(1) خلال السنوات القليلة الماضية؛ أسس النظام عددا من الجمعيات والمنظمات الخاصة لتكون (ذراعا سياسيا واجتماعيا) له يسانده في مواجهته للمعارضة بكل أشكالها. ومع أن هذه الجمعيات والمنظمات كان باطنها (سلطوي) إلا أنها تظاهرت بأنها (مستقلة) ورفعت شعارات مثل: اليمن أولا.. واليمن في قلوبنا. وكما هو ملحوظ: فإنها شعارات كاملة الدسم الوطني؛ لأنها جعلت موقع اليمن في (القلوب) وليس فقط على الرأس والعين أو الجيب كما سخر المواطنون.. كما أنها جعلت اليمن أولا.. أي قبل كل شيء من الأحزاب والسياسيين وقيادات الدولة بالضرورة. تأسيس المنظمات المشار إليها بتوجيهات من النظام لا يتضح فقط من أسماء المؤسسين الذين (صدف) أنهم من أركان النظام بل من زبدة العائلة.. بل، أيضا، من الاهتمام الإعلامي الرسمي بنشاطاتها ورموزها.. وأكد ذلك القدرة المالية الكبيرة للمنظمات كما ظهر في تأسيس الفروع وتوظيف العاملين، وفي أنشطتها وإعلاناتها الضخمة؛ وفقا لقاعدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (أبت النقود إلا أن تظهر الأعناق).. ونقود هذه المنظمات كانت بالتأكيد من الخزينة العامة.. فلم نسمع أن أحدا من المؤسسين والقيادات باع ممتلكاته الخاصة لتمويل الأنشطة والنفقات التشغيلية المهولة على الطبيعة اليمنية المعروفة! ومن النقود إلى الشعارات؛ فقد واجهها الرأي العام اليمني – المعارض في الأساس– بحملة سخرية مرة؛ عكست معناها بعد أن فهمتها على أنها محاولة من المتنفذين والذين بسطوا أيديهم على الوطن كله أن يدافعوا عن (ممتلكاتهم) الخاصة. أو يخفوا حقيقة أنهم وضعوا اليمن في جيوبهم وليس في قلوبهم! (2) ولأن (رب رمية من غير رام)؛ فمع الحالة المخيفة التي وصلت إليها اليمن: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا.. وأمنيا (بالإضافة إلى: بتروليا وغازيا وكهربائيا وماء وخبزا) فيمكن القول إن الشعارين الرائجين في الإعلام الرسمي - وعلى واجهات المباني، ولوحات الإعلانات الضوئية في شوارع المدن اللذين يقولان (اليمن أولا.. اليمن في قلوبنا) - قد جاء وقتهما الآن حقا؛ بدون تمثيل و(طلبة الله)؛ إن لم نقل منذ بداية ثورة التغيير.. فعلى الأقل بعد حادثة تفجير مسجد النهدين التي أدت إلى ما يمكن وصفه بأنه انكشاف خطير للوضع الدستوري للدولة؛ بعد أن أصيب (الرئيس) ورؤساء البرلمان والوزراء والشورى ونائبين لرئيس الوزراء.. فضلا عن الهزة الكبيرة التي أصابت مفهوم (الأمن والأمان والاستقرار) الذي طالما تباهى النظام بتحقيقه للمواطنين فإذا هو يسقط في عرين الأسد نفسه.. فهل تجسد الشعاران اللذان كلفا البلاد الملايين وربما المليارات في تصرفات القيادات كما هو متوقع أم أن الشعارين كانا ضمن الضحايا الذين لم يلتفت إليهما أحد؟ لقد تلا الحادث انهيار الحالة الاقتصادية والتموينية للبلاد أوصلها إلى حالة لم يعد للدولة من وجود حقيقي إلا في دانات القصف التي تطلقها القوات الموالية للنظام على تجمعات المواطنين والقرى.. والمسلحين ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.. وها هو الشهر الأول يكتمل على حادثة النهدين واليمن ليس أولا فضلا عن أن يكون في القلوب.. فالنظام لم يعد مهتما بالدور الأساسي له الذي يعني توفير الخدمات الأساسية؛ فالكهرباء شبه المقطوعة نهائيا أدت إلى أزمة خطيرة في مياه الشرب. والإنسان قد يتحمل انقطاع الكهرباء لكن كيف يمكن أن يعيش بلا ماء؟ وفي الوقت الذي منحت السعودية اليمن 3 ملايين برميل بترول ازدادت أزمة الوقود مع انه متوافر على الناقلات خارج المدن، ويتحكم في إيصالها إلى المواطن (نخيط) عسكري أخذ حاجته من كل شيء ولم يعد يأبه بالشعب.. عقابا له – ربما – على مواقفه التواقة للتغيير، ولأنه لم يصدق ما كان رموز النظام يرددونه عن: اليمن أولا.. واليمن في قلوبنا! هذا الموقف الرسمي المتجاهل لمعاناة الشعب، المغلق آذانه وعيونه عن الانهيار المعيشي في البلاد يؤكد أن الشعار الأساسي للنظام ورموزه وجمعياته ومنظماته لم يكن (اليمن.. أولا) بل (الرئيس.. أولا).. ولا (اليمن في قلوبنا) بل (الرئيس في قلوبنا).. والدليل أن (الدولة) كلها مشغولة بحادث النهدين وكل حواسها موصولة بالرياض.. وما زالت تقيم الدنيا من أجله بعد مرور شهر: سياسيا وإعلاميا.. ومظاهرات وبرقيات؛ رغم أنهم يقولون إن الله سلم.. والرئيس بخير! أما أبناء اليمن الذين قُتلوا بلا حساب وفي صلاة جمعة الكرامة وغيرها؛ فيبدو أن دماءهم في ميزان الحكام تحسب بالريال اليمني وليس بالدولار واليورو مثل المحظوظين الذين قتلوا أو جرحوا في جمعة رجب.. و(اليمن) نفسه الذي يكاد ينهار: لا بواكي له، وانكشفت حقيقة شعار أن اليمن: (أولا) و(في قلوبنا) على حقيقة أنه: العرة – بضم العين، وهي كلمة باللهجة العدنية تعني أنه آخر واحد في الترتيب وليس بعده شيء– وعلى أنه لا في القلب ولا في.. (النخر)! شعب بكامله يعاني أزمة خطيرة في أمنه، ومعيشته، ووجوده الإنساني.. ولم يقدم مسؤول أمني.. ولا مسؤول تنموي ولا كهربائي، أو مائي أو غازي ونفطي، استقالته (سمعت أن هشام شرف وزير الاقتصاد والتجارة شكا من أن المسؤولين أيضا يعانون كما يعاني المواطنون من الأزمات.. باين عليك يا هشام من صنف ياسر العواضي.. أو ربما أقل درجة). المهم؛ لا شيء حدث في النظام يجعل العالم يطمئن أن هناك (دولة) تعرف مسؤولياتها تجاه الوطن والشعب.. وتعرف أنه في حالة عجزها عن أداء واجبها فلابد من أن يقدم المسؤولون استقالاتهم فورا لا أن يتحولوا إلى مفاوضين حول آليات تنفيذ المبادرة الخليجية، وشروط بقائهم، وضمانات عدم ملاحقتهم قضائيا على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها بحق المعتصمين خلال خمسة شهور! (3) مع ظهور الإشكاليات الدستورية والسياسية في أعقاب حادثة النهدين، وإصابة الرئيس وكبار معاونيه تلك الإصابات البالغة التي أعجزتهم عن ممارسة أعمالهم.. عدت إلى كتاب قديم عن اغتيال الرئيس الأمريكي (جون كنيدي) في مدينة (دالاس) في 22/11/1963م. والكتاب يعد أهم كتاب ظهر عن الحادثة، وأوفى استقصاء للأيام التي سبقت الاغتيال ثم الأيام الثلاثة التي تلته حتى إنه تتبع كل شيء: ساعة ساعة، وكاد يودي بصحة مؤلفه (وليم مانشستر) نهائيا. ما يهمنا من الكتاب هو كيف تصرف الأمريكيون الذين كانوا بجانب (كينيدي) خلال الساعتين اللتين أعقبتا إطلاق الرصاص وإعلان مقتل رئيس أكبر دولة في العالم! ففي تلك اللحظات الحاسمة يظهر معنى (الدولة) في النفوس ويطغى على (الفرد) بكل ما كان له من مكانة وهيبة، فتلك هي العلامة الصادقة على قوة الدولة، والرجال الذين تقوم على أكتافهم (الدول) يعرفون أن سلامة الدولة واستمرارها وهيبتها مقدمة على كل شيء من الحسابات السياسية والعواطف.. وعلى العكس منهم هؤلاء الذين يهرعون لمراعاة (الحسابات) ويتدثرون