خلال 90 دقيقة.. بين الأهلي وتحقيق "الحلم الآسيوي" عقبة كاواساكي الياباني    الهلال السعودي يقيل جيسوس ويكلف محمد الشلهوب مدرباً للفريق    اللجنة السعودية المنظمة لكأس آسيا 2027 تجتمع بحضور سلمان بن إبراهيم    رئاسة الحكومة من بحاح إلى بن مبارك    غارات اسرائيلية تستهدف بنى تحتية عسكرية في 4 محافظات سورية    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    صحيفة: أزمة الخدمات تعجّل نهاية التعايش بين حكومة بن مبارك والانتقالي    إذا الشرعية عاجزة فلتعلن فشلها وتسلم الجنوب كاملا للانتقالي    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدف واحد ومطالبة سلمية
نشر في المصدر يوم 05 - 03 - 2011


الحلقة الثانية:
توقفنا في ختام الحلقة الأولي عند تساؤلات حول ما يمكننا استخلاصه من عبر ودروس وحقائق رئيسية ومهمة لأحداث ومسارات عاصفة التغيير العربي الهادرة حتى لحظتنا, وعن أبرز الملامح والمعالم والقسمات التي يمكن تصورها لتحديد ورسم صورة وطبيعة وغايات تلك العاصفة في حال تبلورها ونضجها واكتمالها, وهل هي مؤهلة فعلا لتأسيس وتدشين مرحلة جديدة ومختلفة تماما وكليا وتبني مستقبلا عربيا واعدا ومشرقا؟
ولعله من حسن طالعنا وحظنا السعيد أن نبدأ في كتابة الحلقة الثانية هذه, مساء يوم الجمعة الحادي عشر من شهر فبراير, اليوم التاريخي المشهود الذي توج فيه الشعب المصري العظيم ثورته الشعبية المتميزة بالنصر الحاسم والمبين والنهائي من حيث إنجاز وتحقيق هدفها الاستراتيجي الأبرز المتمثل بإسقاط وإزاحة السلطة الحاكمة, هدف تمسك به الشعب المصري لثورته الرائدة وأصر عليه بثبات لا يتزعزع وبوعي عميق وبصيرة نافذة متجاوزا ومسقطا كافة الأساليب والمحاولات والألاعيب التي أريد بها الالتفاف علي ثورة الشعب واحتوائها وإجهاضها في المهد, وذلك بفضل تماسك وتلاحم وصمود وقوه الملايين الهادرة من الشعب بفئاته وشرائحه ومكوناته وخاصة الشباب المتفجر حيوية وآمالا ووعيا واقتدارا.
وكما قلنا في الحلقة الأولى السابقة بأنه كان من الطبيعي بل ومن المحتم أن تتخذ "عاصفة التغيير العربي" الهادرة من أرض مصر وتربتها ومناخها وجغرافيتها وتاريخها وحضارتها وثقلها وإنسانها مستقرا لها، وحاضنة خلاقة لنموه وتبلورها ونضجها واكتمالها وتكامل قسماتها وملامحها وجوهرها ومضامينها نموذجا مشعا جاذبا وهاديا، ومنذ بدء انطلاق الثورة الشعبية المصرية الرائدة يوم 25 من شهر يناير 2011 إلي يوم تتويجها بالنصر الحاسم والمبين يوم الجمعة 11 فبراير، 17 يوما متواصلة ومستمرة تسمرت والتصقت عيون وعقول العرب والعالم بشاشات التلفزة والإذاعات والانترنت ومختلف وسائل الاتصالات والمعلومات لتتابع مندهشة ومنذهلة وتتفاعل وتندمج بوقائع وأحداث ومسار الثورة الشعبية المصرية دقيقة بدقيقة، تلك الثورة التي فاقت وتجاوزت إلي أبعد الحدود كافة الاحتمالات والتصورات والتوقعات المحلية والدولية والإقليمية التي كان أكثرها تفاؤلا أو حماسا لا تراها تتعدى مجرد مظاهرات احتجاجية وأعمال شغب هنا وهناك أو إضرابات أو اعتصامات أو مهرجانات تنطق من فوران غضب واستياء لن يلبث أن تخف حدته وتخبو حرارته ويتلاشي تأثيره سواء بفعل قوة القمع والبطش الأمني أو بإعلان بعض الإصلاحات وتلبيه بعض المطالبات الشكلية في الأجور أو الأسعار أو المعيشة، لتعود الحياة والأوضاع إلي سابق عهدها.
