لم تمارس بريطانيا وفرنسا الشراكة فيما أسمي بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م من أجل اسرائيل فقط التي شاركت في العدوان، ولكن في الأساس من أجل مصالح بريطانيا وفرنسا فكان التوافق في شن الحرب أو العدوان مهما تباينت أو اختلفت المصالح. الولاياتالمتحدةالامريكية التي وجهت انذاراً لأطراف العدوان الثلاثي واجبرتهم على وقف الحرب والانسحاب لم تعمل ذلك موقفاً مع مصر أو كموقف مع الحق وانما في إطار وضعها الجديد ومصالحها في العالم. وهكذا فبريطانيا وفرنسا خاضا صراع التنافس كأشد الصراع قبل توافق إلى حد التطابق في شن تلك الحرب على مصر بسبب تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس. الولاياتالمتحدة التي واجهت وأوقفت تلك الحرب سرعان ما تحولت إلى قيادة بريطانيا وفرنسا وكل الغرب في الصراع مع الشرق بقيادة السوفيت وفي صراع المصالح عالمياً. الواضح انه لا اسرائيل ولا مصر كانت على وعي بوضع أو بموقف الولاياتالمتحدة المحتمل تجاه ذلك العدوان الثلاثي، ومع ذلك استفادت مصر آنياً وفي ذلك الوضع ونجح تأميم قناة السويس وتسليم إدارتها لمصر فيما استفادت اسرائيل على المدى الأبعد من الولاياتالمتحدة وحصلت على دعم ما حصلت عليه ولم تكن لتحصل عليه من بقية دول الغرب وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا. إذا كانت الولاياتالمتحدة مارست ذلك الموقف عام 1956م دفاعاً عن مصالحها، وبابعاد الحليفين الغربيين "بريطانيا وفرنسا" من إدارة قناة السويس فمصالحها في استقرار السعودية والخليج كأوضاع وأنظمة أكثر أهمية وحيوية. وإذا كان مجرد إنذار لبريطانيا وفرنسا واسرائيل بوقف الحرب ويجبر الاطراف الثلاثة على الانسحاب فذلك يقدم وضع القوة للولايات المتحدة. إذاً حين تدخل عبدالناصر في اليمن من خلال استدعاء وطلب يمني من قيادة الثورة كان عليه وعياً تطمين السعودية ومن ثم الولاياتالمتحدة بأن هذا التدخل محدود وبالامكان الاتفاق على مهمته وسقفه ومحدوديته، بحيث لا يضر السعودية لا اعلامياً ولا سياسياً ولا نحوه فيما الدخول إلى صراع مع الرجعية أو الانجرار إليه هو قرار فاقد الوعي أو الاقدام تحت أي وضع أو انفعالات إلى خطوة ونقلة لا واعية بحساب الابعاد والاحتمالات والتبعات والتداعيات. فبغض النظر عما أثير لاحقاً بالربط بين هزيمة 1967م والحرب في اليمن كأحد أسباب الهزيمة، فالمشترك الأقوى بين التدخل في اليمن والهزيمة القومية هو فقدان الوعي حين التدخل في اليمن وفقدان تركيزه في واقع ووقائع وتطورات ما قبل الهزيمة. إذا تابعنا موقفاً متصلاً بهذا للولايات المتحدة فهو اعترافها المبكر بالنظام الجمهوري في اليمن، ولهذا ومن الجهة والوجه الآخر للصراع عربياً فإطباق الملكيين على صنعاء والسيطرة على الجبال المحيطة بها لم تستطع إعادة النظام الإمامي ولم تسقط النظام الجمهوري، وانما اشركت الملكيين باستثناء الأسرة الإمامية في الحكم. فالهزيمة القومية 1967م كانت تعني في واقع الصراع العالمي المزيد من التوسع لنفوذ وتأثير الولاياتالمتحدة في المنطقة ليجيء خيار الشيوعية للنظام في عدن كمكسب مقابل أو تعويض توافق بلا اتفاق للاتحاد السوفيتي. في كل الأحوال فالولاياتالمتحدة التي أنذرت أطراف العدوان الثلاثي على مصر هي التي وجهت الإنذار لمصر في حرب 1973م بعدم مد الحرب إلى مدى أو مسافة معينة، ورغم من ان الحرب تجري في الأراضي المصرية التي لم تتحرر من اسرائيل إلا باتفاق كامب ديفيد للسلام لاحقاً وبرعاية الولاياتالمتحدة، صراعات الصغار لا بد ان ترتبط بصراعات الكبار بأشكال مباشرة أو غير مباشرة، والصغار ان خاضوا صراعاتهم بوعي صراعي في واقعهم فقط دون وعي بصراع الكبار فهم مخطئون على مدى قريب أو أبعد، وان خاضوا الصراعات لصالح صراعات الكبار يرتكبون خطايا لا بد ان تظهر