شن الضربة العسكرية، لاسيما في ظل ما كشفت عنه التقارير الصحفية اللاحقة من أن الرئيس بوتين سبق وأن طرح فكرة نزع ترسانة الأسلحة الكيميائية لنظام بشار الأسد عدة مرات، كان آخرها خلال اللقاء الذي جمعه بالرئيس أوباما على هامش قمة مجموعة العشرين في سان بطرسبرج أوائل سبتمبر الماضي. حيث قام أوباما بنقل الفكرة إلى مستشارته لشؤون الأمن القومي سوزان رايس، التي نقلتها بدورها لوزير الخارجية كيري. ويتجلى انتصار بوتين هنا ليس فقط في تقديمه مبادرة لحل وسط لا يخول لواشنطن الحق في شن عمل عسكري عدواني يستهدف النظام السوري، وإنما أيضًا في إعادة الشرعية لهذا النظام المارق كشريك دولي في مجال مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل بعد موافقته على التخلص من أسلحته الكيميائية مع نهاية العام 014 ، ونقلها بطريقة آمنة عبر البحر بعيدًا عن منطقة مشتعلة بالنزاعات. اتفاق غير مجد الاتفاق، حسب تقديرات وايز- ورغم أهميته يظل موضع تساؤل، لاسيما في ظل الحقيقة التي أصبحت ظاهرة الآن (مع سقوط أكثر من 20 ألف قتيل جراء استخدام النظام للبراميل المتفجرة)، فعمليات القمع التي تمارسها قوات بشار الأسد التي تتلقى التدريب من الحلفاء الإيرانيين ضد شعبه ازدادت بشكل مطرد بعد الاتفاق. وهو ما يعني تغاضي موسكووواشنطن عن هذه الفظائع في المستقبل المنظور، بما يجعل أي ضغط يمكن أن يمارسه تحالف أصدقاء سوريا للتأثير على النظام بلا جدوى، وأي خطط لمؤتمر جنيف 2 المقرر عقده في 22 من شهر يناير المقبل بلا معنى. لذا فإن روسيا بوتين تستحق التهنئة بجدارة لتمكنها من شق ثغرة مكنت قائد القوات المسلحة الأمريكية من ترحيل سياسته المشوشة حول سوريا نحو التوصل إلى صفقة كبرى مع الإيرانيين. وبالإمكان القول إن الشيء الجيد الوحيد الذي نجم عن عودة روسيا كقوة عظمى هو إمكانية التنبؤ باستنفاد أمريكا لهيمنتها على العالم، وعدم اتضاح ملامح لدورها المستقبلي في العالم. ولنتذكر بهذا الصدد قول ألكسندر راهر كاتب سيرة بوتين والمحلل المعروف في المنتدى الروسي – الألماني :»إذا نجحت روسيا في منع أمريكا من شن حرب على سوريا سيكون ذلك بمثابة انقلاب دبلوماسي كبير». وهو ما حدث بالفعل، حتى أن افتتاحية لصحيفة أزفستيا الروسية وصفت أحد مظاهر الانتصار الدبلوماسي الروسي الذي أعاد موسكو إلى الصدارة العالمية بالقول:»فجأة اتضح أن الجميع في حاجة إلى روسيا ومعها، بعد أن نجحت موسكو في فتح الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة السورية». وذهبت الافتتاحية إلى أكثر من ذلك بالقول إن الدور الروسي أدى أيضًا إلى تحقيق صفقة كبرى على صعيد الملف النووي الإيراني، فيما أن الحقيقة تناقض ذلك تمامًا لأن الأزمة السورية تزداد سوءًا في واقع الأمر. تقلص الدور الأمريكي وتمحور خطاب الرئيس باراك أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي حول عدم رغبة واشنطن في التورط في الحروب الأهلية للآخرين، وهو ما منح روسيا فرصة أخرى لبلورة دور جديد لها في منطقة الشرق الأوسط على حساب الدور الأمريكي المتداعي. والملاحظ أن خطاب أوباما استخدم نفس اللغة التي اعتاد الكرملين على استخدامها كلما تعلق الأمر باتهام واشنطن بأنها قوة عظمى تسعى إلى الهيمنة على العالم. ويستطرد وايز أن مما لاشك فيه أن بوتين شعر بالارتياح إزاء الحقيقة بأن الحماقة الأمريكية ظهرت بأوضح صورها في أجندة السياسة الأمريكية في فترة ولاية أوباما الثانية. وهو ما أمكن لمسه من خلال ما كتبته سوزان رايس مع نهاية السنة الأولى لولاية أوباما الثانية في صحيفة النيويورك تايمز بقولها إن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط خلال السنوات الثلاث المقبلة سيكون في أضيق الحدود، وسيقتصر على الرد على أي عدوان على الولاياتالمتحدة أو حلفائها، وفي حالة انقطاع امدادات النفط، ومواجهة الشبكات الإرهابية أو أسلحة الدمار الشامل، ووقف البرنامج النووي الإيراني وحل المشكلة الإسرائيلية – الفلسطينية، والحد من الصراع في سوريا – لكن ليس محاولة إنهائه. المزيد من الصور :