بات واقع المثقف، والدور المناط به، يثاران مرة أخرى، في ظل ما يجري في العامين الأخيرين، حيث يتم استقراء وظيفة هذا المثقف، ووضعها تحت المجهر النقدي، وذلك في ظل بروز الحاجة إلى دوره، لاسيما أن هناك تقويماً يجري له، انطلاقاً من مدى تفاعله مع اللحظة التاريخية التي يمر بها مجتمعه، وذلك في ظل معايير ذات أرومة معروفة، تتعلق بدرجة وعي هذا المثقف، وتموقعه، ضمن مشهد المجريات الجديدة التي تكاد تكون مختلفة عما دأبت عليه التقويمات السابقة، ضمن ظروفها الخاصة، ما أدى إلى ألا يبقى للمثقف، أي مسوِّغ، في ما إذا تجاهل ما يدور من حوله، أياً كان سبب ذلك، لأن القضايا التي تجري باتت أكثر إلحاحاً، وهي لتتطلب منه، إبداء رأيه، فيها، سلباً أو إيجاباً، بالرَّغم من أن إبداء مثل هذا الرأي محفوف بالحساسية، والأخطار المحدقة، على اعتبار أن إبداء الرأي، لم يعد مجرد موقف -فحسب- قد يصيب، أو يخطئ، بل إنه مسؤولية كبرى، يُزجُّ به في خندق ما، موائماً أو مناقضاً، جملة المصالح الكبرى، وهي مصالح الوطن والمواطن . إن حجم التطور الهائل الذي تشهده أربع جهات خريطة العالم، وبروز دور ثورة الاتصالات، على حين غرَّة، وقفز الحدث مهما تضاءل في الصغر إلى دائرة الضوء ليكون عالمياً، قابلاً لأن يتم التعكز عليه من قبل القوى التي باتت توجه هذه الأحداث، عن طريق "ريموت كونترول"ثورة الميديا، بات يلغي المنزلة بين المنزلتين، ويزجّ بكل الطاقات الموجودة، لكي يكون لها دورها، في ضبط حركة الحياة، وجعلها شأناً شخصياً، بالنسبة إلى المثقف، فلا يمكنه القفز على أية قضية من حوله، بل وفي العالم، وهو بمثابة "إعادة اعتبار"لدوره المعرفي، بل والنبوئي، كما أنه محاولة لوضعه في لجة الحدث، إذ بات لزاماً عليه، أن يواكب سير عجلة الحياة، ليؤسس ركيزة رؤاه، ومنظومة قناعاته التي لابد من الانطلاق منها، لئلا يرتمي في مزالق لا يريدها، إما من خلال التطوع بتهميش رسالته، أومن خلال الارتماء في دبق خطل الممارسة، إزاء الأحداث الأكثر أهمية . وحقيقة، ثمة أسماء ثقافية كبيرة، عربياً، بل وعالمياً، باتت مواقفها مما يجري حولها، تطرح أسئلة كثيرة، انطلاقاً من علاقتها بما يجري، وذلك من خلال درجة استيعابها لتفاصيل الواقع، ولعلَّ تلك المواقف التي تجافي الواقع، تعد الأكثر إثارة للغط، لاسيما إذا كانت قامات هؤلاء المثقفين عالية -إبداعياً- حيث تأتي المفارقة من زاوية التساؤل، ترى كيف أن هذا الاسم الذي اكتشف أدقَّ أسرار الإبداع، وانصرف إلى صناعة موازينه، إزاء خياري الخير والشر، مشخِّصاً كل ذلك برؤية، ثاقبة، عميقة، حكيمة، بيد أنه بات إما يتلكأ، أويتيه، أثناء إطلاق الموقف المطلوب، في تقويم أي حدث عظيم، من دون القيام بترجمة واقعية لكل تلك الرؤى النظرية التي أمضى مرحلة طويلة، الأمر الذي يضعنا في مواجهة حالة فصام، في مثل هذه الحالة . ركزت الدراسات التي تناولت المثقف، على مسألة مهمَة، وهي الدور الذي يلعبه في حياة مجتمعه، وتم وضع معايير واضحة في هذا المجال، تبين من خلالها، أن المثقف أياً كان موقفه، من أية ظاهرة تجري من حوله، فإنما هو يخدم أحد الاتجاهين المتناقضين "الخير أو الشر"في أيِ مجتمع تتفاوت مصالح أبنائه، ولا تلتقي، ولا غرو هنا، أن نكون أمام هكذا موقفين متناقضين، كل منهما يتأسس انطلاقاً من مصلحة صاحبه، بل ومن زاوية الرؤية التي قد تحدث التباساً، أوضبابية، هنا أو هناك، ما يبعد المثقف عن جادة الصواب، ويجعله يتخذ موقفاً لايناسب