على مدى قريب أو أبعد. إذا كان السوفيت يشترطون الشيوعية لاستحقاق أعلى دعم كما حرب فيتنام، وذلك ما ظل يهز علاقته بمصر بمستوى فتور وأحياناً توتر في عهد عبدالناصر، وذلك يعني شرط اعتناق وتطبيق فكر، فالولاياتالمتحدة لم تمارس شروطاً فكرية أو سياسية وانما مارست تفعيل تفكيرها وأفكارها من خلال أي آخر. إذا كان الحزب الاشتراكي في عدن هو مندوب الشيوعية أو المنتدب في المنطقة، فالولاياتالمتحدة لا يهمها ان تكون انتصرت لمصر المتشددة قومياً عام 1956م بقدر ما يعنيها فكرة تحجيم النفوذ البريطاني الفرنسي، وبالتالي فهي لم تعتمد على حلفاء لها لشن حروب فصارت في شراكات حروب مع القومية كبعث مع إيران ومع الأصولية "الجهاديين" في حرب افغانستان. صراعات الكبار لم تكن باجمالها ولا بضروراتها فرضاً ولا فريضة على الصغار، والصغار عادة اختاروها أكثر من كونها اختيرت لهم. عادة وعي أطراف متصارعة داخل أي بلد فان غلوها في الصراعات وضعف وعيها بأبعاد واحتمالات ما تصير فيه قد يجرها دون وعي إلى صراعات الكبار أو يضطرها للارتباط بها، والتدخل المصري مثلاً لهذا الانجرار وقد تدفع الأوضاع بعد الهزيمة القومية إلى خيار ومعتقد الشيوعية كما الجبهة القومية في اليمن وبما يعنيه ذلك للواقع وفي الواقع من معاناة وتعقيدات اضافية وقاسية وبعيدة المدى والتأثير. التحولات منذ العدوان الثلاثي 1956م حتى أحداث سبتمبر 2001م وما بعد،تقدم صورة جلية واضحة لصراعاتنا ووضعنا في الصراعات ووعينا بالصراعات كأنظمة وقوى سياسية، بما في ذلك تيارات القومية والاسلامية، وحيث كنا ادوات في الصراعات أكثر منا وعياً وإرادات أو إرادات واعية. إذا كان ذلك هو الحالة العربية العامة فالحالة اليمنية هي الأسوأ صراعاً ووعياً من حيث تخلف الواقع ومتراكماته، ومن حيث وقع الانفصال وحروب وصراعات التشطير، ومن حيث شطط وشطح سياسي يتعالى على الواقع ولا واقعية فيه أو علاقة بالواقع. فالسلال كأول رئيس نظام بعد ثورة سبتمبر أخذ الخط القومي السياسي الاعلامي المصري في معاداة الرجعية، لم يكن له الاستمرار كحاكم حين الانتقال لنظام جمهوري متوافق أو موالٍ للسعودية. أما حين انهيار الشيوعية فالمسألة لم تكن إعفاء النظام الشيوعي أو اقصاءه بل حاجية سياسية ملحة له وبأوضاعه لتحقيق وحدة اليمن، وبالتالي فالسعودية قد تكون أثرت لابعاد السلال مقابل عدم عودة الأسرة الإمامية فيما اثقال المنطقة لم تعد مهتمة لا بشيوعية الاشتراكي ولا عداوة المتشدد تجاهها بقدر حاجية سياسية إليه لاجهاض الوحدة اليمنية. وهكذا فالاشتراكي كان مندوباً وأداة توحيد شيوعياً بالقوة لقوى خارجية، وتحول بعد الوحدة إلى مندوب وأداة لقوى خارجية لفرض الانفصال بالقوة. من السهل سوق وتسويق مبررات للاستهلاك الداخلي حين حروب فرض الوحدة بالقوة شيوعياً، وحين جهود ومحاولات فرض الانفصال بالقوة ديماغوجياً. فالاشتراكي ظل كما السوفيت يشترط الشيوعية لوحدة ضم بالقوة أو من ينضم إليه سياسياً، وبانهيار الشيوعية بات كالولاياتالمتحدة يتحالف مع أي طرف أو متطرف وكأنما انتقل من اشتراط الفكر الشيوعي إلى اشتراط الفكرة وهي اجهاض الوحدة وفرض الانفصال. إذا كانت السعودية نجحت في فرض الحرب داخل اليمن وبعيداً عنها فالولاياتالمتحدة ليست في صراع مع عبدالناصر أو القومية في اليمن، فذلك يحتوي في لعبة الصراع أكثر من استحقاقه وضع الصراع. وهكذا اكتفت بالاعتراف بالنظام الجمهوري واكتفت بمتابعة وضع الصراعات الخارجية والداخلية باليمن حتى الوصول لتثبيت معممة أو الصيغة العامة لنظام جمهوري من خلال اتفاق الصلح مع الملكيين. فالولاياتالمتحدة إذا كانت ليست بالضرورة معنية بدعم أي حلفاء بمعيار الدعم لاسرائيل مثلاً، فهي ليست معنية بالضرورة بدعم حلفاء في كل ما يختارون أو معارضتهم ومواجهتهم. الوحدة اليمنية