ربما تكون قضية الصحفي عبد الإله حيدر شائع ، واحدة من أكبر جرائم انتهاك حرية الصحافة، وأبشع صور الترهيب الممنهج ضد الصحفيين ، في قضية بدأت من أول وهلة وكأنها رسالة عقابية لتأديب كل من يجرؤ على قول الحقيقة، وتحديداً الاقتراب من ملف تنظيم القاعدة وسياسة أميركا في مكافحة الإرهاب في اليمن. في الثالث عشر من فبراير 2011، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما ، يتحدث لعدد من قادة العالم بخطاب ساحر عن "ضرورة الديمقراطية التي ستساعد في إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط" ،أثناء حالة الغموض التي كانت تكتنف مستقبل مصر بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك. وبالضرورة أشاد أوباما بالتغيير الذي أحدثته ثورة الشباب في مصر وأعاد التأكيد على إعجابه بما حققه الشعب المصري بالسبل السلمية. بيد أن أوباما ، وقبل إلقائه لذلك الخطاب المثالي عن دعم أميركا للديمقراطية وحرية التعبير، كان يتحدث عبر سماعة الهاتف باستياء تام عن العفو الرئاسي الذي تم الإعلان عنه للإفراج عن أحد الصحفيين اليمنيين.وعلى طرف الاتصال، كان الرئيس علي عبد الله صالح ينصت بحذر لذلك الانزعاج، جراء توجيهات الأخير بالإفراج عن الصحفي المعتقل عبد الإله حيدر شائع. قال أوباما لصالح انه يرفض قرار الإفراج عن الصحفي حيدر، بحجة: " إنه صحافي مقرب من الإمام المتشدد أنور العولقي،المشتبه به في التحريض على شن اعتداءات في الولاياتالمتحدة". وبدا أوباما يومها متناقضاً للغاية وهو يمارس خنقاً فاضحاً على حرية الصحافة والتعبير،وهذه كارثة. الرئيس أوباما ( الذي لم يتورط أسمه في قائمة منتهكي حرية الصحافة في العالم) ظهر صادماً ومخيباً للآمال تجاه حرية صحفي. وبدا موقفه تدخلاً سافراً يمس الصلاحيات الدستورية للرئيس صالح المعروف ببطشه الشديد بحرية الصحافة، لدرجة أن منظمة مراسلون بلا حدود أدرجت أسمه في قائمة أكثر صيادي حرية الصحافة في 2010 ،وبدت حرية حيدر عرضة للمساومة والابتزاز على نحو مكشوف. و مساء ذلك اليوم ، كان سفير الولاياتالمتحدة الأميركية في صنعاء جيرالد فايرستاين ،يبرر في مؤتمر صحفي اتصال أوباما بصالح ، محاولاً شرح سبب رفض أوباما قرار الإفراج عن حيدر، أو سبب إيقاف أوباما لقرار الإفراج. قال فايرستاين ، في تبرير كان ينم عن نفسية متهم:" دعوني أكن واضحاً..ما قيل مؤخراً بأن الولاياتالمتحدة ضد الإفراج عن شائع نتيجة لبعض الأنشطة التي قام بها..أنني أؤكد لكم بان القضية ضد السيد شائع لم يكن لها أي علاقة بالإعلام أو بحرية الرأي". وأضاف فايرستاين بالقول: "تمت محاكمة السيد شائع نتيجة دعمه لمنظمات إرهابية، ومعلوماتنا الخاصة تؤكد بأنه كان يعين هذه المنظمات الإرهابية في اليمن، وبالتالي نحن نعتبره شخصاً خطراً، ونحن نعتقد بان الحكومة كانت على حق في محاكمته، ونؤمن بأنه لا بد له من البقاء في السجن". كانت تصريحات فايرستاين أمام الصحفيين مرتبكة تماماً وغير دقيقة،فالجميع يعلم أن الزميل حيدر (34 سنة) والموظف في وكالة الأنباء الحكومية (سبأ)،كان من أبرز الصحفيين المختصين في شؤون تنظيم القاعدة ومكافحة الإرهاب في شبه الجزيرة العربية. وأن استخدام حجة مكافحة الإرهاب من أجل إدانته جاءت نتيجة تحليلاته كونها كانت تميل إلى التشكيك في سياسة أوباما وصالح الأمنية. وما بدا أكثر إنكاراً،كان وصف فايرستاين لما سماه "ادعاءات" بعض المنظمات اليمنية التي قالت إنها أرسلت للسفارة الأميركية بلاغات وبيانات، تستفسر فيها عن هذا الأمر، قال السفير بنوع من التضليل: "أؤكد لكم بأننا لم نستلم أي نوع من