مكانته، وعلو قامته، وهوما ينعكس سلباً عليه، أمام أية محاكمة تاريخية، لاسيما في ما إذا كان من شأن موقفه إلحاق الضرر بمن حوله، ويتناقض مع المهمات الوطنية الكبرى التي تقع على كاهله، ولا بدَّ له من النهوض بها . وبدهيٌّ، أن المطلوب من المثقف، في مثل هذه الحالة، لاسيما عندما تكون مصلحته الشخصية، قاب قوسين وأدنى من التهديد، أن يلجأ إلى قراءة المصلحة الأكبر، مجازفاً بمصلحته تلك، من دون أن يتورع عن قولة الحق، ضمن لحظتها، بلا أي إبطاء، لأنه -في حقيقته- يشكل بوصلة لمن حوله، وإن مواقف المثقفين في الظواهر الكبرى الأكثر عرضة لوضعها على بساط البحث، حيث لا نزال نحاكم مثقفي الثورة الفرنسية -على سبيل المثال- من خلال قربهم أوبعدهم من تبني هاتيك المصالح الكبرى التي أثبت التاريخ صوابيتها، مقابل خطل سواها من مصالح عرضية، ينعكس تبنيها وبالاً على أصحابها . ثمة تراخ كبير، تعرض له المثقف خلال العقود الأخيرة، وذلك لأسباب كثيرة، تتعلق بطبيعة الاستبداد، حيث تم تغريب المثقف عمن حوله، وفي التالي، تم تغريبه عن جوهر رسالته الأولى، وهو ما تم تحت حجج وذرائع شتى، منها اللا أبالية، وهي -في الأصل-ترجمة لاغتراب الفن عن المجتمع، وفق بعض النظريات التي سادت بعيدالحرب العالمية الثانية، على وجه الخصوص، وراحت تدعو لشرنقة الفنان ضمن جماليات إبداعه، وهو ما كان يدعو لتناسي أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو أن لا إبداع حقيقياً، ما لم يكن له جوهر يخدم الإنسان، أولاً وأخيراً، الأمر الذي أكدته تجارب العقود الأخيرة الماضية، على نحو خاص، حيث بتنا نجد، أن تلك النصوص الأيقونية التي أدارت ظهرها لمن ينبغي أن توجه إليهم أي خطاب فني إبداعي، لم يعد لها أي جدوى البتة . لا يمكن للمثقف الذي يصرف خطابه عن مساره الصحيح، في خدمة أهله ومجتمعه، أن يستحوذ اهتمام كل هؤلاء، مهما حاول أن يبدع الذرائع، وهي -في الغالب- تعتمد على البلاغة، وتتشبث بجزئيات بسيطة، لاشأن لها، يتم تعميمها، بداعي التعمية، وهو سلوك خطر، لاسيما عندما يأتي ذلك على حساب حيوات الناس، أو حرياتهم، أو مستقبلهم، وهو ما قد يكون لقاء ثمن مجازي، أو واقعي، يقبضه المثقف -إذ قد يكون قبض ريح- بيد أن ذلك يأتي على حساب تاريخ صاحبه، وما أكثر ما يفقد بعضهم قيمة أصالة إبداعه، أوموقفه، لقاء هذا الثمن البخس غير القابل للصرف البتة . إذا كانت هناك أحداث، تتطلب إبداء موقف المثقف، فذلك يأتي من أنه أمام خيارين فقط، ولابد أن يحدد موقفه، وهو في التالي موقف مسؤول، يحدد جدوى رؤيته للعالم، وإنه من المعروف، أنه أمام هكذا حالتين متناقضتين، فإن خيار الخير، ومصلحة الناس، الغلابة، المظلومين، في وجه ظالميهم، هي التي يجب أن تستأثر باهتمام المثقف، وهو هنا، عبر تحديد موقفه أمام خسارة طرف في المعادلة، لابد منه، لكنها خسارة لابد منها، بيد أن هذه الخسارة، تتضاعف، في ما لوكان الموقف المتخذ من قبله بين بين، إذ يضطره ذلك لخسارة أطراف المعادلة كافة، وهي الخسارة الأفدح، والأعظم، لأنها أعلى درجات خسارة الذات . إن مثل هذا الأنموذج الثقافي الرفيع الذي باتت الحاجة إليه، الآن، شديدة، كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، يستدعي حضوره غياب أي أثر لثنائيتي الفساد والاستبداد، كما أنه يعيد رسم صورة ذلك المثقف الذي طالما كان طليعة شعبه، وتعد آراؤه، مراجع ليس على مستوى الأكاديميات، وبطون الكتب فقط، وإنما هي مراجع في الوقت ذاته للناس