نالت المشروعية عالمياً سياسياً وواقعياً، وبالتالي فالولاياتالمتحدة لم تدعم النظام المدافع عن الوحدة بل تطبق منع تصدير أبسط الأسلحة إليه وهي في ذات الوقت لم تسر في رؤية أهم حلفائها "مصر- السعودية" كما لم تعارض رؤاهم أو تمارس أي تأثير لتعديل تلك الرؤى. أثقال العرب في تلك الفترة كانوا في ذروة ونشوة استعمال ثقافة "مع وضد" ارتكازاً على مواقف تعاد نصوصها ويفبرك تنصيصها ارتكازاً على الموقف من غزو الكويت، وهي مسألة فاقدة التأثير بالنسبة للولايات المتحدة فيما كانت القضية الملتبسة والتي شدت اهتمامها هي ما يتصل ب "الإرهاب" خاصة والنظام في اليمن سبقها بعقد أو أكثر للاستعانة بالأصولية في مواجهة الزحف الشيوعي مقارنة بما عملته لاحقاً في افغانستان، وحيث اضطر النظام في اليمن بعد ذلك لاشراكهم في الحكم بل سمح لهم بفصل التعليم وانشاء معاهد خاصة بتعليمهم بشيء مما جرى في باكستان لطالبان، والطبيعي حضور هذا الطرف في حرب الدفاع عن الوحدة. إذا كانت الولاياتالمتحدة احتاجت للجهاديين في افغانستان فاحتياج من ذلك ومثله في اليمن قبل ذلك مبرر، ولكن الواضح بعد ذلك هو ان النظام في اليمن لم يصبح نظام تطرف كما افغانستان في ظل طالبان أو الحالة الخمينية في إيران، ولكن هذا النظام يضم أو يشرك طرفاً متطرفاً، فهل ذلك هو اضطرار ومعالجة سياسية أم دعم أو تبنٍ للتطرف؟. النظام كان استفاد من فترة الشراكة مع الاشتراكي ليصوت البرلمان على دمج التعليم وإلغاء المعاهد العلمية، ولكنه لم يستطع تنفيذ هذا القرار في ظل الصراعات وواقع إلا بعد حوالي سبع سنوات وفي نهاية عام 2000م تقريباً. تنفيذ هذه الخطوة كان تتويجاً لخطوات مواجهة وحسم نفذت منذ انتهاء حرب 1994م، والنظام سار في هذه الخطوات من رؤاه ولأسبابه ولم يكن يعنيه ارضاء الولاياتالمتحدة أو ابلاغها لترضى عنه. ولذلك جاءت أحداث سبتمبر 2001م وهذا الوضع الموقف ملتبس من قبل الولاياتالمتحدة تجاه اليمن، وحتى تأكدت الولاياتالمتحدة من حقيقة ان النظام في اليمن منذ ثورة سبتمبر 1962م انتقل من توريث الحكم إلى توريث الانقلابات أو توريث اضطرابات وتنازلات للمعالجات، فهو لا يستطيع التعامل مع الاسلاميين كما السادات بعد الاستعادة بهم لدعم تصفية ما أسماها مراكز القوى، كما ان النظام أو الوحدة اليمنية لم تكن تستطيع التعامل مع الحزب الشيوعي في اليمن مثلما مورس مع الحزب الشيوعي الألماني بعد الوحدة الألمانية. إذاً الاشتراكي استفاد من المد الأممي ليسير في الشيوعية ويصبح الأقوى الطامح لتوحيد اليمن شيوعياً بالقوة، وإذا الاسلاميون استفادوا من المد الشيوعي وزحفه ليصبحوا قوة التحالف مع الولاياتالمتحدة في حرب افغانستان، بل ضغطوا للاعتراف بطالبان وذلك ما رفضه النظام، فهذا النظام يستفيد من أي متغير لاصلاح أخطاء اضطرارات معالجات واحتواءات سياسية كبديل أفضل من الانقلابات أو الدمار وسفك الدماء الواسع وبتوسع. إذا استشرفنا المستقبل من كل هذا فإنه كثير الصعوبة ومستوى من الاستحالة معرفة كل الصراعات والمتغيرات عالمياً وبما سيكون لها من انعكاسات. إنه يكفينا ألا نمارس الغلو في صراعاتنا الداخلية كبلد أو على مستوى المنطقة العربية، فذلك يجعلنا في وضع قدرة على التعامل بمصداقية ووعي ويجنبنا تضحيات باهضة في صراعاتنا أو ان نظل ضحايا لصراعات كبيرة. قضايانا على مستوى كل بلد أو حتى القومية والاسلامية تتطلب مواقف من هذا الوضع والوعي كونه القوى الأهم لأي حق واي حقوق. من مصلحة أي نظام اصلاح الأخطاء وعدم اقتراف المزيد في واقع ووعي السياسة الخارجية أو واقع وصراع الداخل، ولكن المعارضات معنية أكثر بتصحيح مساراتها الصراعية وصيرورتها غير الواعية في الصراع، فالمعارضات باتت البوابة في العاب الصراعات القادمة في إطار التغيير والمتغير العالمي ولم تعد الأنظمة!.