صفحة جديدة فتحها الليبيون في ملف الأمن الغائب منذ انتهاء الثورة على القذافي، هي صفحة الاغتيالات . فقد تزايدت مؤخراً ظاهرة الاغتيالات لشخصيات ليبية تنوعت انتماءاتها من أمني إلى سياسي إلى ديني إلى قبلي . وتلك الظاهرة ليست جديدة على ليبيا، فقد بدأت في البروز ضمن منظومة العنف المتفاقم منذ ما يزيد على عام . إلا أنها لم تكن بذاك الوضوح والتحدي الذي صارت عليه حالياً . الأمر الذي يثير التساؤل حول خلفيات تنامي تلك الظاهرة وتركيزها بالأساس على مسؤولين أمنيين وفي بنغازي، بما يكشف عن أن ملابسات الاغتيالات وأهدافها ليست منفصلة بحال عن مجمل الوضع الأمني المنفلت في ليبيا . لكنها تضيف إليه أبعاداً أخرى تتعلق بطريقة إدارة السلطات الليبية له خاصة لجهة الأجهزة الأمنية وأوضاع العاملين فيها . إضافة إلى احتمالات وجود صلات لجماعات متشددة أو تنظيمات جهادية لها ثأر قديم عند القيادات الأمنية الليبية التي سبق لها العمل مع القذافي . بعد تعرض أكثر من مسؤول أمني وسياسي لتصفية جسدية في الآونة الأخيرة، أصبحت ليبيا أمام مشكلة أخرى تضاف إلى مأزق الأمن المتراكم منذ شهور، هي مشكلة الاغتيالات السياسية . فبعد السفير الأمريكي في ليبيا، اغتيل قائد أمن بنغازي الذي كان يحقق في مصرع السفير ذاته . وبينما تحاول السلطات الليبية ضبط وتيرة العمل داخل الأجهزة الأمنية المفترض أنها مسؤولة عن منع هكذا عمليات، تواجه مشكلات داخلية فيها وحالة من التذمر لدى المنتسبين إليها . اغتيالات متنوعة وصل ملف الاغتيالات في ليبيا إلى الذروة بشكل مبكر، وذلك باختراق عمليات التصفية الجسدية المؤسسات الأمنية والعسكرية الرسمية، بل وقتل أحد أكبر القيادات الأمنية على المستوى الوطني، هو قائد الأمن في مدينة بنغازي . فقد سقط العقيد فرج الدرسي، مدير أمن بنغازي، صريعاً بأيدي مسلحين أطلقوا النار عليه أمام منزله قبل أن يفروا في سيارة كانت تقلهم . ولم تكن عملية اغتيال الدرسي الأولى من نوعها، فقد أصيب ضابط سابق في جهاز استخبارات القذافي في انفجار عبوة ملغومة داخل سيارته في بنغازي . كما قتل في بنغازي أيضاً رجل دين (إمام مسجد) برصاص مجهولين، في واقعة هي الأولى التي تستهدف رجل دين . وفي السياق ذاته تم اغتيال أحد قادة حركة اللجان الثورية في درنة هو خالد الصافي العدلي بالطريقة ذاتها . بذلك فإن الغياب الأمني الذي تعانيه ليبيا منذ انتهاء الحرب ضد القذافي، بدأ يكشف عن وجه آخر أكثر قبحاً مما خبره الليبيون حتى الآن . وجه ينقل الحرب الخفية التي تشنها القوى الرافضة لاستقرار ليبيا، على مستوى المواجهة المباشرة مع كبار المسؤولين في المؤسسات الرسمية خصوصاً أولئك العاملين في الأجهزة الأمنية والسيادية . لكن المواجهة مع ذلك المستوى من الشخصيات يصعب قصرها على الاعتداءات البسيطة أو الهجمات ذات الطابع الشعبي الجماعي، كما يحدث عادة في عمليات الاستفزاز وتفجير المواجهات المسلحة التي تشهدها ليبيا بصورة متكررة في أنحاء مختلفة سواء بين القبائل أو بين الفصائل الثورية، لذا اتخذ التعامل مع القيادات والشخصيات الكبيرة منحى مغايراً بالذهاب مباشرة إلى حد التصفية الجسدية المباشرة للشخصية المستهدفة حصرياً . وإضافة إلى ما يتضمنه هذا النمط الجديد من العنف من تحد واستفزاز لقدرات المؤسسات الأمنية وهيبة السلطة الحاكمة، فإنه يحمل أيضاً رسالة واضحة ومباشرة إلى كل الأطراف المعنية بالوضع الأمني في ليبيا سواء الأطراف داخل ليبيا أم خارجها مفادها أن أعلى المستويات في ليبيا ليست عصية على الاستهداف، ولا بعيدة عن الخطر المباشر . فمعنى اغتيال