لم يستطع أحد أو جهة أن يتخيل ولو مجرد خيال بأنه ما يزيد عن 9 مليون إنسان من شعب مصر سيصمد لمدة 17 يوم متواصلة بدون انقطاع مواصلين الليل بالنهار وبإيمان وثبات وإصرار في مظاهرات واعتصامات واحتجاجات وإضرابات بالملايين ومئات الآلاف وبأسلوب حضاري سلمي منظم ومنضبط، لم تستفزهم أو تستدرجهم أعمال وأساليب القمع والبلطجة والعنف والقتل التي حصدت ما يقارب أربعمائة شهيد إلي فقدان أعصابهم وصبرهم واندفاعهم إلي الفوضى والعنف والتخريب علي الإطلاق، وهو ما أهل "ثوره 25 يناير" الشعبية لتكون -عن جدارة واستحقاق- أعظم وأكمل وأهم ثورة في التاريخ الحديث كله، ليس علي مستوى مصر والوطن العربي فحسب، بل وعلى مستوي العالم الثالث كله.
وعلي الرغم من كون الثورة التي حملت تونس شعلتها الأولى واتخذت من مصر مستقرا وحاضنا ومبلورا لها، ومرورا بسائر المحطات التي يتوقع عبورها فيها على امتداد بلدان عربية أخري عديدة، لا تزال في مرحله الغليان والتفاعل والتوثب، وهي مرحل مبكرة جدا يصعب -في ظلها- إجراء أو حتى إعطاء تصورات تحليلية أو تقييمية لها سواء لعوامل وأسباب اندلاعها أو لملامحها وقسماتها ومعالمها وطبيعتها الراهنة، أو لأهدافها وغاياتها ومآلاتها المستقبلية.. إلا أننا نجازف في القيام بقراءة أولية نستخلص منها أهم وأبرز الحقائق والدروس والعبر وذلك علي النحو التالي:
أولا: أن عاصفة التغيير العربي الهادرة هذه والتي اكتسبت اليوم عن جدارة واستحقاق صفة "الثورة"، هي في واقع الأمر ثورة عربية شاملة بدأت نذرها ومفاعيلها الأولى علي أرض تونس ومنها تطايرت شررها وترددت أصداؤها على محيطها القريب في الجزائر والمغرب وليبيا وعلى المحيط الأبعد في الأردن واليمن وفلسطين والسودان وحطت رحالها في مستقرها الطبيعي الخلاق مصر، وفيها ومنها تحقق وأنجز انتصارها الحاسم النهائي والباين لتصبح بمثابة النموذج الأكثر نضجا وتبلورا واكتمالا.
هذه الثورة العربية استدلت الستار وأنهت تماما عصر الثورات التي أعقبت مرحلة تحرر البلدان العربية خلال فتره الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين والتي خططت لها ونفذتها الجيوش العربية عبر "انقلابات عسكرية" وسيطر بها العسكر على الحكم في الكثير من البلدان العربية واتسمت تلك الأنظمة الحاكمة بالقمع ولاستبداد والسطوة البوليسية ومصادرة الحريات والحقوق الإنسانية لتنتهي في المحصلة النهائية بتسلط حكام ديكتاتوريين أشاعوا الفساد وأهدروا الأموال العامة والإثراء غير المشروع للطبقة الحاكمة وأعوانها. إن هذا العصر وهذه المرحلة التي امتدت لحوالي ستة عقود من الزمن أو يزيد قد سقطت وانتهت تماما ونهائيا سواء من حيث الشرعية أو المشروعية أو النكبات والنكسات والمآسي والكوارث التي نتجت عنها أو خلفتها وآلت إليها في الأخير، وعلي أنقاضها وأطلالها وخرائبها تقيم "الثورة العربية المعاصرة" اليوم مرحلة أو عصرا سياسيا جديدا ومختلفا تمام الاختلاف عنوانه "عصر الشعوب" وشرعيتها ومشروعها الحضاري الحر المشرق وبرهنت وقائع وأحداث الثورة وأكدت تأكيدا من واقع التجربة العملية المعاش أن قوة الشعب حين يتحرك وينطلق في ثورته بعد وثوقه بسلامة ووضوح هدفها ونقاء قادتها، يستحيل على أية قوة "عسكرية" أو "أمنية" مهما بلغ بطشها وجبروتها وطغيانها، أن تقهر إرادة الشعب أو تهزم تحركه الثوري العارم، كما يحدث عادة وفي مرات كثيرة في ضرب وإسقاط السلطات الحاكمة والانقلابات العسكرية وحكم الحزب الواحد.. الخ.
