مانشستر يونايتد يضرب موعداً مع توتنهام في نهائي الدوري الأوروبي    منافس جديد في عالم الحواسب اللوحية من Honor    نائبة أمريكية تحذر من انهيار مالي وشيك    "تل المخروط".. "هرم" غامض في غابات الأمازون يحير العلماء!    واقعة خطيرة.. هجوم مسلح على لاعبي فلامنغو    ليفربول يقدم عرض للتعاقد مع نجم مانشستر سيتي بروين    الأسباب الرئيسية لتكون حصى المرارة    العليمي اشترى القائم بأعمال الشركة اليمنية للإستثمار (وثائق)    الغيثي: أميركا غير مقتنعة بأن حكومة الشرعية في عدن بديل للحوثيين    وطن في صلعة    باشراحيل: على مواطني عدن والمحافظات الخروج للشوارع وإسماع صوتهم للعالم    الطائرات اليمنية التي دمرتها إسرائيل بمطار صنعاء لم يكن مؤمنا عليها    لماذا يحكمنا هؤلاء؟    الجولاني يعرض النفط والتواصل مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات    دبلوماسي امريكي: لن ننتظر إذن تل أبيب لمنع اطلاق النار على سفننا    تغاريد حرة .. صرنا غنيمة حرب    عيد ميلاد صبري يوسف التاسع والستين .. احتفال بإبداع فنان تشكيلي وأديب يجسد تجارب الاغتراب والهوية    تحديد موعد أولى جلسات محاكمة الصحفي محمد المياحي    إعلام عبري: ترامب قد يعلن حلا شاملا وطويل الامد يتضمن وقف حرب غزة ومنح قيادة حماس ضمانات    البرلماني بشر: اتفاق مسقط لم ينتصر لغزة ولم يجنب اليمن الدمار    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    تعيين نواب لخمسة وزراء في حكومة ابن بريك    وسط فوضى أمنية.. مقتل وإصابة 140 شخصا في إب خلال 4 أشهر    رئاسة المجلس الانتقالي تقف أمام مستجدات الأوضاع الإنسانية والسياسية على الساحتين المحلية والإقليمية    صنعاء.. عيون انطفأت بعد طول الانتظار وقلوب انكسرت خلف القضبان    السامعي يتفقد اعمال إعادة تأهيل مطار صنعاء الدولي    سيول الامطار تجرف شخصين وتلحق اضرار في إب    القضاء ينتصر للأكاديمي الكاف ضد قمع وفساد جامعة عدن    *- شبوة برس – متابعات خاصة    تكريم طواقم السفن الراسية بميناء الحديدة    صنعاء .. شركة النفط تعلن انتهاء أزمة المشتقات النفطية    اليدومي يعزي رئيس حزب السلم والتنمية في وفاة والدته    السعودية: "صندوق الاستثمارات العامة" يطلق سلسلة بطولات عالمية جديدة ل"جولف السيدات"    . الاتحاد يقلب الطاولة على النصر ويواصل الزحف نحو اللقب السعودي    باريس سان جيرمان يبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا    شرطة آداب شبوة تحرر مختطفين أثيوبيين وتضبط أموال كبيرة (صور)    محطة بترو مسيلة.. معدات الغاز بمخازنها    شركة الغاز توضح حول احتياجات مختلف القطاعات من مادة الغاز    كهرباء تجارية تدخل الخدمة في عدن والوزارة تصفها بأنها غير قانونية    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج علي الأهدل    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخطر حالة استنساخ سياسي
نشر في الخبر يوم 03 - 12 - 2012

احتفل، يحتفل، فهو مُحتفلٌ.. انخدع، ينخدع، فهو مُنخدع.. انزلق، ينزلق، فهو مُنزلقٌ.. انكذب، ينكذب، فهو منكذبٌ..
هذه الأفعال الأربعة ومشتقاتها، هي الفضاء اللغوي الوحيد القادر على التعبير عن الحماقة التي تغلِّف المشهد السياسي الفلسطيني الراهن.
من الرموز إلى المسوخ، ومن "غزة/أريحا أولا"، إلى "غزة فقط أخيرا"..
إن النغمة التي تتردد كثيراً في إسرائيل على ألسنة أولئك الذين يصنعون سياساتِها، هي أن العرب قد أحسنوا صنعاً عندما رفضوا قرار التقسيم عام "1947″ فارضين على إسرائيل حرب عام "1948″، أي أن رفض ذلك القرار وخوض تلك الحرب هو الذي أدخل القضية والصراع في هذا المنحى فارضاً عليهما ما تراه إسرائيل.
ما معنى هذا الكلام؟! وهل هو مؤشر صهيوني إسرائيلي على أن العرب كلما أمعنوا في رفض التسوية كلما كان ذلك لمصلحة إسرائيل؟! وأن عليهم بالتالي أن يقبلوا بها؟!
إن تبسيط الأمور على هذا النحو، هو في واقع الأمر تسطيح لها، وعزل لها عن سياقاتها التاريخية، وهذه هي عادة الصهاينة في عرض نظرياتهم ومواقفهم، عزلُ الحدث عن محيطه لفرض رؤية خاصة عليه تخدم الأجندة والبرنامج الصهيونيين.
إن أيَّ موقف سياسي هو في الواقع ابنٌ شرعي لسيرورة الواقع. هذا يعني أن أيَّ موقف سياسي فلسطيني، نابع حتماً من محصِّلة تفاعل بُنى اجتماعية وفكرية ونفسية وسياسية وعسكرية سائدة. ولا يمكن لهذا الموقف أن يتغير إلا بتغير تلك البُنَى بشكل ينسجم مع طرح جديد وموقف جديد ويتطلبه. إن المراقب المهتم يستطيع أن يتلمس الاتجاهات العامة التي تصب في خندقها المواقف الفلسطينية وهي تتغير وتتبدل وتتطور.
