السيد ولد أباه آثار مقال جريئ كتبه المفكر اللبناني المعروف الدكتور رضوان السيد مؤخراً بصحيفة «الشرق الأوسط» حول «الحملة على الإسلام والعرب» جدلا واسعاً، باتهامه عدداً من الكتاب والباحثين العرب الذين ينحدرون في الغالب من المدرسة الأركونية (نسبة إلى محمد أركون) بمحاربة الإسلام السني باسم تطبيق المناهج الإنسانية الحديثة على التراث، ذاكراً مجموعة مشهورة من الأسماء النشطة في حقل تفكيك ونقد الخطاب الديني، من بينها الباحث والمترجم السوري «جورج طرابيشي» الذي انبرى بالرد على مقال رضوان السيد في الصحيفة ذاتها. ليس من همنا دخول الجدل في سياقه الحدثي المباشر، أي ما يتعلق بالأوضاع العربية الراهنة التي لا خلاف على طبيعة تشخيصها (توقف رضوان السيد عند الموضوع السوري وتداخلاته مع الملفات الإيرانية واللبنانية والعراقية)، وإنما سنكتفي بالتعرض للشق المتعلق بنظرة المدرسة النقدية التراثية للتقليد السني التي يمكن بالفعل إرجاع خلفياتها المنهجية والنظرية إلى الراحل محمد أركون. كان أركون -وقد عرفته شخصياً عن قرب وكتبت حول أعماله مبكراً قبل أن يُترجم أغلبها- باحثاً متمرساً جاداً على الطريقة السربونية العريقة. تعلم على أيدي كبار المستشرقين وكتب أطروحة متميزة حول «ابن مسكويه»، واهتم منذ كتاباته الأولى بما سماه «الحدث القرآني». وفي حين تمحور اهتمام المفكرين العرب منذ نهاية السبعينيات بالحقل التراثي الذي عنوا به التقليد الثقافي المكتوب في عصور الإسلام الوسيطة، فإن أركون (الذي لم يكن مختصاً في الفلسفة ولا العلوم الاجتماعية كما يظن عادة) أراد أن يقدم منهجية تأويلية للنص الديني في مستويات ثلاثة: إبستمولوجي يتعلق بتكون المفاهيم والأنظمة المعرفية، وانتربولوجي سيميائي يتعلق بأنماط التلقي في المتخيل، وتاريخي نقدي يتعلق بمدونة النص ومسار تشكله وتقنينه. ومع أن أركون اهتم بجوانب عديدة في التراث الإسلامي، فإن مركزية القرآن ظلت هي الموجه لكل اهتماماته، وإن لم يخرج هذا الاهتمام عن التأطير المنهجي والمقترحات العملية، مع بعض التطبيقات القليلة في تناول بعض السور والآيات القرانية. من يقرأ أركون جيداً يدرك أنه لم يحسم في الواقع خياره المنهجي بين ثلاث مقاربات ظل يتأرجح بينها، وهي النقد الفيللوجي التاريخي للنص، على غرار ما هو متبع في نقدية العهدين القديم والجديد (نوه أركون بكتابات المراجعين الجدد الذين نفوا وحدة النص القرآني واعتبروه نتاج العصور الكلاسيكية المتأخرة)، والمنهج الانتروبولوجي -التأويلي في النظر إلى الخطاب القرآني كنص يفسر على غرار الأدبيات الغرائبية الخارقة التي هي «أساطير مؤسسة» للنظم الاجتماعية، والمنهج الإصلاحي التنويري الذي يسعى لتبيئة وتأصيل قيم العلمنة والذاتية والتحديث في أرضية الخطاب الديني ذاته. تعرضنا ببعض الإسهاب لمشروع أركون، لأننا نعتقد جازمين أن كل نقاد التراث لم يخرجوا عن إحدى هذه المقاربات الثلاث، وحتى المرحوم الجابري الذي لم يكن أركونيا لا في المنهج ولا الرؤية انتهى في دراساته القرآنية الأخيرة إلى ما هو قريب من النقد التاريخي للنص وإن أستند إلى مراجع تراثية محضة. ما أراد رضوان السيد أن يبينه، ونحن نوافقه في ذلك، هو أن هذا الجهد الهائل الذي بذل في الأعوام الأخيرة لتفكيك التراث ونقده، لم يفض إلى نتائج علمية رصينة، وإنما كانت نتائجه كارثية من حيث توظيفه الواعي وغير الواعي أحياناً في هدم التقليد السني الذي يعاني من انشقاقات داخلية حادة من آثارها الحركات الأصولية المتطرفة والسلفيات الجهادية وتيارات الإسلام السياسي المؤدلجة، في الوقت الذي تقف المؤسسة التقليدية عاجزة عن امتصاص هذه الصدمات العنيفة. ليس في هذه الملاحظة ما يعني التعصب ورفض تطبيق المناهج النقدية على الخطاب الديني والنص التراثي، بل هو كشف لحيلة من الحيل الأيديولوجية المعروفة التي تتمثل في استخدام أدوات التحليل والوصف والتشخيص كآليات للشحن التعبوي وتوجيه الوعي بذريعة موضوعيتها وحياديتها المعيارية. فكيف يمكن أن نبرر منهجياً الجمع بين التاريخانية الفيللوجية في نقد النص الديني والنظريات البنيوية والتفكيكية التي قامت أساساً على رفض تلك المقاييس التي كانت سائدة في تاريخ الأفكار؟ وكيف نحمل المقاربات الحفرية والتفكيكية والتداولية شحنة تنويرية أيديولوجية، وهي في عمقها ومنظورها نقيض النزعات الإنسانية والحداثية والتنويرية؟ من الواضح أن هذه الأدوات تستخدم بطريقة تلفيقية وغير دقيقة في التعامل مع النص الديني والتراثي، دون أن تسلك أياً من المقاربات الثلاث التي نجدها في السياق الغربي وهي: المقاربة الهرمنوطيقية (التأويلية) التي أعادت تفسير وفهم النصوص الدينية في مناح مبتكرة عززت مسلك الإصلاح الديني دون قطيعة راديكالية مع منابع الإيمان والتدين، المقاربة النقدية التاريخية التي سمحت بالتحقيب للفكر وتتبعه في مكوناته البنيوية وتحولاته دون مصادرات أيديولوجية موجهة، المقاربة التفكيكية التداولية التي حررت دلالة النص من سلطة التأليف والتلقي في مصادره وسياقات قراءته مبينة الإمكانات الخصبة وغير المتناهية التي يتضمنها في دلالاته وهوامشه. من المفارقات المثيرة أنه في الوقت الذي تعرف اليوم الدراسات القرآنية في الغرب طفرة نوعية ببروز كتابات رصينة حول البنيات النصية والبلاغية والتركيبية والدلالية في القرآن الكريم، تقف على النقيض من أدبيات الاستشراق التقليدي والمراجعين الجدد (من أهمها أعمال جنفييف غوبيو وميشل كويبرز وفرانسوا ديروش وآن سيلفي بواليفو.. إلخ)، نلمس أن الوعود التي طالما سمعناها من باحثين عرب مشهورين اقتحموا حقل الأبحاث القرآنية لم تتجاوز ما أشار إليه رضوان السيد من هدم الإسلام السني باسم تطبيق أيديولوجي غير علمي ولا موفق لمناهج حديثة لم يتم استيعابها ولا فهمها، فهي بهذا الوجه الآخر لخصوم الإسلام السني من المنشقين عليه الحاملين السيف على مؤسساته الأهلية وعلى الدولة. ايلاف