إذا قرأنا الحروب بين الجمهوريين والملكيين لثماني سنوات بعد قيام ثورة سبتمبر من سقفها الخارجي، فالطرف المصري ثقل قومي إما يسعى لتحرر كما طرح مع الرجعية، وربما فكر في مناورة لصالح القضايا القومية مع الصراعات الأكبر "أميركا والسوفيت" تجاه منطقة مصالح استراتيجية وشديدة الحساسية. السعودية كان يكفيها لتبرير موقفها أنها طرف مستهدف ويدافع عن النفس حتى مع احتمال وجود حسابات أخرى أو قضايا لها أو ترابط موقفي مع طرف في الصراعات الأكبر. السوفيت كان موقفهم مع الثورة وداعم لها ولكن ليس بالقدر الذي يحس منه بأن الصراع يعنيهم بأي قدر من المباشرة، وهم بالتالي لم يكونوا سقفاً فوقياً للصراع فوق السقف القومي، فيما أميركا لم تمارس لا التضاد مع عبدالناصر ولا مع السوفيت في الدعم أو الموقف المباشر مع الملكيين، بل اعترفت بالنظام الجمهوري. إذا قرأنا تلك الحروب من سقفها الداخلي فسنجد أن الجمهوريين رفعوا شعارات تطرف من معطى وواقع السقف القومي كإدانة الرجعية فاقدة الصلاحية والمشروعية، والسعي لإجهاضها كعمل إعلامي وسياسي، كما تمارس أثقال المعارضة "دمقرطة" الآن كتطرف صراع ثوري تحت غطاء القومية أو "الدمقرطة". بالمقابل فالملكيون مول ثقل وتطرف جهلهم فقط، فلا وعيهم وصل إلى تفكيك وصنع النظام الإمامي بانغلاقه وظلمه، ولا يسمح جهلهم أمام توقف لمقارنة التطورات حتى مما يصلهم من مال وسلاح وتطورات ونحوها. فأي إغلاق أو انغلاق حسب بيئة واستجابات كل مجتمع يمارس تجهيلاً وغسيل دماغ في آن واحد حتى في مجتمعات يتاح فيها التعليم إلى أعلى مستوى؟! ولذلك يستحسن التعمق حتى في مقارنات واقع ودوافع حب الشعب الكوبي للزعيم كاسترو، وحب الشعب الكوري الشمالي للزعيم كيم إيل سونج ومن ثم نجله جون كيم إيل. فنحن نستسهل الحكم بأن الشعب الكوري الشمالي لا يحب زعيمه، وإنما مضطر لإظهار ذلك تحت القمع أو خوفا منه، فإنني مع ذلك اختلف وأراه حباً اندفاعياً وليس دفاعياً، وقد نتفق بالتعمق في استقصاء أسبابه. ربما بيئة اليمن واستثنائية الصراعات داخل الحزب الاشتراكي وبين قياداته تحت سقف الخيار الشيوعي لم تبلور مثل هذه الزعامات، وحيث نجد أن لينين أو ماو أو كاسترو أو كيم إيل سونج بات حضورهم وعياً وواقعاً أكبر من أحزابهم الشيوعية. الذي يلاحظ في حروب الملكيين والجهوريين التي استمرت ثماني سنوات بالرغم من استخدام ادعاءات وشعارات "أسلمة" في مواجهة الطرف والتطرف الآخر صراعياً، إلا أنه لم يتخلق فيها أو ينبثق منها تطرف في تنظيم أو مسلك وتصرف، فلم نحس بذلك الفارق كما مع الإسلاميين في حرب المناطق الوسطى أو ما عرف لاحقاً بالخمينية أو القاعدة حتى الحالة الحوثية. يلاحظ أيضا أن حركة الأخوان المسلمين في مصر التي اختلفت مع عبدالناصر واستهدفها، لم تتداخل في الصراع ربطا بالسعودية، ولم تتداخل السعودية كذلك، ولذلك فالحساسية تجاه "الأخوان" ظلت مسألة مصرية معزولة عن الآخرين والصراعات الأخرى، وذلك ما تقدمه حالة الشهيد محمد محمود الزبيري وغموض اغتياله ونهايته. إذا إمامة بيت حميد الدين مارست انغلاق التجهيل وغسيل الدماغ، فحسابات الصراعات فيما بعد الاتفاق مع الملكيين تركت صعدة بين مناطق معزولة بمستوى من الانغلاق، وبالتالي فالحوثي والصراعات في صعدة والتطورات الصراعية شاركوا في تحويل مستوى من الجهل الواسع إلى جهل مركب بإحداثية الصراع أو إدخال عنصر حداثة صراعي كتطرف غلو فكري أو مذاهبي، أكان اشتقاق