بناء على ماسبق، فإن الفلسطينيين ومن ورائهم العرب، ما كانوا في عام "1947″ ليقبلوا بقرار التقسيم، وما كانوا في عام "1967″ ليقبلوا بالحقائق الجديدة التي فرضتها الحرب، رغم بدء ظهور تيارٍ تراجع عن رفض قرار التقسيم وقبلَ به. وبعد مرور أكثر من جيل على حرب "1967″، ما كان العرب هذه المرة ليقبلوا الطرح الإسرائيلي الجديد، وإن كان سقف مطالبهم قد انحصر في معادلة "1967″ التي سبق وإن كانت مرفوضة من قبل الفلسطينيين. ونخالهم سيقبلون الآن بالحقائق التي فرضها على الصعيد الجغرافي "الجدار العنصري العازل"، وسيقبلون بإعادة النظر في "حق عودة اللاجئين"، وفي "قضية القدس بالشكل المطروح إسرائيلياً"، بعد أن كانوا يرفضون كل ذلك، مصممين على أن ما يطلقون عليه حدود "1967″، و"حق العودة"، و"القدس عاصمة فلسطين"، هي ثوابت أيِّ حراك باتجاه تحصيل الحقوق الفلسطينية، لتستمر هذه السيمفونية النشاز وفق معادلة إسرائيلية تمكن تسميتها معادلة "التلاعب بسقوف المطالب والعروض"، لضمان الاستمرار في الإبقاء أطول مدة ممكنة على حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي الحالة التي يجب أن نوضحَ أنها الحالة التي حكمت الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته عام "1947″ وحتى الآن، بما يعني أن الحروب التي شهدها هذا الصراع إن هي إلا مناوشات لم تخرج عن حدود إبقائها على المعادلة المذكورة في حالة حركة ليس إلاَّ، وليست حروباً بالمعنى الحقيقي لكلمة حرب.
إننا أمام حقيقة يقينية في التعاطي مع القضية الفلسطينية، هو أنها قضية وُجِدَت لتبقى معلقة دون حل وحسم إلا على أنقاض الحركة الصهيونية على مستوى العالم، وأن أيَّ حلّ يُطْرَح موهِما بأنه حلٌّ نهائي لها لا يكون من نتائجه إنهاء "حالة اللاحرب واللاسلم"، وتصفية "الحركة الصهيونية" عالميا بالتالي، هو مجرد أسطورة من الأساطير المرتبطة بالصراع ليس إلا.
قادة التجمع الإسرائيلي اهتموا كثيراً بهذا الأمر، أي بطبيعة تكوُّن الموقف السياسي الفلسطيني ومن ورائه العربي في مختلف مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ليوظفوه ما استطاعوا في خدمة المشروع الصهيوني. فالموقف العربي إزاء إسرائيل ووجودها في المنطقة، سيتم التعبير عنه عربياً – إن شعبياً أو سلطوياً- عبر طرحٍ سيأخذ عند طرحه طابع الصفة الاستراتيجية المتضمِّنَة لمعنى الديمومة والتواصل التاريخيين، وذلك إلى أن تتغير في الواقع العربي البُنى الثقافية والمجتمعية والسياسية والنفسية التي أفرزته مؤدية إلى ظهور بُنى جديدة يتمُّ التعبير عنها بموقف جديد.
إن إدراك صانع القرار الصهيوني لهذه الحقيقة، جعله يستثمرها أكفأ استثمار، وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود، وضَمِنَ بنجاحه هذا الإبقاءَ على معادلة التوازن الإقليمي تحت السيطرة التامة عبر أكثر من ستين عاماً من الصراع.
ولكن كيف ذلك؟!
إن الطرح العربي الذي تفرزه المرحلة بمكوِّناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية، سيُعْتَبر سقفاً أعلى مرفوضا إسرائيلياً "أي صهيونيا"، وبالتالي أميركياً "أي إمبرياليا"، بحيث تطرح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية سقفاً أقل يجب أن تشيرَ الدلائل العربية المقروءة إسرائيلياً وأميركياً، إلى حاجته لقرابة الجيل الكامل كي يتغيرَ واقع البُنى الثقافية والمجتمعية العربية باتجاه قبوله أو التعامل معه. وبالتالي، فبين سقف عربي مطروح مرفوض إسرائيلياً، وسقف إسرائيلي معروض مرفوض عربياً، تُقَاد دفة سفينة الصراع من قِبل الطرفين العربي والإسرائيلي لتحقيق هدف واحد، يعمل الإسرائيليون على تحقيقه بوعي تام، فيما يعمل العرب على الإسهام في تحقيقه بغير وعي وبجهل منقطع النظير، ألا وهو الإبقاء على حالة "اللاحرب واللاسلم" القادرة وحدها على رفد المشروع الصهيوني الاستعماري "إسرائيل" بكلِّ طاقاته.
وعندما تلاحظ مراكز ودوائر الفكر والبحث واتخاذ القرار في كلٍّ من واشنطن وتل أبيب اقتراب العرب – ومن بينهم الفلسطينيون بطبيعة الحال وبالدرجة الأولى – بحكم التطورات والضغوطات الحادثة في الواقع العربي، من إمكانية القبول بالطرح الإسرائيلي، عبر بدء دورانهم حول سقوفه، فإن القائمين على تلك المراكز والدوائر إذ يلاحظون ذلك، يبدأون بالدفع باتجاه إعداد الساحة وإعادة إنتاجها وصياغة السيرورة السياسية فيها، لتَحَمُّل طرحٍ إسرائيلي أميركي جديد ضمن حلقة حقائق جديدة تختلف في الكثير أو في الكثير عن الحقائق التي تضمنها سقف الطروحات السابق.
عندئذ تعود المعادلة السابقة في مستواها السياسي الصدامي لتظهرَ إلى حيزِ الوجود، على شكل قبولٍ عربي بالطرح الإسرائيلي السابق، ورفضٍ إسرائيلي له عبر طرحٍ جديد لا بديل عنه، باعتباره الطرح المفروض من قِبل الحقائق الجديدة التي سيُشاع بطبيعة الحال أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المرحلة. والعرب من جهتهم سوف يجدون أنفسهم مضطرين قطعاً إلى رفض هذا العرض الإسرائيلي لأسباب عديدة تختلف من طرف عربي لأخر ومن وقت لآخر، وتسود مرحلة جديدة من التوتر التي تكفل عبر حنكة الإدارة الصهيونية لها بقاء حالة "اللاحرب واللاسلم" قائمة ومستمرة.