المراسلات من أي منظمة داخل اليمن متعلقة بالسيد شائع". والحقيقة أن عدداً من المنظمات المحلية والدولية أكدت أنها تقدمت باستفسارات رسمية إلى حكومة أوباما ، من داخل اليمن وخارجه. ولعل منظمة العفو الدولية ،كانت أول المتصدين لادعاءات الرواية الأميركية التي حاول السفير تسويقها ، وكشفت المنظمة في بلاغ ً عالمي ،عن تلك الحقيقة التي لا يحب فايرستاين ذكرها. يقول فيليب لوثر، وهو نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية: "إن ثمة مؤشرات قوية على أن التهم الموجهة إلى الصحفي عبد الإله حيدر شايع ملفقة وأنه سُجن لأنه تجرأ بالحديث عن تعاون الولاياتالمتحدة في الهجوم بالذخيرة العنقودية في " أبين " جنوب اليمن، ليس إلا." وأضاف لوثر بالقول: " إن منظمة العفو الدولية تعتبر حيدر سجين رأي وتدعو إلى إطلاق سراحه فوراً وبلا قيد أو شرط". نقابة الصحفيين اليمنيين أكدت ذلك أيضاً ، حين أصدرت بياناً صحافياً قبل المؤتمر الصحفي لفايرستاين بيومين ، وعبرت فيه بوضوح عن أسفها الشديد لوقوف الإدارة الأميركية في مواجهة صحفي عانى بسبب ممارسته لمهنته، وأعلنت تمسكها بعدالة قضية حيدر. وما كشفت عنه منظمة الحقوق والحريات "هود"، فضح ادعاءات السفير الأميركي حين أكدت في بيان أصدرته يومها، تقول فيه أنها طلبت من الولاياتالمتحدةالأمريكية ممثلة بسفارتها في صنعاء، تفسير الموقف الأميركي تجاه الصحفي حيدر. ما تبع ذلك بأيام ، كان سيلاً من الانتقادات القوية من عشرات المنظمات الدولية،لواشنطن ورئيسها بسبب موقفها من قضية الصحفي حيدر. حتى اليوم .. مرت سنة كاملة على اعتقال حيدر، بسبب أنه كان أول صحفي يكشف بالدليل المادي تورط حكومة الولاياتالمتحدة في قتل مدنيين يمنيين أكثر من مرة بعمليات خارج نطاق القانون الأميركي، كان آخرها الهجوم على منطقة " المعجلة " التابعة لمحافظة أبينجنوب اليمن، والذي راح ضحيته أكثر من 55 مدنياً ،قتلوا بصواريخ" كروز" أميركية الصنع في 17 ديسمبر 2009، أُطلقت بناءاً على أوامر رئاسية على موقعين مزعومين لتنظيم القاعدة. أسفر ذلك الهجوم الذي يعد قتلاً خارج نطاق القانون، عن مقتل 21 طفلاً،وما لا يقل عن 20 رجلا وامرأة ، و14 شخصاً من المتهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة. ولكي تنجح إدارة أوباما في إخفاء تورطها في جريمة قتل المدنيين ،والاستمرار بعمليات القتل، فعلى الصحفي حيدر البقاء في السجن لسنوات طوال .. وهذه جريمة تبدو أكثر بشاعة. بالنسبة للزميل حيدر الذي تم اختطافه وإخفاءه قسرا ، ثم أعلن عن اعتقاله من قبل وحدتين أمنيتين تتبعان جهاز الأمن القومي اليمني ، فإنه قد حوكم في المحكمة الجزائية المتخصصة في صنعاء، وصدر بحقه حكماً قضى بسجنه لمدة خمس سنوات وعامين أضافيين قيد الإقامة الجبرية، واتهامه بأنه المستشار الإعلامي للإمام أنور العولقي. وقد صدر هذا الحكم غداة إدانة العولقي في المحكمة نفسها بالسجن لمدة عشر سنوات. الإدعاء العام حينها ، لم يبرز أي دليل دامغ يؤكد على أن حيدر عمل مع تنظيم القاعدة أو قدم له الدعم، وكانت النتيجة أن ثبت إنه كان يقوم بعمله الصحفي المشروع. وقد رفض حيدر الحكم مستنكراً واقع خضوع القضاء لسطوة أجهزة الاستخبارات، مع رفضه المثول أمام المحكمة والطعن بشرعيتها، ولأنه طالب بإحالة الخاطفين المسئولين عن اختفائه القسري من 11 يوليو حتى 16 أغسطس 2010إلى القضاء،تم إبقاؤه في حبس انفرادي في زنزانة تقع تحت الأرض لدى جهاز الأمن السياسي (المخابرات). المعلومات المستقاة تقول أن ما أزعج أميركا،هو قيام حيدر بمباشرة عمله المهني بشجاعة تامة ، من