أما ثورات الشعوب الحقيقية فإنها المنتصرة دوما وأبدا.
ولهذا لم يكن مستغربا، ولا غير متوقع، أن نرى الجيوش العربية -من خلال قادتها الكبار- نافرة ورافضة بتصميم وثبات وبشكل حاسم، القيام بدور يحسم الأمور، سواء في تونس أو مصر، وتتولى السيطرة الانتقالية والمؤقتة على مقاليد الأمور في البلاد، رغم أن ذلك الدور كان مطلبا شعبيا مرحبا به.
ثانيا: أن الأحزاب السياسية التقليدية القائمة التي كانت في غالبيتها الساحقة -إن لم يكن جميعها- في نشأتها وبرامجها وأساليبها وعقلياتها، بمثابة نتاج وإفراز لعصر ومرحلة سياسية سابقة ومنقضية اتسمت -وفقا لما أشرنا إليه آنفا- بنظم حكم أحادية شمولية قمعية عسكرية قامت واكسبت نفسها مشروعية "انقلابية عسكرية" صادرت الحريات السياسة والعامة بما في ذلك حرية وعلنية الأحزاب السياسة وحركتها، مما عكس تأثيراته ومقتضياته وأحكامه على عوامل وأسباب وأسلوب عمل ورؤى وعقلية تلك الأحزاب خاصة لاضطرارها إلى العمل السري تحت الأرض، لتصبح تحت أسر وتأثير "الأيديولوجية الانقلابية" السرية التي وجهت أسلوب حركتها ومجال نشاطها وأسلوبه نحو التغلغل داخل صفوف وحدات "الجيش" و"الأمن" وتنفيذ "انقلابات عسكرية" لا تختلف عن السلطات العسكرية الحاكمة إلا من حيث تمتع الحكم الجديد أو السلطة الحاكمة الجديدة ذات الطبيعة العسكرية –أساسا- بتنظيم حزبي سياسي مدني يضع نفسه أداة ومطية للسلطة الحاكمة الجديدة في بسط وإحكام قبضتها البوليسية "والقمعية الشمولية الأحادية"، وبفعل وتحت تأثير وطبيعة تلك الإيديولوجية والعقلية فإن الأحزاب السياسية التقليدية القائمة والتي كادت أن تفقد ثقة الشعب بجدواها ومصداقيتها كانت في حالة شبه غياب أو عجز أو شلل تام أو جزئي عند التنبؤ أو توقع رياح الثورة العاصفة أو الإحساس بنذرها وتفاعلات مخاضها، إضافة إلى عجزها عن تعبئة الشعب أو تفجير حدث "الثورة" وقيادة الشعب الذي فجرها واقتنع بضروراتها الملحة والتي انضج عواملها وهيأ ظروفها وقاد حركتها الشباب الصاعد الجديد ومنظمات مجتمع مدني نشطة والنقابات والحركات الاحتجاجية الرافضة المؤسسة حديثا، وتحت تأثير عامل "المفاجأة" التي داهمت قيادات الأحزاب السياسية التقليدية واندهاشها وذهولها سعت لاهثة للالتحاق بقطار الثورة الهادر والمتسارع في محاولة لحجز مكان لها فيه أو ركوب موجة الثورة, إن استطاعت, وفي أضعف الأحوال استغلالها وقطف ثمارها عبر صفقات ومساومات سياسية، لكنها لم تستطع أن تحقق ما سعت إلى تحقيقه من كل ذلك إلا على نحو هامشي وثانوي، لا بل إن إيقاعات الثورة القوية والمتسارعة كادت، أو إنها أدت -بشكل أو بآخر- إلي سحب جزء من الفئات الشابة الجديدة لتلك الأحزاب، لقد تجاوزت "الثورة الشعبية العربية" كل الأحزاب التقليدية وأساليبها العتيقة وعقليات قياداتها الراكدة، ويبدو أن الثورة سوف تفرض وتؤسس لأطر وتشكيلات حزبية ذات برامج ديناميكية وعقليات متجددة وأساليب عمل جديدة ووسائل مختلفة تتلاءم مع طبيعة وظروف ومقتضيات العصر أو المرحلة السياسية الجديدة والمختلفة التي ستفرض منطقها وأساليب تفكيرها ووسائلها وأهدافها وغاياتها.