لكن السؤال المُلِح الذي يفرض نفسَه علينا في هذا السياق هو.. مادامت هذه اللعبة واضحة ومكشوفة لمن يُفْتَرض أنهم قادة فكرٍ وصُنَّاعُ مجتمعٍ، فلماذا يبلع الفلسطينيون ومن ورائهم العرب الطعم ويقعون في الفخ دائماً!! ولماذا ما نزال نرى قادتهم كالكرة التي تتقاذفها الأقدام في الملعب، ينتقلون من خندق إلى خندق في التوقيت المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ليحققوا للصهيونية المعادلة التي تعمل على تحقيقها على الدوام؟!
يكفينا أن نبدي دهشتَنا البالغة في هذا الشأن عبر توضيح أن كافة الزعماء والخبراء وصُناَّع السياسة العربية، عندما ينتقدون سياسة إسرائيل في فلسطين أو سياسة الولايات المتحدة في المنطقة – وأن يكن بخجل – إنما يحاولون تأسيس انتقادهم لهما على قاعدة أن سياستهما لا تخدمان الاستقرار في المنطقة، وبالتالي فهي سياسات تصب ضد إسرائيل والولايات المتحدة وضد مصالحهما الإستراتيجية، وأن على هاتين الدولتين أن تَعِياَ هذه الحقيقة قبل أن يفوت الأوان.
ومع أن تل أبيب وواشنطن لم تعياها أبداً على ما بدا ويبدو من وجهة الصراع، فإن الأوان الأمريكي والإسرائيلي لم يفت حتى الآن.
إن هؤلاء جميعاً يعتقدون أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تريدان أن يسودَ الاستقرار في المنطقة ولكنهما لا تعرفان كيف يمكن أن يتحقق ذلك!!! وكأن ستين عاماً من الصراعات والدماء والحروب والهدر في الثروة وفي تراجع التنمية والحريات العامة، لم تكن كافية كي نعرفَ جميعاً أن "اللا إستقرار" الذي هو نتاج حالة "اللاحرب واللاسلم" هو المطلوب إسرائيلياً وأميركياً!!
في ضوء ما تقدم نستطيع أن نؤكد على حقيقةٍ غاية في الأهمية مفادُها أن حسمَ الصراع مع إسرائيل وتحقيق السلام الحقيقي العادل والشامل الذي يطمح إليه حتى أولئك الذين يودون الاعتراف بإسرائيل كجزء لا يتجزأ من هذه المنطقة، ليس مرهوناً ولن يتحقق بما يسمى بضرورة تنازل العرب والتعامل مع حقائق المرحلة لإرضاء إسرائيل والولايات المتحدة كي تقبلا بتحقيق هذا النوع من السلام. فمهما كان حجم التنازل، فإن سقفَه سيكون حتماً أعلى من سقف العروض الإسرائيلية، لتستمر المعادلة المسخ المذكورة.
ولكن إذا لم يكن التنازل هو الفيصل في حَسم الصراع كما يتم الترويج له، فأين يكمن الحل؟!
إنه في القدرة على فرض سقف المطالب مهما كان متدنياً. إذ لا قيمة موضوعية لمطالب ذات سقف عالٍ، نفتقر إلى القدرة على تحقيقها، ولا خوف من سقف مطالب متدنية إذا تم امتلاك القدرة على تحقيقها. لأن القدرة اللازمة لاستعادة شبر واحد من الأرض الفلسطينية المحتلة بشكل حقيقي، هي ذاتُها القدرة اللازمة لاستعادة كامل الأراضي الفلسطينية بالشكل نفسِه. إن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي هي التي تفرض هذه "القاعدة القانون" التي بدون خوض الصراع على أساسها، فإن الصراع يكون مُخاضاً بالطريقة الخاطئة، ولا قيمة بالتالي لأيِّ نتيجة من نتائجه.
في أيِّ مسارٍ من مسارات المعادلة الصهيونية الإمبريالية سالفةِ الذكر يمكننا مَوْضَعَة المشهد السياسي الفلسطيني الأخير، بدءا من أحداث غزة ومقدماتها وتداعياتها وارتباطاتها، مرورا بتحركات عباس في الأمم المتحدة وما نتج عنها، وانتهاء بموقع ذلك كلِّه مما يحدث على الساحة الأردنية، باعتبارها في السيرورة السياسية، الشقيقةَ الأهم للساحة الفلسطينية، سواء على صعيد المقدمات أو النتائج؟!!
أولا.. استنساخ عرفات في مشعل، وفتح في حماس، وأوسلو "1″ في أوسلو "2″..
إن المتابعة الدقيقة للمشهد السياسي الفلسطيني على مدى الأسابيع السابقة، تؤشِّر على إرهاصات عملية استنساخٍ سياسي خطيرة، يتم تنفيذ فصولِها في كلٍّ من "قطاع غزة" و"الضفة الغربية" و"القاهرة" و"عَماَّن"، الهدف منها، غلق ملفات "أوسلو والسلطة الفلسطينية"، و"منظمة التحرير الفلسطينية"، و"عصر المقاومة الفلسطينية" غلقا مُحْكَما ونهائيا، لاستيلاد "أوسلو" جديدة تتولى مهمة قذف "القضية الفلسطينية" في حُضْنَي "الأردن" و"مصر"، بعد أن قامت "أوسلو 1″ بشفطها من المحيط العربي إلى قلب الكماَّشَة الصهيونية المباشرة، تحت عنوان الإغراء بأنها بهذا الشفط عادت إلى حاضنة الوطن الأم "فلسطين".