خلال عمله على كتابة تحقيقات صحفية تدين إدارة أوباما بالوقوف وراء مجزرة أبين،دون علم أو موافقة من الكونجرس الأميركي، إلى جانب تصريحاته في عدة مقابلات بثتها قناة الجزيرة الإخبارية وصحف ومواقع إخبارية عالمية ،بعد مرور وقت قصير على ذلك الهجوم ،و تورط أوباما بإعطاء الأوامر لتنفيذه. وفي يونيو 2010، نشرت منظمة العفو الدولية صوراً لتلك الصواريخ التُقطها حيدر عقب هجوم المعجلة. الأمر الذي قاد منظمة العفو التقدم باستفسار للسلطات الأميركية تسألها عن دورها في هذا الهجوم الذي تظهر فيه صوراً فوتوغرافية تؤكد بأن صاروخ "كروز" من صنع أميركي كان محملاً بقنابل عنقودية محرمة دولياً ، قد استخدم في ذلك الهجوم. وطبقاً لتلك المعلومات صمم هذا النوع من الصواريخ بحيث يكون قادراً على حمل 166 من القنابل العنقودية التي تنفجر كل منها إلى أكثر من 200 شظية فولاذية حادة. ويضيف لوثر بالقول : " لكن المنظمة لم تتلق من الولاياتالمتحدة الأميركية أي رد بعد. وجاءت برقية دبلوماسية بثها موقع (ويكيليكس) في نوفمبر 2010، أكدت صحة تلك الصور التي كانت نشرتها العفو الدولية ، وتناولت فيها دور الصحفي حيدر في إثبات أن القوات الأميركية هي التي نفذت تلك المجزرة. إلى ذلك كله.. كان حيدر ينوي القيام بما هو أهم حول حقيقة ملف مكافحة الإرهاب ، وراح يضع جل استنتاجاته في انجاز مشروع فيلم وثائقي مكثف يعرض ما هو مسكوت عنه في الحرب ضد القاعدة في اليمن، ليتم بثه على شاشة قناة الجزيرة،يكشف فيه خفايا استخدام النظام لتنظيم القاعدة كوسيلة ابتزاز،وتباين الموقف الأميركي حيال ذلك. أكثر ما يثير الجدل حيال قلق الإدارة الأميركية من الحقيقة التي أمسك بطرفها الزميل حيدر، هو أنها لم تتصرف كدولة مسئولة وفق قوانينها حيال الأمر حتى الآن،ولم تباشر التحقيق في ضلوع أي طرف أميركي أو يمني في أعمال القتل غير المشروع في الحادثة، وإعلان نتائج التحقيق، وتقديم المسئولين عن ذلك إلى القضاء. كما أنها لم تقم بالتحقق من الالتزام الصارم بمعايير حقوق الإنسان عند قيامها بالتعاون مع الحكومة اليمنية في العمليات الأمنية، بما في ذلك المعايير التي تحكم استخدام الأسلحة في تنفيذ القانون؛ والحرص على إدراج تلك المعايير في برامج التدريب الأميركية المخصصة للقوات اليمنية.وهذا يثير من الجدل الكثير. بالنسبة للصحفيين اليمنيين، فلطالما شعروا أمام قضية حيدر بحالة خذلان كبيرة، كما إن نقابة الصحفيين لم تقم هي الأخرى بالدور المطلوب في الدفاع عنه، ربما لأن النظام القمعي هنا، خلق حالة من الرُهاب لديها ولدى الكيان الصحفي برمته، لذلك بدا عاجزاً ومتقاعساً في الدفاع عن زميل مهنة عوقب بسبب قول آرائه وتحليلاته الصحفية. يتعين على نقابة الصحفيين اليوم وضع قضية حيدر كأولوية طارئة، تحشد لأجلها الدعم والإسناد الكافي ، وأن تتهيأ بكافة قنواتها ومنتسبيها لممارسة ضغط هائل وبكافة الطرق ، وأن تصعد الاحتجاجات وتطرق كل الأبواب في الخارج والداخل حتى إطلاق سراحه، كي لا تصبح حرية الرأي والتعبير عرضة للضغوط الخارجية أكثر من ما هي عليه الآن في الداخل. سيخبرك فريق من بعثة الصليب الأحمر الدولي الذي زار حيدر مؤخرا في سجنه، أن حالته الصحية سيئة، وهو بحاجة للعلاج في المستشفى وتحت إشراف طبي. فهو لم يعرض على الأطباء بعد، و يعاني من التهابات حادة في الصدر، وآلام في مفاصل الركبة، فإدارة السجن اشترطت نقله إلى المستشفى وهو مكبل بالقيود، وهو الأمر الذي رفضه حيدر بتاتاً ، مهما كلفه الثمن المخاطرة بمصيره. وهو المصير الذي أصبح الآن مصير حرية الصحافة والصحفيين في اليمن ،على حد سواء.