بالعواطف والأكاذيب لإخفاء حقيقة أن (الدولة) عندهم: مزرعة خاصة، وملكية خاصة! في تلك اللحظات الحرجة التي لم يكن المحيطون بالرئيس القتيل يعرفون أبعاد المؤامرة؛ وقعت أحداث وتمت ممارسات واتخذت قرارات تستوحي ما يمكن وصفه روح معنى (أمريكا.. أولا) ولكن بدون شعارات ولا ميزانيات ولا نخيط على المواطنين. كانت مصلحة أمريكا الهاجس الذي حرك عناصر عديدة في مسرح اغتيال كينيدي وفي أماكن أخرى.. وقد أورد كتاب (موت رئيس) حكايات ومواقف مدهشة عكست هذا الإحساس.. وصحيح أن هناك فارقا بين نتيجة ما حدث في (دالاس) – المدينة المحافظة الكارهة لليبرالية كينيدي والواقعة على بعد ألف ميل من العاصمة – وما حدث في دار الرئاسة اليمنية عرين الأسد؛ لكن المعنى واحد وهو كيف يفكر أناس مسؤولون في وقت الخطر في الدولة والوضع الدستوري السليم لها.. وبين آخرين لا هم لهم إلا إخفاء الحقائق، وتزييف وعي الشعب والتلاعب بالمعلومات عن حالة (رئيس) الدولة تحقيقا لأغراض شخصية ومصلحية!
(4) أثناء سير موكب الرئيس الأمريكي كينيدي في شوارع مدينة دالاس في ولاية تكساس؛ أطلقت عدة رصاصات عليه أصابته مباشرة في عدة أماكن في الرأس مباشرة، ونقل فورا إلى المستشفى حيث أدخل غرفة العمليات لكنه كان ميتا بالفعل. ومن اللحظة الأولى للحادث تسلسلت المشاهد التالية التي نريد أن يتأمل فيها القاريء: - بعد دقائق قليلة جدا من إطلاق الرصاص على (كينيدي)؛ أطارت وكالة يونايتد برس الخبر إلى العالم بعد أن نجح مراسلها الذي كان في سيارة خلف الرئيس في استباق المراسلين؛ وخاصة منافسه اللدود مراسل (الإسوشيتد برس). وبعد نصف ساعة فقط من الحادث وتأكد الأطباء من وفاة (كينيدي)، وبينما العالم يترقب مصير تطورات ما حدث؛ أعلن في مؤتمر صحفي نظم على عجل في حديقة مستشفى (باركلاند): أن الرئيس (كينيدي) قد مات. هكذا بكل بساطة، ودون الحاجة إلى ألعاب أكروبات إعلامية من قيادات الحزب الحاكم لإخفاء الحقائق خوفا على.. مصير الوطن! فأمريكا في تلك الساعة كانت أكبر من الرئيس؛ بل لا يستطيع ولا يجرؤ أحد أصلا أن يقول: إن الرئيس بحجم الوطن أو أصغر قليلا! - ثارت مشكلة قانونية بعد دقائق من إعلان مقتل كينيدي رسميا؛ فقد أصر الفريق الأمني ومساعدوه على ضرورة نقل (الجثة) فورا إلى الطائرة الرئاسية والسفر إلى واشنطن.. لكن موظفا محليا اسمه (إيرل روز) يعمل طبيبا شرعيا للمدينة رفض السماح بإخراج جثة رئيس الولاياتالمتحدة قبل تشريحها؛ مؤكدا للمقربين: (هذا البلد – يقصد دالاس – فيه قانون، ونحن نعتزم تطبيقه.. لن يغادروا هذا المكان طالما وقعت جريمة قتل قبل تشريح الجثة). وعندما حاول الفريق الأمني – الذي كان واقعا تحت تأثير صدمة الحادث- تفهيم الرجل أن الميت هو رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية أجابهم: (غير مهم.. فلا يمكن أن نضعف سلسلة الأدلة).. وعندما طلبوا استثناء لهذه الحالة أصر على موقفه: إنها اللوائح! حجة الطبيب الشرعي في مواجهة الفريق الأمني لم تكن خاصة به ولا بالرئيس، وربما يرى البعض فيها نوعا من التعنت.. لكن الملفت للنظر أن الطبيب حاجج الغاضبين بأن تشريح الجثة ضروري لأن ذلك من حقوق (القاتل أو القتلة) حينما يحاكمون! فمن بين هذه الحقوق الحق في معرفة النتائج غير المتحيزة لتشريح الجثة! قارنوا هذا الفهم المباشر للقانون مع ما حدث في صنعاء عندما دكت القذائف والصواريخ منازل مواطنين بعد ثوانٍ من تفجير المسجد؛ سواء لأنهم رموز معارضة أو لإتمام حبكة المؤامرة، وهاهم بعد شهر كامل لا يعرفون حتى الأداة التي استخدمت في التفجير.. وهل الفجوة الموجودة في جدار المسجد كانت من الداخل إلى الخارج أو العكس، وأحضروا خبراء دوليين ليفتوهم في الفجوة! ولكيلا يقول أحد إن الطبيب الشرعي الأمريكي كان متعنتا و(مزايدا)؛ فالكتاب يقول إنه رغم إصراره على بقاء الجثة وتشريحها واستخراج شهادة رسمية؛ إلا أنه وافق على السماح بنقل الجثة إلى عيادة طبية في ولاية تكساس لتتولى عملية التشريح! ولأن كل الحلول فشلت، ولم يستجب الرجل حتى لنصائح من هو أكبر منه وظيفيا بأن يتغاضى قليلا.. فقد نفذ الفريق الأمني الرئاسي؛ المرعوب من فكرة وجود مؤامرة أكبر؛ تهديداته وأخرجوا الجثة بالقوة.. وإن كان مدير المستشفى المتعاطف سياسيا قد أعد شهادة وفاة ودسها خلسة في جيب أحد رجال الفريق الأمني! - ذكر الكتاب أن عددا من رجال البوليس السري المكلفين بحماية رئيس الولاياتالمتحدة، والذين كانوا في السيارة الخلفية مباشرة، ورأوا الرصاص يخترق مؤخرة جمجمة كينيدي ورقبته وشاهدوا تطاير مخه ودمائه؛ قرروا لحظتها أن مهمتهم صارت حماية نائب الرئيس (ليندون جونسون) الذي صار هو (الرئيس) بعد أن مات (كينيدي) يقينا.. والسبب في ذلك أن دفتر التعليمات لديهم ينص على أن مهمتهم هي حماية (رئيس) وليس (ميت)! - قبل إعلان وفاة (كينيدي) رسميا؛ شاع خبر عن قتل نائب الرئيس أيضا.. ولحظتها شوهد عدد من رجال البوليس السري المكلفين بحماية (الرئيس) يتوجهون إلى مجلس النواب في واشنطن ليتولوا حماية رئيس البرلمان (جون ماكورماك) الذي يصير دستوريا – في حالة وفاة الرئيس ونائبه– رئيسا للولايات المتحدة! - وبانتظار وصول نعش الرئيس المقتول إلى الطائرة الرئاسية الرابضة في المطار؛ كان (جونسون) الذي وصل قبل يسأل مساعديه عن إمكانية أن يقوم بأداء اليمين الدستورية فورا. ومع أن الآراء اختلفت إلا أنه كان ميالا بقوة لأداء اليمين فورا متشجعا بمساعديه المؤيدين الذين قالوا (إن البلاد لا تستطيع أن تظل بلا رئيس بينما النائب يحلق بالطائرة فوق البلاد كلها). وتم استدعاء قاضية فيدرالية، وإملاء نص اليمين الدستورية من واشنطن عبر الهاتف، وانتظر الجميع حتى وصول موكب الرئيس المقتول ومعه زوجته التي وافقت على حضور مراسم أداء اليمين الدستورية التي تمت داخل الطائرة أمام آلات التصوير! ومع ذلك فإن الكتاب يذكر أن البعض كان يرى أن (جونسون) تولى السلطة.. ببطء! - في اليوم الثاني للاغتيال؛ خصص الجناح الغربي من البيت الأبيض ليشغله الرئيس الجديد وفريق مساعديه، وبدأت عملية نقل متعلقات الرئيس السابق من المكاتب ليتمكن الرئيس الجديد من مزاولة عمله، وانسحب فريق كينيدي إلى الجناح الشرقي حيث غرف المعيشة وحيث وضعت الجنازة بانتظار مراسم التشييع.. ومن حول الجثمان تجمع عدد من أبرز وزراء كينيدي وزوجته الشهيرة (جاكلين) التي كانت تروي لهم تفاصيل ما حدث.. ولأن زوجها كان قد باع منزله الذي كانت أسرته تعيش فيه؛ وهي ستغادر البيت الأبيض مع طفليها خلال أيام فقد تساءلت أرملة رئيس الدولة الأعظم والأغنى في العالم أمام أصدقاء زوجها: (أين سأقيم؟) هل عرفتم الآن الفرق بين: جماعة (أمريكا.. أولا) وجماعة (اليمن أولا... وفي قلوبنا)؟
* ( كُتب هذا المقال قبل إعلان استقالة وزير المياه والبيئة).