البسطاء الذين يستعيدون بأدوارهم، من خلاله الثقة بالمثقف الذي تمت محاولات إقصائه -تاريخياً- عن أداء وظيفته، من خلال دفعه، في حالات كثيرة، إلى تواطؤ ضمني مع منافعه الخاصة، ما يجعلنا نستذكر مقولة المفكر العراقي الراحل هادي العلوي الشهيرة عن المثقف الذي "يأكل جبنه بجبنه«، حيث يعشش هذا الضرب من المثقفين إلى جانب بؤر تلك الثنائية . ويستطيع المثقف الذي لا يكترث بالصوى الطارئة التي توضع في وجه رأيه، ليعلن عنه، بصوت عال، مهما كانت ضريبة ذلك، على حساب لقمته، وحريته الجزئية، بل وحياته، في أحايين كثيرة- وكلها مؤشرات عن ذروة التضحيات- يقدمها المثقف الاستثنائي الذي يسمى "ملح الأرض"وهو هنا "ملح الحياة الاجتماعية«، بكل جدارة . لا يختلف اثنان، أن الحاجة إلى المثقف تزداد يوماً بعد آخر، لكي يواصل أداء الدور الذي أسند إليه، وانقطع عنه، إلى فترة زمانية طويلة، إذ بات لا مناص من ذلك، أمام تفاقم أوضاع أهله من حوله، وصار من اللزام عليه، أن يستعيد الدورالرئيس المسند إليه، كي يلعب خطابه أكثرمن وظيفة، وفي أكثرمن جهة، ليتجاوز بذلك اتخاذ الموقف الذي غدا من ألف باء هذه الوظيفة، وكيميائها، ليبدأ بتفكيك خيوط مشهد اللحظة، المتشابكة، من جهة، إلى جانب الإسهام في تقديم رؤيته المستقبلية، مع سواه من المعنيين، سواء أكان ذلك، على نحوفردي، أو ضمن فرق، وورش، ومراكز دراسات خاصة، ليعود بذلك إلى موقعه الطبيعي، ويمارس خطابه دور الرقابة على الحياة العامة، من أجل ضمان سيرها في الاتجاه الصحيح . وهكذا، فإننا لنجد -على هذا النحو- أن وظيفة المثقف، في جوهرها، ليست بسيطة، كما أريدلها إلى وقت طويل، تماشياً مع روح آلة الاستبداد التي تسعى لتكريس أنموذج المثقف الهش، الخانع، عديم الملامح، الذي يكون على طرفي نقيض ومصالح وطنه ومواطنه، بل إن هذه الوظيفة، أعمق من حدود الممارسة التقليدية التي تمت إلى وقت طويل، فهي مركبة، تتفاعل، وفق شكلها الصائب، مع اللحظة الزمانية، كي تؤثر وتتأثر، في آن، ومن هنا، فإن عملية استعادة المثقف لوظيفته الفعلية، إنما تعني، استعادة نبض الحياة، كي تسلك في مدارجها الطبيعية، دونما أي قسر أوعسف، يشوهان جمالياتها التي لا تحصى . إذا كان هناك ما يمكن وسمه، ب"إعادة توزيع المهمات"للمثقف، على ضوء ما سبق، وتم تناوله، فإن هذا لا يدعو -بأي حال- على خلط الحدود بين مفردات الوظيفة الثقافية، لأن اتخاذ الموقف التاريخي الصائب، يموقع المثقف، ويعفيه من تطويع خطابه الإبداعي ليكون صورة طبق الأصل، عن الخطاب السياسي، لأن لكل من هذين الخطابين لغته، ووسائله، وأدواته، إذ لا يطلب من الروائي -على سبيل المثال- أن يجازف بإبداعه، لمصلحة خطاب آخر، حتى يمنح صكوك الغفران، ويصل إلى مستوى الخطاب السياسي، بل إن وضوح الرؤية إليه، وتناوله للموقف، من منظور إبداعي، يجعله محققاً لما هو مرجو منه، وقد يتحقق هذا، من خلال إبداء موقفه العام، وهو يميز تفاصيل المشهد، من حوله، بدقة عالية، في إطارثقافي، لايأتي على حساب خطابه الإبداعي، مادام أن لكل من الثقافي والسياسي أدواتهما الخاصة، في معالجة أية ظاهرة، وإن كانا سيلتقيان، كل بطريقته، لأن لغة الشاعرفي نبذ وإدانة الجوع، والحرب، والظلم، تتأسس على نحومختلف، مما يفعله السياسي، عبر مقال عابر، أوتصريح، أوبيان، أوخطبة، وهو أمر مهم، لا بد من معرفته لدى المثقف، حتى يحقق -في التالي- التوازن الفني والجمالي لخطابه، لأنه جد مهم، في ما إذا اقترن بالرؤية الصائبة للحياة .