ولتوضيح الصورة الحقيقية لما يتم الإعداد له في الحواضن الأربعة "حماس"، و"السلطة الوظيفية الفلسطينية"، و"مصر الإخوان"، و"النظام الوظيفي في الأردن"، يجدر بنا استحضار المراحل الكبرى التي مرت بها القضية الفلسطينية منذ انطلاقة ثورة ستينيات القرن الماضي، والتي يمكننا توصيفها على النحو التالي..
1 – مرحلة "أردنية الثورة" التي استمرت منذ الانطلاق عام 1965، وحتى اندماج الفصائل المقاوِمَة الأردنية بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، وهي فترة "العصر الذهبي للثورة"، ول "المشروع القومي انهضوي العربي" الذي كان يتم الإعداد له ب "مشروع تغيير" حقيقي في الأردن، لأن الثورة في تلك المرحلة كانت ثورة شعب أردني ينازع نظاما وظيفيا أردنيا على السلطة فوق الأرض الأردنية، وهو نزاعٌ مشروعٌ بسبب عدم انطوائه على أيِّ معنى من معاني النزاع على السيادة على الأرض الواحدة بين "هويتين" و"شعبين" و"نظامين". لقد كان ذلك الاندماج الخطير الذي يَقْطُرُ إثما، إيذانا بنزع الثورة عن نفسِها "جلدَها الأردني"، وارتدائِها جلدا جديدا هو "الجلد الفلسطيني" الذي أعاد الشرعية للنظام الوظيفي المتهاوي في الأردن آنذاك، مُدْخِلا المشروع القومي النهضوي ومشروع القاعدة الآمنة، ومعهما القضية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ في خندق "مشروع الهوية" على حساب "مشروع التحرير" الذي لا يتم إلا بالتمهيد له بمشروع "التغيير في الأردن". إن مكمن الإثم في ذلك الاندماج أنه حوَّلَ النزاع من كونه نزاعا بين شعبٍ أردني ثائر ونظامه الوظيفي الطبقي المستبد والمرتبط بأعداء الأمة، سعيا إلى تغييره بنظام وطني، إلى كونه نزاعا بين شعبٍ فلسطيني ثائر ونظام لا يمثله، على السيادة على أرضٍ ليست أرضَه، بل هي أرضُ شعبٍ آخر. وهو ما كان يسعى النظام إليه ونجح فيه عندما ابتلعت المقاومة الطعم ووقعت في الفخ، لتتحول بوصلة النزاع والقضية منذ ذلك الوقت إلى مسار ما نزال ندفع ثمنه حتى الآن.
2 – مرحلة النزاع بين "ثورة فلسطينية" و"نظامٍ أردني" على السيادة على الأرض الأردنية، وهي المرحلة التي استمرت منذ عام 1969 وحتى آخر معارك "جرش" عام 1971. وما كان لهذه المرحلة إلا أن تنتهي بشرخ الشعب الواحد وتقسيمه إلى شعبين، وخندقة كلٍّ منهما في خندق مغايرٍ لخندق الآخر، سواء على صعيد الأدوار والحقوق والواجبات والأجندات، ما مهّد الطريق وعبَّده أمام "النظام الوظيفي الهاشمي"، ليعيد إنتاج شرعية تمثيله لما أصبح يعتبر "شعبا أردنيا" يختلف عن "الشعب الفلسطيني"، الذي كان بالأمس القريب جزءا لا يتجزأ من الشعب الأردني الثائر ضد المحتل، لأن المحتل في حقيقة الأمر كان يحتل أرضا أردنية.
3 – مرحلة "العمل على تلجيم الثورة الفلسطينية" المهاجرة إلى لبنان وذلك من عام 1971 وحتى عام 1982، خشية أن تتمكن من إعادة إنتاج نفسها في المحيط العربي من مشروع "هوية" إلى مشروع "تحرير"، وذلك عبر استخدام ثلاثة معاول عملت جميعها في هذا الاتجاه..
* المعول الإسرائيلي الذي تصدي للجسم الثوري في لبنان بشكل عسكري مباشر ومتدرج مستكملا مهمته بهذا الخصوص في اجتياح عام 1982.
* المعول السوري الذي تدخل في لبنان بغطاء عربي في الوقت المناسب، ليكون الرديف العربي للدور الصهيوني في مشروع تلجيم "الثورة"، بعد أن بدأت إرهاصات نجاحها في تحويل الساحة اللبنانية إلى ساحة فعل مقاوم يمهد للقاعدة الآمنة، وينذر بالخطر كلا من "الوظيفية" و"الصهيونية".
* المعول الأردني الذي عمل على تصفية وكنس بقايا الجسم الثوري على الصعيد الشعبي والتنظيمي من الساحة الأردنية، من خلال الجهاز الأمني طويل اليد "المخابرات العامة" من جهة، ومن خلال ذراعي الثقافة الجديدة التي أريد لها أن تهيمن على ساحة الفعل والحركة والربط المجتمعي في الأردن، وهما "ثقافة العصبية" و"الأيديولوجية الدينية التقليدية". مع محاولات سياسية رسمية كانت تعمل في استعادة هيمنة "النظام الوظيفي الهاشمي" على الثورة وعلى الفلسطينيين من جديد، وهو ما تجلى من خلال مشروع "المملكة العربية المتحدة" عام 1972.
