إميل أمين هل يمكن أن يتحكم قطب واحد أو دولة واحدة فى مقدرات الخليقة كلها؟ منذ سقوط الاتحاد السوفيتى بات المشهد وكأنه زمن الإمبراطورية المنفردة ممثلة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. إن قراءة متأنية لحال تلك الدولة الإمبراطورية تقودنا بالقطع إلى القول إن زمن الإمبراطوريات المنفردة بشكل عام وليس أمريكا على نحو خاص قد ولى ولم يعد تنفع معها سياسات الحروب الاستبقاية ولا حتى فلسفة القوة الناعمة التى مؤداها ببساطة أن ما لا تستطيع القوة الغشماء العمياء أن تحققه يمكن للقوة الناعمة أن تدركه. على أن المرء يفهم تماما لماذا باتت منطلقات القوى العمياء غير مجدية، وخاصة بعدما رحلت الإدارة الأمريكية التى حاولت بلورة الفكر الإمبراطوري، فكر المحافظية الجديدة الذى يسعى لصبغ القرن الحادى والعشرين بصبغة أمريكية خالصة دون أن ينجح فى إيصال رسالة ايجابية واحدة للعالم بل ترك من ورائه رسائل الكراهية المتبادلة، والحروب مفتوحة، والعداوات الغائرة فى النفوس، أما الذى يحار المراقب للشأن الإمبراطورى وأمريكا كمثال فى فهمه فهو كيف للقوة الناعمة أيضا أن تفشل فى دعم قيام الإمبراطوريات منفردة وتبقى الإمبراطورية الأمريكية المنفلتة على حد وصف المؤرخ البريطانى الكبير اريك هوبسبوم النموذج القياسى للتجربة والحكم ؟ يمكن القول وباختصار غير مخل إن القوة الناعمة مسعى لتحقيق المصلحة الامبراطورية لكن عن طريق اتباع الأساليب الدبلوماسية والمشاهد الإعلامية البراقة، فيوما ما كانت مجلة المختار من ريدرز دايجست مثالا على الاختراق الأمريكى الناعم للعالم والترويج لأفكار البلد الخارج منتصرا من الحرب العالمية الثانية والمتوج فى قمة يالطا قطبا دوليا ووريثا للإمبراطورية البريطانية، ولاحقا فى زمن الحرب الباردة لعبت مؤسسات أمريكية مختلفة ثقافية واقتصادية وإعلامية أدوارا بالغة الأهمية وشديدة الخطورة فى الصراع مع حلف وارسو ما قاد نهاية الأمر إلى تفكك الاتحاد السوفيتي... يرتفع فى الأفق تساؤل صارخ ... لماذا بات فشل القوة الناعمة هذه الأيام أمرا شبه محتوم ؟ يجمل المؤرخ البريطانى نيل فيرجسون الأسباب التى تجعل من القوة الناعمة الأمريكية غير ذات جدوى فى ثلاثة أسباب أو منطلقات ، أو نواقص جوهرية وهي: عيب فى الاقتصاد ، خلل فى القوة البشرية ، نقص فى الاهتمام والانتباه .... ما معنى ما تقدم ؟ أولا : أن اعتماد الولاياتالمتحدةالأمريكية على رأس المال الأجنبي، أمر يشبه التوازن على حبل مشدود من على علو شاهق، وهذا ما بدا يتجلى حاليا، فحتى لو احتفظت السلطات المالية الأمريكية بمقدرة أبطال السيرك فحتما ستتعرض لضغط على معدل الصرف وأسعار السندات فى آن معا، وربما يفسر هذا ما يجرى من مطالبات عالمية بإيجاد سلة عملات بجانب الدولار ، حتى لا تتعرض الدول لحالات الإفلاس حال ضياع الدولار كقيمة نقدية فى الأسواق. أما النقص الثانى الذى يبطل مفعول القوة الناعمة للولايات المتحدةالأمريكية ويراكم فى واقع الحال من مأزقها الإمبراطورى الآني، فهو مشكلة النقص فى القوة البشرية العسكرية، ذلك رغم زيادة عدد سكان أمريكا بنسبة واحد وربع فى المائة سنويا، فإن الإقبال على التجنيد الاختيارى ضعيف، وحتى بعد أن لجأت واشنطن إلى تقليد الإمبراطورية الرومانية من قبل عندما كانت تمنح الجنسية الرومانية للجنود غير الرومانيين الذين يشاركون حروبها. والركن الثالث الذى يبطل أى فاعلية أو حيوية لفرصة أمريكا فى امتدادها الإمبراطورى هو النقص فى الاهتمام والانتباه الذى يبدو أنه متأصل فى النظام السياسى الأمريكى ويهدد بوقف عملية إعادة البناء والإعمار فى كل من العراق وأفغانستان . ويعنى ذلك بصورة أكثر سلاسة أن التساؤل الذى بات مطروحا فى أوساط الانتلجنسيا الأمريكية وبعيدا عن مؤامرات المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى هو : ما هو التزامنا تجاه العالم؟ الشاهد أن الأمريكيين قد برعوا فى إلقاء المواعظ حول القيم والديمقراطية ، وحقوق الإنسان لكنهم أخفقوا فى إقناع الشعب الأمريكى بان يدفع ويؤيد ولم توجد بعد زعامة تقف وتقول هذا هو الحق فاتبعوه... هذه هى المشكلة الأساسية... لابد من وجود إرادة سياسية ودعم وتأييد لهذه الأمور ... قد يقول قائل وماذا عن الرئيس باراك اوباما ومشروعه لإعادة الاهتمام والانتباه ؟ الثابت أن الرئيس اوباما قد نجح نجاحا باهرا فى إطلاق الشعارات ودغدغة العواطف والمشاعر فى أثناء حملته الانتخابية، لكن اليوم وبعد مرور نحو ست سنوات من ولايتيه لم يرى العالم عامة ولا الأمريكيون خاصة منجزا حقيقيا لما وعد به فى الداخل أو الخارج . هل يمكن أن نقول أن وقت الاهتمام والانتباه قد انقضى ؟ ربما تكون هذه رؤية تشاؤمية لكن واقع الحال هو أن تركة الرئيس بوش ومن قبلها السياسات الإمبراطورية الأمريكية قد أسهمت فى ضياع وانحلال عقد القوتين العسكرية والناعمة، واغلب الظن أن الإمبراطورية الأمريكية لن تنفعها سياسات القوة الناعمة وأنها تعيش لحظات السقط للمولود الإمبراطورى الذى تعجل أصحابه زمن ولادته ،وان بقيت الولاياتالمتحدة لزمن بعيد لاعبا أساسيا ومركزيا مع نظراء كثر ، لكنها لن تكون أبدا قطبا متفردا فى زمن انتهت فيه فكرة الأقطاب المنفردة، ويمضى فى طريق التجمعات الكونية الجيوسياسية مرة والى إشعار أخر . .. ايلاف