تطرف من مذهب الاعتدال الزيدي أو استيراده من التطرف الشيعي. ولهذا فالمشكلة ليست فقط في العنوان "التمرد" وليست فقط في الحوثي كعنوان للتمرد، وإنما هي في واقع تبعات التطرف الحوثي في واقع صعدة وفي أتباعه في أية منطقة كجهل تطرف مركب من الأصالة الإمامية والمعاصرة الحوثية لما أرادت أو استوردت. ولذلك وبالرغم من وضع الملكيين الأقوى وتعدادهم الكبير، وحيث لم يكتفوا بقطع طريق كما حرف سفيان بل طوقوا وحاصروا العاصمة وأطبقوا عليها من الجبال المحيطة بها، حتى وصلوا مقر دار الرئاسة حالياً. وبالرغم من ذلك كان تطبيق أي اتفاق يوصل إليه معهم أسهل بكثير من الحالة الحوثية وذلك لعدم وصول عنصر الحداثة في الجهل "التطرف" وعدم إيصالهم إلى وضع ووعي الجهل المركب كما حالة الحوثي وأتباعه. فإذا أميركا ليست مع وصم الحوثي وتمرده ب "الإرهاب" فذلك شأنها ونحن لنا شأننا حتى ونحن نواجه ما تسميه اليوم إرهابا من قبلها، وهي لازالت مع إطلاق مسمى "الجهاد" عليه. فالنظام حين كان يطلق على الحوثيين مسمى "الإرهاب" فإنه لا يريد موافقة أميركا على ذلك، ولكنه له فهمه الواقعي والمستقل تجاه الحالة. فهو لم ينتظر حتى تعطيه أميركا الضوء الأخضر وواجه الإرهاب قبلها وقبل إطلاق مسماها، فأميركا قد تكون حررتنا من أوضاع وحساسيات صراعات المنطقة لتنصيص وإعلاء نص الإرهاب، فيما النظام تعامل سابقا بوعي هذا التنصيص وإن كان لا يهتم بالمباشرة في التنصيص تجنبا لحساسيات أو ردود فعل منها. فالوحدة لا تفرض بالقوة هي نص وتنصيص على حروب توحيد اليمن شيوعيا بالقوة، ولكن المنطقة لم تنصصها آنذاك كاستحقاق لواقع ووقائع، وإنما نصصتها لاحقا لاستحقاق صراعات ولاستهداف وحدة تحققت بكامل المشروعية، وهكذا يظل الإحساس قضايا وأفعال واقع والنصوص لا قيمة لها إلا حين تصبح قرارات لشرعية وليست استحقاقات لصراعات. من هذا الفهم المتعمق والأدق فالكثير من المتابعين أو المعنيين أو ذوي القلق إيجابياً تجاه الوطن، يخافون انقلاباً داخل الحوثي ذاته من طبيعة ثقافة صراع وجهل مركب أو قيادات من تمرده للنكث بالاتفاق الأخير، الذي أذعن فيه لشروط النظام وبموجبه نفذ وقف إطلاق النار وشرع في عمل لجان وآليات تنفيذ الاتفاق. من يتاح له الالتقاء بمن عانوا ويلات حروب صعدة بعيدا عن أي تأثير للنظام أو للحوثيين سيعرف حقائق خطيرة ومريرة. فالذي ذهب للتعاون مع النظام وليس للقتال إلى جانب النظام ينسف الحوثيون منزله أو يحرقون مزرعته، بل إن أسراً نزحت ورفضت أن تقاتل لا مع الحوثي ولا مع الدولة قام الحوثيون بنسف منازلها عقوبة على هذا الموقف، فيما الذي يقاتل مع الحوثي لا ذرة خوف لديه لا من استهداف أسرته أو نسف منزله. هذه حقائق من ألسنة نازحين ومن التقاط محايد تماماً، وأعادتني إلى تذكر منزل مدخل قريتي لا يمكنني نسيانه، فمالك المنزل كان متمرداً مع الملكيين وشارك في قتل عدد من الجنود المصريين، وخلاصتها أن طرفا أو ثقلا محسوباً على النظام هدَّ المنزل وبعد فترة أعاد بناءه. من باب الأمانة فليس النظام ولا توجيهاته كانت وراء الهد أو الهدم وإنما اجتهاد طرف محسوب على النظام، ومن باب الأمانة فهذا الطرف جاء في وضح النهار لهده بعد الإخلاء وبالطريقة اليدوية، لم نسمع حتى بمستوى "طماشة" فرقعة.. والذي هدم منزله بطريقته فهو من دفع من هدم ليعيد البناء فلا وجود لنظام للقول بأنها توجهات أو توجيهات لنظام. متمرد واحد يستطيع إجبار ثقل في