ثالثا: ولقد أثبتت وقائع أحداث الثورة الشعبية على أرض مصر ومن قبلها أرض تونس، حقيقة ثابتة وجلية وساطعة، بأن السلطات الحاكمة الديكتاتورية الشمولية القمعية، ورغم استنادها واعتمادها على أجهزة وقوى أمنية جبارة وقوية قوامها مئات آلاف الجنود بل وملايين، وسيطرتها علي الثورة والسلطة والسلاح، لحماية نفسها وضمان تأبيد سيطرتها علي الحكم، وممارسة أبشع صور القمع والإرهاب والترويع للمواطنين والناشطين، ورغم ما تتعمد إظهاره وإبرازه وتضخيمه من جبروت وقوة لا تقاوم ولا تقهر، فإنها تتكشف -في لحظات الجد الساخنة- أنها مجرد كيان أو بنيان هش وبالغ الضعف والهزال إلى حد انهياره الكامل والسريع عند أول صيحات وهدير الشعب الثائر والغاضب المزمجر، وبرهنت الثورة من ناحية أخرى على حقيقة أخرى مكملة وهي أن القوة الجبارة والعاتية لثورة الشعب العارمة تكمن في سلمية وقائع مسارها وتصاعدها، وعلى الرغم من تقديم ثورة شعب مصر ما يقارب أربعمائة شهيد وبضعة آلاف من الجرحى، وتقديم ثورة شعب تونس ما يقارب ثلاثمائة شهيد وبضعة مئات من الجرحى، إلا أن ثورة شعب مصر أدهشت العالم وأبهرته وأذهلته حقا بثباتها وإصرارها وتمسكها الحازم بسلمية فعالياتها وأنشطتها والتنظيم والانضباط الدقيق والأسلوب النوعي والراقي والمتحضر المتمثل بالحرص الدائم علي نظافة ساحات اعتصام الملايين من أبنائها وانتظام الخدمات المختلفة والحماية الذاتية وأصطحاب أسر وأطفال الكثير منهم، وتحديد هدف استراتيجي واحد بسيط وواضح ومقنع وهو "الشعب يريد تغيير النظام" وهو ما يدل على حنكة وعبقرية فذة، إذ تشير كل تجارب ثورات شعوب العالم عبر التاريخ، إلى أنه إذا أردت تعبئة الشعب وحشده للثورة فعليك أن تحدد له هدفا واحدا يتميز بالوضوح التام والإقناع الحاسم والاختصار، فالشعوب عادة ما تنفر وتضيق وتتبرم من إشغالها بالتفاصيل والجزئيات النظرية والشروح الطويلة التي لا تجد وقتا لدراستها واستيعابها، ومن جانب آخر كشفت ثورة الشعب واقع حالة الجهل والغباء والانغلاق في عقليات وتفكير أجهزة السلطات الحاكمة القمعية الاستبدادية، فقد عجزت عن التنبؤ أو توقع حدث الثورة أو قواها أو وسائلها وتوقيتها الخ.. حيث حبست تلك الأجهزة نفسها وقيدت أو حصرت كل نشاطها وحركتها ومتابعاتها لأحزاب ومنظمات تقليدية ضعفت وشاخت في الغالب، غير مدركة أو متوقعة أن سنة الحياة تقضي بإفراز وتشكل حركات وجماعات جديدة مختلفة أكثر كفاءة وقدرة وإصرارا وثباتا، تظل بعيدا عن أنظار ورصد تلك الأجهزة الجاهلة التي تفتحت عيونها على أحزاب تقليدية فلم تبرحها أو تمد بصرها إلى ما يعتمل تحت وفوق السطح والواقع من قوى وجماعات ومنظمات وحركات مختلفة تماما، تلك التشكيلات الجديدة الأكثر شبابا ووعيا وصفاء رؤية وعزما.