قائد الأمن في بنغازي، أن كل المستويات القيادية الأخرى في المؤسسات الرسمية معرضة للمصير ذاته، إذا كان الشخص المنوط به حماية المدينة قيادات ومواطنين، لم يتمكن من حماية نفسه، فبالتالي لا توجد شخصية أخرى بمنأى عن ذاك الخطر حتى إن كانت في مرتبة سياسية أعلى من قائد أمن بنغازي، فأياً كان مستوى الأهمية السياسية، فليس من المتصور أن يكون لدى أي مسؤول بارز أو قيادة سياسية رفيعة مقومات للحماية والأمن أعلى مما كان يوفر قائد أمن المدينة كلها لنفسه . وفي اختيار الدرسي رسالة أخرى بالغة الدلالة والأهمية، فالرجل كان هو المكلف بالتحقيق في ملابسات اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا كريستوفر ستيفنز . ما يعني أن اغتياله يهدف بالأساس إلى عرقلة التحقيقات في تلك الواقعة، وكانت تهديدات صريحة قد وصلت إلى الدرسي بهذا المعنى . الأمر الذي يعني رغبة أطراف ما في التغطية على حادث القنصلية الأمريكية في بنغازي بأي ثمن . إذا لم يكن العقيد الدرسي الأول زمنياً على الأقل في قائمة الاغتيالات رفيعة المستوى، لكنه ربما أضيف إليها للحيلولة دون كشف ملابسات العملية الأكبر والأخطر التي سبقتها، وهي اغتيال سفير واشنطن في ليبيا . ويثير هذا الاقتراب الجديد من اغتيال الدرسي تساؤلات بشأن هوية وانتماءات من قام باغتيال السفير الأمريكي ورفاقه الثلاثة . فالصورة الظاهرة أن العملية تمت بشكل عفوي أثناء الهجوم على القنصلية بسبب الفيلم المسيء للرسول (عليه الصلاة والسلام) . بيد أن التحقيقات التي كان الدرسي قد بدأها وقطع فيها شوطاً، أشارت إلى أن قتل السفير لم يكن بالضرورة تصرفاً عفوياً، أو كما تردد وقتئذ أنه تم من دون أن يعلم مهاجمو القنصلية أن السفير موجود فيها أو هويته من بين بقية الموجودين . وهنا يجب الرجوع إلى ما ذكره قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا من أن بعض الأفراد المتورطين في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي على صلة بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي . وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات أخرى لتفسير دخول الغياب الأمني في ليبيا مرحلة الاغتيالات والتصفيات الجسدية . إذ يعني ذلك أن ذلك النمط الجديد من تجليات الغياب الأمني ليس نابعاً بالضرورة من البيئة الليبية أو مرتبطاً حصرياً بحسابات داخلية فقط، خاصة أن التفكير في ارتباطات بين اللجوء إلى نمط الاغتيالات وتنظيمات خارجية، لم يكن من جانب واشنطن وحدها، فقد سار في الاتجاه ذاته مسؤولون وأمنيون ليبيون، خصوصاً مع انتشار شائعات بين الليبيين بأن جماعات محلية مرتبطة تنظيمياً أو فكرياً بتنظيم القاعدة، متورطة في بعض الاغتيالات التي تستهدف القيادات الأمنية، خصوصاً تلك التي كانت ضمن منظومة الأجهزة التابعة للقذافي قبل الثورة عليه . بل إن رئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف أقرّ في وقت سابق بوجود خلايا للقاعدة في بعض مناطق ليبيا . من هنا بدأ يتردد في الأوساط الليبية أن أشكال العنف الجديدة التي بدأت تظهر في ليبيا ليست نتاج أطراف خارجية أو تنظيم القاعدة بشكل مباشر، وإنما هي نتاج تنسيق وتعاون بين هذا التنظيم وجماعات أخرى متحالفة معه في الداخل . وتمكنت تلك الجماعات من اختراق مؤسسات الدولة وتشكيل طابور خامس مهمته تعطيل إقامة أو إعادة تأهيل المؤسسات العسكرية والأمنية على أسس وطنية . وتذهب تلك التحليلات إلى أن الخطوة التالية هي تشكيل قوات موالية تنتمي لخلفية أيديولوجية دينية تمثل تلك القوات الذراع العسكرية لها . في تطبيق مشابه لما تحاول عمله جماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، أو بدأت فعلاً فيه جماعتا التوحيد والجهاد وأنصار الدين في شمال مالي الذي أصبح يخضع فعلياً لحكم تلك الجماعات الجهادية الإسلامية المسلحة . الأجهزة الأمنية ويفتح هذا بدوره ملف تطهير وتصحيح أوضاع أجهزة الأمن الليبية، فقد تزامنت مع عملية اغتيال الدرسي، تطورات أخرى لها دلالتها بالنسبة للأوضاع والتوازنات داخل الأجهزة الأمنية الليبية . حيث خضعت هذه الأجهزة لتحقيقات مكثفة بشأن واقعة مقتل السفير الأمريكي . ثم تلا ذلك تسريح عدد من العاملين في أجهزة الأمن ببنغازي، بينهم قيادات . وكان لهذه القرارات أثر بالغ على موقف تلك القيادات وبعض العاملين تحت إمرتهم من رجال الأمن . وهو ما أقر به بوضوح تقرير رسمي ليبي أعدته لجنة خاصة تابعة للمؤتمر الوطني العام الليبي . فقد اتهم التقرير الأجهزة الرسمية الأمنية والسياسية والإدارية بالتخبط وعدم التنسيق فيما بينها، بما في ذلك الأجهزة العاملة لحساب وزارة الداخلية بمدينة بنغازي . وأكد تقرير اللجنة التي ضمت اثنين من أعضاء المؤتمر الوطني العام، وجود أطراف وجماعات يهمها عدم استقرار الأمن في ليبيا أو استعادة أجهزة الأمن قوتها وفعاليتها، حدد منها التيارات المتشددة ومن وصفهم بأزلام النظام السابق، وتجار المخدرات والمهربين وغيرهم . رداً على ما ورد بالتقرير الرسمي، حاول بعض المسؤولين الأمنيين الليبيين التقليل من أهمية وخطورة القصور في الأجهزة الأمنية . حيث دافع رئيس الأركان العامة للجيش الليبي اللواء يوسف المنقوش عن الخطط والإجراءات التي تتبعها الدولة لاستعادة الأجهزة الأمنية دورها، خصوصاً عملية دمج الثوار التي تمثل حجر زاوية في إعادة بناء المؤسسات الأمنية . فأعلن المنقوش مطلع هذا الأسبوع أن خطوات دمج الثوار في المؤسسات العامة تسير وفق المقرر لها، خاصة في الجيش ووزارة الداخلية . إضافة إلى قيام هيئة شؤون المحاربين والتنمية بتطبيق إجراءات محددة لفتح مجالات مدنية أخرى أمام الثوار، سواء للعمل أو الانخراط في الحياة العامة . مثل تنظيم بعثات للدراسة في الخارج والمساعدة في تأسيس مشروعات اقتصادية وتجارية . وكشف المنقوش عن أن أكثر من خمسة عشر ألف مقاتل من الثوار انضموا طوعاً وبشكل فردي إلى الجيش الليبي ويعملون حالياً ضمن وحدات الجيش المختلفة . وبدا من تصريحات المنقوش أنه يركز على الشق المتعلق بحاملي السلاح والمقاتلين خارج النطاق الرسمي، لكن ما لم يتطرق إليه في تعليقه على التقرير الرسمي التابع للدولة، هو ما تضمنه التقرير من انتقاد واضح للعلاقة الملتبسة بين الأجهزة والمؤسسات الأمنية . وهو الملف الذي احتل جزءاً مهماً من التقرير المشار إليه . حيث لفت إلى وجود تعددية وازدواج في الجهات الأمنية . ورصد التقرير وجود وكيلين لوزارة الداخلية للمنطقة الشرقية إضافة إلى وجود مديرين اثنين لأمن بنغازي يعمل كل منهما بمعزل عن الآخر . بل وصل الأمر إلى رفض بعض القيادات الأمنية الأوامر الصادرة لها بالتخلي عن مواقعها . تحديداً أولئك الذين صدرت بحقهم قرارات نقل من مواقعهم أو إقالة بعد الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي . فقد رفض ونيس الشارف، وكيل وزارة الداخلية الذي أقاله وزير الداخلية السابق فوزي عبدالواحد، تسليم مهامه إلى صلاح دغمان الذي تقرر توليه المنصب . الأخطر في هذا الوضع أن عدداً من ضباط وأفراد الشرطة في بنغازي رفضوا العمل مع دغمان . حتى إن الشارف (المقال) استمر في تأدية عمله بينما اضطر المسؤول الجديد لمباشرة مهامه