4 – مرحلة التيه والتشتُت والضياع الممتدة من عام 1982 وحتى 1988، حيث فقدت الثورة كلَّ عناصر قوتها، ولم يعد أمامها سوى واحدٍ من أمرين هما، الرضوخ لمشاريع النظام الوظيفي الهاشمي بإعادة احتوائها واحتواء الفلسطينيين، أو التمكن من إحداث ثغرة في الجدران التي تحاصرها من كلِّ جانب باتجاه استعادة المبادرة الثورية. ففي الاتجاه الأول حاصرها النظام الهاشمي بمشروع "الكونفدرالية"، وبالمناسبة فقد كان "أحمد عبيدات" في ذلك الوقت هو رئيس الوزراء الأردني الذي قاد وأدار التفاوض مع منظمة التحرير حول مشروع الكونفدرالية. لكن "الثورة" رفضت العرض من منطلق أن مشروعَها الأساس كان هو "مشروع هوية فلسطينية"، وليس "مشروع تحرير أرض"، ما جعلها ترى في أيِّ عباءة أردنية في ظل النظام الوظيفي الهاشمي خسارة لهوية اعتبرت نفسَها ناضلت لأجلها زمنا طويلا، ولم تفكر إطلاقا في أن تجعل من هذا المشروع بداية لحقبة جديدة من إعادة إنتاج الحالة الوطنية في الأردن. وفي الاتجاه الثاني تمكنت الثورة من تفجير الانتفاضة الأولى عام 1987، فرأت فيها أملا يساعدها على استعادة المبادرة الثورية، لكنها عادت لتواقع خطأً إستراتيجيا قاتلا حرفها نحو الهاوية هذه المرة، عندما لم تفكر في استثمار الانتفاضة إلا لصالح الهوية وإن يكن في الوهم، ولم تحاول استثمارها لصالح إعادة إنتاج مشروع ثوري في المحيط العربي رغم أنها كانت مؤهلة لذلك بالفعل.
5 – مرحلة التأسيس للانجرار إلى "الخيار الصهيوني الإسرائيلي"، على مدى الفترة الممتدة من عام 1988 وحتى عام 1993. فبعد اتضاح الإرهاصات الحقيقية للانتفاضة الأولى على صعيد تأثيرها على المحيط العربي، تم العمل على إلقاء طعم مغرٍ على صعيد الهوية في طريق "منظمة التحرير" كي تنجرَ إلى استثمار الانتفاضة باتجاه الداخل فقط، وكي لا تحاول تصديرها إلى المحيط العربي والأردني خاصة. لقد كان هذا الطعم هو "قرار فك الارتباط" في 31/7/1988، والذي قدَّم "الملك حسين" بموجبه "الضفة الغربية" – هديَّة ما من وراها جزيَّة – للفلسطينيين وتحت ضغط إصرارهم كما تصوروا بكل سذاجة. وهو القرار الذي سيعتبر منذ تاريخ صدوره بمثابة القاعدة الكارثة التي وضعت الأساس لكل ما سيشهده الإقليم على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي لاحقا. وبالفعل ابتلع الفلسطينيون الطعم، وبدأوا يتحركون في اتجاه استثمار الانتفاضة داخليا، ليجدوا إسرائيل تنتظرهم لتستدرجهم إلى الضفة والقطاع بمشروع "أوسلو" عام 1993. فآلت الانتفاضة من حالة كانت تمهد لتغيير ثوري عام في الإقليم، إلى حالة تفرَّغَت من مضمونها الثوري التغييري التحريري لصالح مشروع "هوية فلسطينية" هزيلة ما تزال بعد عشرين عاما من بدء "أوسلو" تعاني من عدم التجسُّد على أيٍّ من المستويات الفاعلة والمفيدة وذات المعنى والمضمون والدلالة.
6 – مرحلة "التصفية التدريجية للقضية وللثورة الفلسطينيتين" على مدى الفترة الممتدة من عام 1993 وحتى الآن. وهي المرحلة التي أُخْرِجَ خلالها الأردن نهائيا من دائرة الشأن الفلسطيني المباشر باتفاقية "وادي عربة" ثم ب "برامج التصحيح"، وبعد ذلك ب "تفاهمات واشنطون". وتم خلالها تجميع كلّ مُكَوِنات الجسم الثوري الفلسطيني على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، وتم تجسيد معالم الوظيفية الفلسطينية والنظام الوظيفي الفلسطيني الذي أثبت أنه أكثر فسادا وإفسادا وتبعية من أيِّ نظام عربي آخر. وظهرت شرائح الانتهازية والانتفاع والتخاذل على أوسع نطاق في جسد السلطة الفلسطينية. فيما كانت هذه المرحلة هي أيضا المرحلة التي أنجزت فيها حماس مشروعَها وبنيتَها واستكملت أساسات برنامجها وأجندتها، لتكون لاعبا قويا وورقة لا يستهان بها في حال الرغبة في ترسيم خريطة القضية الفلسطينية من جديد. وهذا ما كان وما حصل بالفعل.
نلاحظ إذن أن "القضية الفلسطينية" كانت هي "القضية الوطنية الأم للشعب الأردني" في الفترة "1965 – 1969″، لتصبح هي "قضية الفلسطينيين وحدهم" على مدى الفترة "1969 – 2011″. ولقد بُدِئَ الآن وعلى ضوء ما تمكننا قراءته من إرهاصات ترشح من الأحداث الأخيرة، في التمهيد لجعلها قضية "النظام الوظيفي الأردني" كما كان عليه حالها في الفترة ما قبل ثورة عام 1965، مع القذف بقطاع غزة إلى نوع من أنواع الحواضن المصرية التي لا تختلف عما كان عليه حال الحواضن التي أدرات القطاع قبل عام 1967، بل ربما تكون أكثر إمعانا في التبعية بحكم التناغم الأيديولوجي القائم بين قادة مصر الجدد وقادة القطاع الحاليين.
فكيف يمكننا أن نقرأ ذلك من خلال مجريات الأحداث؟!
إن أوسلو "عرفات" يتمُّ استنساخها بكلِّ وضوح..
1 – فخالد مشعل يعلن قبوله بحلِّ القضية الفلسطينية وفقا لقيام دولة على الأرض المحتلة عام 67، بعد المواجهات التي اعتبرتها "حماس" انتصارا للمقاومة في "حرب الأيام السبعة". وهذا هو ذاته موقف الزعيم الفلسطيني "ياسر عرفات" في أعقاب ما كان يعتبره انتصارا فلسطينيا جسَّدته "الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987″، وهو الموقف الذي أبدى فيه الراحل استعدادا لتعديل ميثاق منظمة التحرير من السعي لبناء دولة فلسطين على كامل التراب إلى القبول بدولة فلسطينية على أراضي ال 67.
