أي نوع من الخطاب يحتاجه المسرح المغربي اليوم؟ وفي أي اتجاه ينصب التفكير في تجاربنا المسرحية المغربية؟ هل نحن، فعلاً، في حاجة إلى "نقد التجربة" أم نحن، بالأحرى أحوج ما نكون، أولاً وقبل كل شيء، إلى "التأريخ للتجربة وتوثيق ذاكرتها"؟ قد توحي التساؤلات بأنني أنسى أو أتناسى ما تحقق إلى حدود الآن، مع مجهودات قام بها باحثون ودارسون ومهتمون بالمسرح المغربي، سواء على صعيد التاريخ أو النقد . والحال أني أعيش في خضم هذه المجهودات وأنهل من عطاءات أصحابها، بدءاً من كتابات الأستاذين الجليلين عبدالله شقرون وحسن المنيعي، وصولاً إلى آخر ما أصدره باحثونا الجدد وباحثاتنا الجديدات من كتب هي خلاصة أطاريحهم الجامعية في مجال المسرح . فمما لا شك فيه أن المغرب يعرف حيوية منقطعة النظير على صعيد الأبحاث والدراسات التي تنصب على المسرح المغربي من زوايا موضوعاتية أو شكلية أو تاريخية، يعكس ذلك حجم الإصدارات والمنشورات في هذا الباب، والتي ينحدر أغلبها من الوسط الجامعي . لكن السؤال المطروح هو: أي وعي تؤسسه هذه التراكمات بالظاهرة المسرحية المغربية في مختلف تجلياتها؟ ألم يئن للذين يشتغلون في هذا السياق، أن يؤطروا جهودهم في إطار نسقي هو عبارة عن مشروع ثقافي متكامل حول المسرح المغربي، فيه جوانب تتعلق بحفظ ذاكرته وتوثيقها، مثلما فيه جوانب تتصل بنقد التجربة وتقويمها . إن ما يدفعني إلى توجيه التفكير في هذا الاتجاه الذي لا يمكن أن يبقى متصلاً بإرادات الأفراد وإنما يتعين أن تقف وراءه مؤسسة، إما حكومية أو غير حكومية لها من الإمكانات ما يجعل هذا المشروع قابلاً للتحقيق، هو أنني عندما أستعيد المسار التاريخي للمسرح المغربي أجد فيه حلقات مفقودة، ليست بالضرورة متصلة بالماضي البعيد، بل حتى بالماضي القريب . فذخيرة النصوص المسرحية المغربية غير مكتملة، بل وضاع منها الشيء الكثير، والوثائق المسرحية المرتبطة بالأعمال والتجارب ليست في المتناول، وأرشيفات الأفراد والمؤسسات المسرحية لا نعرف عنها الكثير، وإلى حدود اليوم، لا توجد - في حدود عملي - موسوعات ولا أنطولوجيات ولا دلائل لأعلام المسرح المغربي . كل ما هناك محاولات أولية لنشر بعض الأعمال الكاملة لمسرحيين مغاربة من لدن وزارة الثقافة . هذا على صعيد النصوص، أما على صعيد الإخراج والممارسة، فلم نقف إلى حدود اليوم على كتابات لمخرجينا يوثقون فيها تجاربهم ويحدثوننا عن مغامراتهم الإبداعية مع الكتابات التي تعاملوا معها، ولا على كتابات لممثلين أو ممثلات يسجلون فيها منعطفات سيرتهم الفنية . أشير إلى هذه الحلقات المفقودة - على سبيل المثال لا الحصر، كي أبرز أن إعادة ذاكرة المسرح المغربي تتطلب أولاً توفير المادة التي هي الوثيقة المسرحية بمختلف أشكالها (نصوص، شهادات، سير، مطبوعات . . . إلخ) . إن من شأن هذه العملية أن تساعد الباحث على إعادة صياغة مداخل متنوعة لكتابة تاريخ المسرح المغربي، أقترح من بينها ما يلي: 1- مدخل الإعلام: وهنا ينبغي أن نبدأ من حيث ينبغي البدء، أي من محمد القري، وعبدالواحد الشاوي، والمهدي المنيعي، وعبدالخالق الطريس، وغيرهم، لنصل إلى جيل الشباب الذي يعيش بين ظهرانينا اليوم . 