من خارج مقر وزارة الداخلية . اللافت في هكذا وضع أن وزير الداخلية السابق فوزي عبد العال، لم يتمكن من إنهاء هذا الوضع قبل خروجه في التشكيل الوزاري الجديد، الأمر الذي انعكس على أداء فرق الأمن والتشكيلات المختلفة التي تعمل في المدينة، خصوصاً تلك التي تضم عناصر من جهات متعددة مثل الجيش والمخابرات فضلاً عن الداخلية . إذ يحتاج عمل تلك المجموعات المشتركة إلى تنسيق ودعم مالي وإداري على مستوى عال، وهو ما يبدو شبه منعدم في الوضع القائم . والوضع في منصب وكيل وزارة الداخلية ليس استثنائياً، فهناك مواقع أخرى تزدوج فيها المسؤوليات، من بينها اللجنة الأمنية العليا ببنغازي، حيث أصبح لها رئيسان أيضاً . وفي أول رد فعل رسمي على تلك الاتهامات والانتقادات الحادة لمؤسسات الدولة الأمنية، بادر رئيس الوزراء الجديد علي زيدان إلى اتخاذ قرار بإعفاء جميع وكلاء وزارة الداخلية الليبية في مدينة بنغازي وتسريحهم من الخدمة . لكن من غير الواضح ما إذا كانت قرارات زيدان ستنجح في وقف هذا الازدواج المؤسسي والأمني الحاصل أم لا، فضلاً عن غموض مسألة تنفيذ تلك القرارات أصلاً ومدى تقبل القيادات والكوادر الأمنية لها . ذلك أن حالة من الاستياء تسود العاملين بأجهزة الأمن خصوصاً من الضباط، على خلفية أحداث العنف التي يتم تحميل المسؤولية عنها لهؤلاء . بينما هم يتهمون سلطات الدولة بعدم الجدية في السعي إلى إحلال الأمن، بل وأيضاً فيما يتصل بالبحث عن مرتكبي العنف والمسؤولين عنه . حيث يرى كبار ضباط الشرطة والجيش أن ما يجري من تحقيقات عقب كل عملية اغتيال ليس سوى إجراءات شكلية، تعكس صمتاً ضمنياً عن تلك العمليات، خصوصاً التي تستهدف قيادات الجيش والشرطة . إضافة إلى ذلك يشكو معظم أفراد وضباط الجيش والأمن من عدم تكليفهم بأعمال أمنية حقيقية بينما يجري إنشاء تشكيلات وأجهزة أمنية جديدة، بل ويخضع اختيار قياداتها وأفرادها لاعتبارات وانتماءات سياسية أو جهوية ضيقة . وبالفعل هناك مؤشرات فعلية على أن طريقة بناء المؤسسات الأمنية تفتقد بعض الشروط المفترض استيفاؤها في الجيوش الوطنية، فقد تم ضم بعض فصائل الثوار المعروفة بتركيبتها القبلية والجهوية إلى الجيش دون تغيير تلك التركيبة أو ضخ عناصر أخرى فيها . ويبدو أن المؤتمر الوطني العام الليبي يستشعر هذا الخطر المحدق الذي ينبع في أحد مصادره الرئيسية من داخل المنظومة الأمنية غير المتماسكة وغير المستقرة . فتقرير اللجنة التي شكلها المؤتمر جاء كاشفاً لكثير من السلبيات في تلك المنظومة . كما كشف بعض أعضاء المؤتمر علنا عن جوانب أخرى في ذلك الملف الشائك، فقد أقر عبد الجليل سيف النصر، وهو مسؤول عن ملف الداخلية بالمؤتمر الوطني، بتورط بعض الأجهزة الأمنية في انتهاكات حقوقية . مبرراً ذلك بأن بعض تلك الأجهزة يضم عناصر من نظام القذافي . لكنه في المقابل اعتبر أن خطة دمج الثوار والمقاتلين لم تكتمل بعد ولم تحقق المرجو منها حتى الآن . كما اعترف سيف النصر بأن هناك تعددية في الأجهزة، حيث يوجد 80 ألف منتسب للجنة الأمنية العليا، و132 ألف عنصر أمني تابع لوزارة الداخلية . معتبراً أن ظروف الثورة والحرب هي التي أدت إلى تضخم وتعدد هذه الأجهزة . رغم هذه الإشارات الصادرة من السلطات الرسمية التي تدل على إدراك المشكلة وخطورتها، إلا أن الإجراءات الفعلية التي اتخذت حتى الآن لمواجهتها لا تزال عاجزة عن الحد منها . الأمر الذي ينذر بمخاطر أوسع وأعمق من تلك التي شهدتها ليبيا حتى الآن قبل دخول الانفلات الأمني فيها مرحلة الاغتيالات بل والتمرد داخل أجهزة الأمن . [email protected]