2 – و"خالد مشعل" يعلن تمسُّكه بحق عودة اللاجئين مستنسخا النهج "العرفاتي" ذاته دون أن يحيد عنه قيد أنملة، حتى في محاولة التشبُه الفاشلة بالذكاء العرفاتي نفسِه. فعرفات قد فعلَ الشيئَ نفسَه حينها. لا بل إننا نرى الاستنساخَ يحدث حتى على مستوى التفاصيل والتعبيرات والكلمات. فمشعل بعد أن يرفض القول بأنه سيعترف بإسرائيل ويتمسك بحق العودة في تهرُّب لم يتقنه أحد أكثر من "عرفات" بضحكته الماكرة الشهيرة، نراه – أي مشعل – يستنسخ نصَّ كلام عرفات حرفيا، دون أن يكون قادرا على استنساخ ذكائه، عندما يجيب وهو يُسأَل هل ستعترف بإسرائيل: "أنا أريد أن تعترفَ إسرائيل بحق شعبي فهي التي تحتل أرضي". لنجد أنفسَنا أمام نسخة مشوَّهَة عن الزعيم عرفات تحاول مطابقة أدائه لتستنسخَ رمزيتَه فلا تستطيع.
3 – إن من المفارقات العجيبة التي لا يمكننا المرور عليها مرور الكرام، هي أن المقابلة مع الراحل "ياسر عرفات" والتي صرَّح فيها بتلك العبارة الذكيَّة أجرتها قناة "السي إن إن"، التي أجرت المقابلة الأخيرة مع "خالد مشعل" كذلك وفي ظروف شبيهة. ولقد أشَّرت المقابلة التاريخية مع عرفات في وقت لاحقٍ على أنها جاءت بعد مفاوضات مضنية خفِيَّة مع الأميركيين، وأن نشرَها جاء تكريسا لما تمَّ الاتفاق عليه وتحضيرا للاعتراف بالمنظمة أميركيا، وفتح باب التفاوض الذي أضفى إلى "أوسلو" مع اسرائيل.
4 – التشابه في الظروف التي تحيط بالواقعتين لا يقف عند الحدود التي ذكرناها، بل هو يتجاوزها إلى حدِّ الأوصاف التي أُطْلِقَت على الحدثين النضاليين والثوريين اللذين مهدا كلٌّ للمرحلة التي تَلَتَه. فالشعب الفلسطيني خلال يوميات الانتفاضة الأولى عام 1987 وقبل بدء معالم الوجهة الفلسطينية بزعامة عرفات، وُصِفَ بأنه "يحقق معجزة"، وقصف تل أبيب والقدس في هذه الأيام، والصمود الذي أنجزته المقاومة في غزة يوصفان بأنهما "أسطورة". هناك أعلن من اعتبر قائدا للنصر، وهو الزعيم الراحل عرفات" قبوله بدولة فلسطينية على أرض ال "67″، واليوم يعلن من اعتبر قائدا للنصر عن قبوله بدولة فلسطينية على أرض ال 67. إنه لأمر يثير بالغ الاستغراب أن نعلن أننا لن نقبل بأقل من دولة ممتدة من النهر إلى البحر قبل أن ننتصر، لينزل سقف مطالبنا بعد أن انتصرنا؟! ترى، هل يعني هذا أننا لم ننتصر أصلا، وإنما ساعَدْنا على تشكيل الواقع بما لا يجعل رضوخنا اللاحق يظهر على شكلِ هزيمة؟!
5 – ما أغرب وما أدق الشبه بين إيماءات "عرفات" العاطفية آنذاك، وبين محاولات "مشعل" للتماهي في العاطفية والوجدانية مع ما كان يعلنه الزعيم الراحل. فقد صرَّح مشعل ب "أنه عائد قريبا إلى غزة". وهو النص نفسه وبالكلمات نفسِها ما تمَّ نشره في "جريدة الحياة اللندنية" على لسان عرفات خلال الانتفاضة الأولى عندما قال "أنه عائد إلى الضفة الغربية". ولأن عودة عرفات التي تحققت لاحقا وكما تبين، لم تتم إلا من خلال صفقة سياسية ترتضيها إسرائيل وتوافق عليها وتضمنها، فمن الصعب تصوُّر تصريح مشعل بعيدا عن أن يكون مؤشرا واضحا على أن هناك صفقة سياسية يتم ترسيمها في الخفاء، ستطل علينا بوجهها القبيح كما أطلت علينا أوسلو عام 1993 بوجهها القبيح أيضا.
6 – ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإنه من غير المريح إطلاقا ما لاحظناه من غزلٍ ناعم ومجاملاتٍ سياسية بين "حركة الجهاد" و"حركة حماس" من جهة، وبين "رمضان شلَّح" و"خالد مشعل" من جهة أخرى. وكأن نوعا من التمهيد النفسي يتمُّ تنفيذه لاستكمال أوجه التشابه المريرة بين التجربتين "الأوسلوية الأولى" و"الأوسلوية الراهنة". فهل تتكرَّر تجربة "الجبهة الشعبية" مع الراحل "عرفات" قبل وبعد "أوسلو 1″، عندما شاهدنا جميعا الراحل "أبو علي مصطفى" إلى جانب عرفات في مسيرة الانهيار الأوسلوية، فنرى مشهدا يضم "شلَّح" الى جانب "مشعل"؟!
7 – إلى ماذا يمكن أن يؤشِّر الاعلان الفرنسي الرسمي المتمثل في دعوة دول الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر بوضع حماس على لائحة الإرهاب؟! وإلى ماذا يمكنه أن يؤشِّر ما نشرته الصحافة الفرنسية من كون هذا الإعلان نتاج مسعى قَطَري عمره ستة شهور بما فيه من ضمانات لجهة تغيُّرٍ جوهري في وضع حماس وموقعها في حلف إقليمي جديد متعاون مع إسرائيل وحريص على أمنها، ومن موافقة "خالد مشعل" على برنامج سياسي جديد يمهد لدخول مفاوضات مع إسرائيل. وهو ما نقول نحن أنه تأسيس ل "أوسلو 2″.