2- مدخل الفرق: القديمة منها والجديدة، من فرقة التمثيل العربي لراديو المغرب، والمعمورة، والعمالي، والقناع الصغير، وغيرها وصولاً إلى فرق الجيل الجديد . 3- مدخل المدن: فالمعروف أن التجربة المسرحية المغربية اقترنت في بداياتها وامتداداتها بمدن بعينها كفاس وسلا والرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة وتطوان، ثم وجدة وأكدير فيما بعد، من ثم، يبدو اتخاذها منطلقاً للتاريخ في غاية الأهمية . 4- مدخل النصوص: فالنص هو الذي يؤسس ذاكرة المسرح، وعليه فتأسيس ذاكرة نصوص المسرح المغربي من إسهامات الرواد وصولاً إلى نصوص الجيل الجديد أمر في غاية الأهمية . 5- مدخل الريبرتوارات: ذلك أن تنوع روافد التجربة المسرحية المغربية فتح الباب أمام تراكمات فرجوية تحتاج التصنيف والتبويب في خانات محددة، إما عبارة عن اتجاهات أو تيارات أو مدارس أو غير ذلك، فتمسيات من قبيل مسرح شعبي، كلاسيكي، تجريبي، تجاري . . . إلخ، يمكن اتخاذها منطلقات لتوثيق تجارب مسرحية ووضعها في إطارها التاريخي . 6- مدخل الثنائيات: * المسرح الهاوي/ المسرح المحترف . * المسرح الإذاعي/ مسرح التلفزيون . * الممارسة/ التنظير . * المسرح والدولة/ المسرح والنقابة . * التجربة الفردية/ التجربة المؤسسية . * الموهبة/ التكوين المسرحي . * الإبداع/ النقد . 7- مدخل الأجيال والحساسيات: فإذا كانت ثنائية الهواية والاحتراف هي التي أطرت التاريخ لمرحلة مهمة من مسرحنا، فاليوم نحن أمام صيغ جديدة تعبّر عن ممارسات مسرحية لأجيال وحساسيات مختلفة منها: المسرح المدعوم، المسرح الجامعي، المسرح المدرسي، مسرح الشباب، المسرح الأمازيغي . ولا مناص لنا من أخذ هذه المتغيرات في الحسبان . 8- مدخل المهن المسرحية: لم يكن المسرح، يوماً، عمل مؤلف فحسب، وإنما عمل فعليات أخرى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المخرجين والممثلين والسينوغرافيين . والتجربة المسرحية المغربية زاخرة بأسماء لها رصيدها في هذا الباب، وبالتالي فهي جديرة بأن نكتب تاريخها الخاص . إن تنويع المداخل التاريخية المتصلة بذاكرة المسرح المغربي يؤكد أننا إزاء تجربة يصعب اختراقها في أسماء بعينها، فمهما كانت قيمة هذه الأسماء تبقى مجرد أشجار وراءها غابة كثيفة من العطاءات الفردية والجماعية، نمت شتائلها الأولى خلال العقود الأولى من القرن الماضي، وماتزال أغصانها ممتدة إلى اليوم تعد بالمزيد من العطاء . لكن هل يستقيم الوعي التاريخي بالتجربة المسرحية الذي نتطلع إلى تحقيقه باعتباره مشروعاً ثقافياً جماعياً، دونما وعي نقدي، فللخروج من دائرة التقديس والتهليل والتضخيم، لابد من تلك المسافة النقدية الضرورية التي تجعلنا نضع التجارب في سياقاتها، ونفكك مقوماتها الإبداعية، بل ونتجرأ على إصدار الأحكام عنها، ونتسلح بالرغبة في إعادة النظر في العديد من البديهيات والصور النمطية التي ترسخت، عبر الأجيال، عن تجاربنا المسرحية . لكن حتى يتحول "نقد التجربة" إلى مشروع جماعي ممتد في الزمان والمكان، وحتى نحافظ على جذوته المعرفية مشتعلة بيننا، لا مناص من أن يتساوق الوعي التاريخي بالوعي النقدي ويسيرا معاً في اتجاه تأسيس خطاب ممكن عن المسرح المغربي، وأن يتم احتضان هذا المشروع مؤسسياً، لتهيئ الشروط الكفيلة بحفظ ذاكرة المسرح المغربي وقراءة تجاربه .