منطقة على إعادة بناء منزل دمره، لأن ذلك الثقل في وضعه أو وضوحه حالة من النظام يمارس ما يراه مشروعية في وضح النهار ولا يمارس اللا مشروعية في جوف الليل، وتلك في استثنائية للصراعات والتمردات نقطة ضعف، فالتحرر من المشروعية الدينية والأخلاقية والاجتماعية والمجتمعية لا يصبح فقط نقطة قوة له فحسب بل مستوى من القوة. إذا تلك الحالة اجتهد فيها محسوب على النظام ولكن بوضوح وسلوك نظام، فليس الحوثي فقط بل أتباعه يمارسون اجتهاد النسف والتدمير لمنازل وساكنيها لمجرد رفض أو تبرم من القتال معهم. إذا الحوثي يتحدث عن مساجين تمردوا على الدولة وقاتلوا ضدها، فنحن نتحدث عن استهداف أسر بالتصفية وتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها، وإفناء ونهب ممتلكاتهم، لأنها لم تقف مع الحوثي وتقاتل في صفه، فكيف حين الانتقال إلى من وقف في صف الوطن والدولة. فإذا الحوثي لا يلتزم بالتوقف عن ترويع الآمنين أو لا يستطيع توقيف أتباعه فلماذا الاتفاق واللجان والتلجين؟!. إذا الهدنات والاتفاقات السابقة كانت تطلق يد الحوثي للتوسع والتمرد في الأرض حتى حرف سفيان، فعلى الاتفاق الأخير ألاَّ يطلق يد الحوثي أو أتباعه لحرية التنكيل بأبناء صعدة أو أسر منها، وتلك هي أرضية أي اتفاق مفترضة لا تحتاج إلى تنصيص أو تموضع بين الشروط. وهكذا فتمرد لا يكتفي بالجهل ولا بالجهل المركب بإضافة التطرف المحدث، وإنما يمارس قسر من لم يحتوهم الجهل المركب للانضمام والقتال في صفه أو يعاقبهم بتصفية الأسرة ومنزلها وممتلكاتها. بافتراض أعلى قدر من حسن النوايا وتجاوز كل مثل هذا وتنفيذ الاتفاق، فإن ما يظل تطرفاً يتجسد في أفعال وسلوك متطرفين، هو مشكلة في واقع صعدة واليمن، ليس المهم ما نسميها نحن أو النظام أو المشترك أو أميركا ولكن المهم أن نعيها وأن نعي كيف نتعامل معها. من السهل على طرف متطرف تصور وتصوير نجاح وحدة أممية عالمية، وعلى آخر أن يقضي على الإلحاد الشيوعي من أفغانستان، ومن ثم ينقض على أميركا والغرب الإباحي، ومن السهل كذلك على الحوثي تصور القضاء على أميركا وإسرائيل بالجهل المركب وأن بوابته إلى ذلك النظام أو الوطن. فالوحدة لم تكن إلا بوابة للشيوعية فيما الانفصال بات حاجية صراع الدمقرطة. عند حدوث أزمات بسيطة في صنعاء أخاف انتهاء "البترول" في سيارتي بعد استنزاف ما في الجيب، وشخصي يجوب الشوارع والمسافات بحثا عن "دبة غاز" عندي استعداد لشرائها بضعف ثمنها أو أكثر. ما عاناه عامة المواطنين في صعدة هو أهم من الإمام حميد الدين أو الخميني وأهم من أميركا وإسرائيل، فمتى نحس بمعاناة هؤلاء حقيقياً وواقعياً وليس صراعياً كما تطورات موقف المشترك من حرب صعدة. إذا عبدالملك الحوثي والمؤثرون أكثر بعد صادقون مع الوطن وجادون في التعاطي مع الاتفاق، فحاجة الوطن لجهودهم للتأثير على مجاميع متطرفين وعدلهم إلى اعتدال فوق الثارات أو الانتقامات للصراعات، ليس تطبيقا لمأثور "ما يفك السحر إلا الساحر" ولكنه آن الأوان أن لصعدة ومناطق أخرى في اليمن لتنطلق متحررة من أسحار كل التطرفات وللنهوض بناء وتنمية وتحضراً فوق أي حجر أو تحجر. صعدة تستحق أن تكون شيئا آخر وشأنا آخر وبيئة أخرى غير الذي سارت فيه أو فرضتها فيها وعليها تطورات الصراعات، وهذا ما يعني النظام كأولوية ويتحمل كامل المسؤولية ولكن بشرط وعي أبناء صعدة وما يقدمه تفاعلهم وفي أفعالهم من وعي و "إن حكينا يا حبيبي نبتدي.........."