ثانيا.. هل هو تخطيط للعودة إلى ما قبل 1967 شكليا، وإلى ما بعده مضمونيا؟!
أكد "سلام فياض" في معرضِ تعقيبه على واقعة حصول فلسطين على مسمى "عضو مراقب" في الأمم المتحدة، أن شيئا لن يتغير بدون مشاركة أمريكية كبيرة في العملية السياسية. لكن الأمريكيين كانوا معارضين لمشروع "العضو المراقب"، حيث أكدت ممثلتهم في الأمم المتحدة "سوزان رايس" ذلك قائلة: "إن الاعلان الكبير اليوم سيختفي سريعا، وإن الفلسطينيين سيستفيقون في اليوم التالي ليجدوا أنه لم يحصل تغيُّرٌ على حياتهم". وفي المجمل ترى الكثير من التعليقات "أن القرار ما هو إلا قرارٌ رمزي".
ونحن نعتبره أقل من ذلك بكثير، لأنه قد يكون أرضية قانونية تنسخ وتلغي قرارات أممية أهم منه بكثير. فنحن نتساءل بالفعل: كيف تسمح أيّ جهة فلسطينية لنفسها بأن تتجِهَ إلى الأمم المتحدة لتستصدرَ منها قرارات تنطوي على أقل بكثير مما انطوت عليه قراراتٌ سابقة، كنا ومازلنا نعتبرها معتدية على حقوقنا، ونقبلها إن قبلناها من باب التجاوز ومن باب واقعية القبول بالشرعية الدولية، لأنها قد تكون طريقنا إلى الشرعية التاريخية؟!
أليس قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو القرار 181 لعام 1947، يعترف بحق الفلسطينيين في دولة عربية فلسطينية على جزءٍ كبير من أرض فلسطين التي تمَّت الإشارة إليها في صكِّ الانتداب البريطاني، وهي دولة كاملة العضوية، وليست مجرد "عضو مراقب"؟!
فإذا كنا قد تركنا البندقية وقررنا اللجوء إلى المفاوضات وإلى القرارات الدولية للرهان على استرجاع حقوقنا المغتصبة، ألم يكن من الأجدى والأنفع والأقوى، الإصرار على مرجعية هذا القرار الذي لا يستطيع أيٌّ كان أن يعترض علينا عند اللجوء إليه بوصفه مرجعية من مرجعيات الشرعية الدولية لاستعادة الحقوق المعترف بها على أرض فلسطين؟!
وإذا كان الردُّ هو القول بأن إسرائيل ما كانت لترضى، وبأن الولايات المتحدة ما كانت لتوافق على هذه المرجعية، فهل هما وافقتا ورضيتا أصلا على ما هو أقل منها، بل هل هما ستقبلان بأيِّ مرجعيات نقيم عليها مطالبنا، حتى لو كانت في مرحلة معينة أقل من سقوف عروضهما؟!
ألم يتضح لنا من خلال التحليل الذي طرحناه في بداية هذا المقال، أن العبرة في تحقيق نتائج ملموسة على الأرض بشأن الحقوق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ليس هو حجم المطالب، ولا هو المرجعيات القانونية والسياسية التي نقيم على أساسها تلك المطالب، بل هو القدرة على فرضها، بحيث أنه لا فرق بين مطلب وآخر إلا بقدر ما نكون متمكنين من تحقيقه وإنجازه أيا كان حجمه، لأن من يستطيع أن ينجز القليل يستطيع أن ينجز الكثير، بحيث أن مطالب كبيرة بدون قدرة على تحقيقها، هي فرقعة وقرقعة في فراغ، وهي من ثمَّ أقل قيمة من مطالب قليلة مرفقة بقدرة على تنفيذها، مادام تنفيذها سيؤدي حتما إلى تنفيذ ما هو أكبر منها؟!
وبالتالي وفي ظل أوضاع كهذه، وفي ضوء طبيعة الصراع ذاته من حيث القوانين التي تحكمه على وجه الحقيقة، أوليس من الحكمة لمن يريد اللجوء إلى التفاوض الأبدي لاسترداد حقوقه، أن يقيمَ تلك الحقوق على الشرعية الدولية، تاركا بعد ذلك للزمن وللمتغيرات فرصة تحقيقها على أرض الواقع. فمادمت لن أنجزَ شيئا بالتفاوض، ولن أخسرَ شيئا بتوسيع دائرة مطالبي، فلماذا لا أوسعها مادمت سأبقى ضمن الشرعية؟!
إن من يعملون على تقليص دائرة مطالبهم إلى ما هو أقل بكثير من حقوقهم التي تقررها الشرعية الدولية، ونحن هنا لا نتحدث عن الحقوق التاريخية، هم من يفترضون أن جوهرَ المشكلة في ظل الاختلال في موازين القوى، يكمن في حجم المطالب، وليس في ميزان القوى المختل ذاتِه. وهؤلاء يخطئون في تصور مكونات الصراع، وينحرفون في توصيف الفعل المؤدي إلى حسمه، ويجدون أنفسهم مضطرين دائما إلى التراجع عن السقف السابق تجاوبا مع ما راحوا يقتنعون بأنه حقائق جديدة لم تعد تنفع معها السقوف السابقة، تاركين للعدو المساحة الكاملة في تشكيل فلسفة الصراع، وفي صياغة معادلاته على الأرض.
وبالتالي فليس من السهل اعتبار أن ما أقدم عليه "محمود عباس" مما كان يلوِّح به دائما ليسفرَ لنا عن هذه الورقة الجديدة التي ستضاف إلى ألاف الأوراق في أدراجنا وأدراج العالم المغلقة، بعيدٌ عن تنفيذه لأجندةٍ ماَّ لها علاقة بما يحدث في الإقليم عامة وفيما يخص القضية الفلسطينية خاصة.