رابعا : أن أهم وأبرز حقيقة أو عبرة بينتها لنا وقائع وأحداث "الثورة الشعبية" في تونس ومصر وما سيلحق بهما من ثورات في بعض الدول العربية، ذات الطبيعة والسمات المشتركة أو المتقاربة، أن مكاسب ومنجزات ثورة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات المذهلة والمتسارعة في العالم، أو ما بات يعرف بالفضاءات العالمية المفتوحة، وخاصة شبكة الانترنت والبريد الإلكتروني ومواقع العلوم والمعرفة، وصفحات التعارف والتواصل الاجتماعي ال"فيس بوك" وال "يوتيوب" وال "تويتر" والقنوات الإخبارية الفضائية على امتداد العالم، وغيرها من وسائل ثورة الاتصالات والمعلومات الرهيبة والتي مكنت الإنسان, أي إنسان، في أي ركن أو زاوية قصية ونائية بامتداد كرتنا الأرضية، من متابعة ومعرفة ما يحدث في أي جزء من الكون، بالصورة والصوت، وعلى الهواء مباشرة وفي ذات لحظة حدوثه، كل ذلك قد لعب دورا جوهريا رئيسيا بالغ الأثر والأهمية وأسهم إسهاما مباشرا في صياغة وتشكيل عقلية وأفكار الملايين العديدة من الشباب والرأي العام على امتداد العالم وتنمية وعيهم ومعرفتهم وثقافاتهم ورؤاهم لأنفسهم ومجتمعاتهم ودورهم وأساليب عملهم وأنشطتهم على نحو جعل منهم شبابا أكثر وعيا وإدراكا وثقافة ومعرفة وأكثر إحساسا بمسئولياتهم وحماسا وأدوارهم، فأصبحوا أكثر علما وثقافة ووعيا وحيوية من الفئات والشرائح التي تحكمهم وتدير شئونهم ومجتمعهم وقضاياهم. وبفعل وتحت تأثير انغلاق وتحجر وتخلف أفكار ورؤى حكامهم الذين عاشوا داخل أسوار من الحماية الأمنية والعسكرية، راح هؤلاء الحكام يغلقون كل الأبواب والنوافذ ويسدون كل المنافذ والقنوات والفتحات التي قد تتسرب من خلالها ما يعتمل في الدنيا من أحداث وتطورات وأوضاع ومعرفة وثقافة والعمل بكل الوسائل للحيلولة دون وصولها إلى عقول وتفكير الأجيال الشابة وعموم الرأي العام المحلي، وفي الوقت ذاته ومن خلال سيطرة السلطات الحاكمة المطلقة على وسائل الإعلام الرسمية مرئية ومسموعة ومقروءة وتحويلها إلى أجهزة دعاية تمجد الحاكم وتقدسه بشكل ممجوج وبالغ التخلف والجهل، مما دفع الأجيال الشبابية الجديدة، خاصة, والفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى الأكثر حيوية وتطلعا وحماسا، تعزف وتسخر وتمقت وتنصرف تماما عن سماع ومتابعة كل تلك الوسائل الإعلامية السخيفة والفارغة عن أي محتوى مفيد، وتغرف من وسائل الإعلام والمعرفة والاتصالات الحديثة وعبر الوسائل التكنولوجية الحديثة التي بات من شبه المستحيل على السلطات الحاكمة أن تمنعها أو تحجبها على نحو كامل، والواقع أن هذه الحقيقة تجلت بكل وضوح حين نظم وفجر وقاد أولئك الشباب ثورة شعوبهم وبرزوا أرقى ثقافة وأوسع علما ومعرفة وأعمق وعيا وإدراكا وأقوى مقدرة وأوسع علما ومعرفة وأعمق وعيا وإدراكا، وأقوى مقدرة واستيعابا وتصورا لشكل ومضمون الحياة الجديدة والمستقبل المنشود الذي يريدون صنعه على أرضهم! ووقفت السلطات الحاكمة، بكل أجهزتها ومؤسساتها ومراكزها وسياسييها ومفكريها وخبرائها، عاجزة مشلولة جاهلة لا تعرف شيئا عن ثورة تعصف بكل شيء حولهم.. ما هي؟ من هم مخططوها؟ من هم منفذوها؟ من قادتها؟ ما هي أساليبهم؟ كيف يفكرون؟ ماذا يريدون؟ أسئلة حائرة تتجاذبهم دون أن يهتدوا إلى جوابات عنها! وعند هذا الحد يجب علينا أن نتوقف في هذه الحلقة على أن تكون الحلقة الثالثة القادمة لاستعراض باقي ما أمكن استخلاصه حتى الآن من حقائق وعبر ودروس أفرزتها لنا عاصفة التغيير العربي الهادرة أو "الثورة الشعبية المعاصرة" فإلى هناك إن شاء الله تعالى.
شيفلد - بريطانيا 11 فبراير 2011م

المصدر اونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.