إن السلطة الفلسطينية بوصفها المُخْرَج المسخ الذي أنجبته "أوسلو"، استنزفَ كلَّ إمكانات توليده لأكاذيب وتسويفات وترحيلات جديدة. أي وبتعبير أدق، لقد انتهى دور اتفاقية "أوسلو" في قدرتها على تزويد حالة "اللاحرب واللاسلم" بأيِّ مخرج جديد مقنع وقادر على الإسهام في عدم التأثير على الوضع الفلسطيني والأردني باتجاه عدم دفعه نحو إعادة إنتاج نفسه بشكل ثوري جديد قد يؤثر سلبا على حالة "اللاحرب واللاسلم"، خاصة مع تداعيات الربيع العربي على الساحة الأردنية.
وبالتالي ومادام اللجوء إلى "الخيار الإسرائيلي" بالانزلاق إلى "أوسلو" في فلسطين، بعد قرار "فك الارتباط" الذي تم اتخاذه في الأردن، كان يهدف إلى استدراج الجسد الفلسطيني الخارجي إلى مقتله للبدءِ في عملية ذبح القضية الفلسطينية وتصفيتها بشكلٍ ممنهج ومدروس، عبر كلِّ ما يتاح من استنزاف حالات التوالد الممكنة في الخيار الأوسلوي، فإنه قد الآوان لغلق هذا الملف باستكمال عملية الذبح عبر تصفية السلطة الفلسطينية بعد أن أدت دورها على مدى عشرين عاما، ولم تعد قادرة على تقديم المزيد.
ولكن تصفية "السلطة الفلسطينية" ودفن مرجعية "أوسلو" حتى إسرائيليا، بعد أن لم تعد إسرائبل قادرة على الاستفادة منهما، ليس من شأنه أن يحقِّقَ نتيجة بناءة وفعالة على صعيد "القضية الفلسطينية" التي تُعْتَبُر قضية عصيَّة على التغييب المطلق. ويجب لترحيل آفاق حلولها النهائية إلى المستقبل، طرحُ صياغات جديدة لها قابلة لإنجاز ذلك الترحيل، كي لا تتجسَّد وتتخلَّق عبر صياغات مختلفة غير مسيطرٍ عليها من خارج دائرة الهيمنة والتوجيه "الإمبريالية والصهيونية والوظيفية".
إن ما يحاك في الخفاء، وما يُدَبَّر بليلٍ، في غزة تمهيدا لوراثة حماس لتركة أوسلو فيها، بنسخة "أوسلوية" جديدة أكثر مسخا حتى من النسخة الأولى، داخل الحاضنة المصرية. وما يحاك في الخفاء وما يدبّرُ بليلٍ، في الضفة الغربية عبر محاولة استحضارِ الكونفدرالية التي ستعيد إنتاجَ القضية الفلسطينية في حاضنة النظام الهاشمي الوظيفي بعيدا عن مشروعي التغيير والتحرير الحقيقيين، اللذين تفقدُ أردنية الضفة قيمتَها ومعناها ودلالاتِها الوطنية بدون أن تتحقق وفق أسُسِهما..
نقول.. إن ما يحاك على هذين المحورين مما تابعناه على مدى الأسابيع الأخيرة – تصريحات الأمير حسن حول "الضفة الغربية"، تعقيبات فاروق القدومي على تصريحات الأمير حسن، تصريحات محمود عباس حول حق العودة، الهجوم على غزة، زيارة أمير قطر لغزة، اغتيال شخصيات عسكرية بارزة في حماس، إنجاز الهدنة بوساطة مصرية، زيارات وزراء خارجية عرب للقطاع، تصريحات مشعل لقناة السي إن إن، مهزلة الدولة العضو المراقب، تطورات الأحداث على الجبهة السورية، العمل على تصفية الحراك الأردني.. إلخ – هو تمهيد لمرحلة جديدة ستحقن "النظام المصري الجديد" بموروثات الوظيفية العربية التي يبدو أنه لم يكن مهيئا للتخلُّص منها، إن لم يكن المنهج الإخواني ذاته هو شكل آخر من أشكال الوظيفيات المتسترة بعباءة المعارضة، عبر قذف القطاع ليتشكَّل في الحاضنة المصرية من جديد على النحو الذي كان عليه قبل حرب 1967. وسوف تعيد قذف الضفة الغربية إلى حاضنة النظام الأردني بشكل قريب مما كان عليه الوضع قبل تلك الحرب، دون أن تنسحب إسرائيل من الضفة بشكل يهدِّدُ أمنَها، أو يفرض عليها "هوية فلسطينية" بجوارها. لتبدأ مرحلة جديدة من عمر القضية والصراع، يتعامل معها الفلسطينيون والأردنيون والعرب باعتبارها القناة الجديدة المتاحة، لتستنزفَ من عمر تعاطيهم مع الصراع عشرين سنة قادمة إن لم يكن أكثر.
وفي ضوء كل ما نراه يحدث أمامنا، لم يعد هناك من أمل في عرضِ صياغةٍ جديدة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي يكون متحررا من هيمنة "الإمبريالية والصهيونية والوظيفية"، سوى بأن ينطلق ربيع فلسطيني في الضفة الغربية، يتماهى مع الربيع الأردني، الذي يجب أن يقوده الحراك الشعبي المتحرر من هيمنة القوى السياسية التقليدية الخانقة له، في محاولات لحرفه من مساره التفاعلي الصحيح، وذلك تمهيدا للتأسيس لمشروع "التغيير" ولمشروع "التحرير"، من على قاعدة تفريغ مشروع "أوسلو 2″ بقيادة "حماس في غزة"، و"فلول السلطة في رام الله"، و"النظام الوظيفي الهاشمي" في الأردن، و"نظام الإخوان المسلمين في مصر"، من مضمونه، ليكون الحديث عن مشروع "أردنية الضفة الغربية" – التي يلعب هؤلاء على أوتاره بغية جعله مشروع تصفية دون أن يكون مشروعا لا للتغيير ولا للتحرير – هو مشروع الحراك الشعبي وجزء لا يتجزأ من برنامجه الوطني، تأسيسا متكاملا لمشروع الأردن الجديد، فيفقد مشروع تصفية القضية ركائزه الأساس، من خلال مواجهة الحراك الشعبي له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.