هاني الصيادي ... الغائب الحاضر بين الواقع والظنون    ترامب يعلن تنفيذ عدوان أمريكي على 3 مواقع نووية في إيران    التلفزيون الايراني يعلن عن هجوم امريكي على منشآت نووية واسرائيل تتحدث عن تنسيق وضربة قوية    روايات الاعلام الايراني والغربي للقصف الأمريكي للمنشآت النووية الايرانية وما جرى قبل الهجوم    ترامب يعلق مجددا على استهداف إيران    الدفاعات الإيرانية تدمر 12 طائرة مسيرة صهيونية في همدان    بتواطؤ حوثي.. مسلحون يحرقون منزلاً في محافظة إب بعد نهبه    الحرس الثوري يطلق الموجة 19 من الطائرات الانتحارية نحو الكيان    استعدادات مكثفة لعام دراسي جديد في ظل قساوة الظروف    الرزامي يهاجم حكومة الرهوي: الركود يضرب الاسواق ومعاناة الناس تتفاقم وانتم جزء من العدوان    ما وراء حرائق الجبال!!    تدشين الدورة الآسيوية لمدربي كرة القدم المستوى "C" بالمكلا    محافظ تعز يبحث مع مسؤول أممي أزمة المياه والحلول الممكنة    حملة لازالة البساطين والعشوائيات في باب اليمن    برعاية طارق صالح.. الإعلان عن المخيم المجاني الثاني لجراحة حول العين في المخاء    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 55,908 شهيدا و 131,138 مصابا    نجم مانشستر سيتي في طريقه للدوري التركي    الرهوي يشيد بجهود وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية    الطوارئ الإيرانية: إصابة 14 من طواقم الإسعاف وتضرر 7 سيارات جراء العدوان الصهيوني    إحباط عملية تفجير غربي إيران واعتقال عنصر مرتبط بالموساد    ليفاندوفسكي يحدد وجهته بعد حقبة برشلونة    وزيرالكهرباء ومحافظ المحويت يناقشان أوضاع مشاريع المياه والصرف الصحي    تشيلسي يقترب من إبرام صفقة مؤجلة    الشغدري يتفقّد مشاريع خدمية في دمت بالضالع    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 21 يونيو/حزيران 2025    الترجي التونسي يهدي العرب أول انتصار في كأس العالم للأندية 2025    فساد الاشراف الهندسي وغياب الرقابة الرسمية .. حفر صنعاء تبتلع السيارات    الاتحاد الأوروبي يقدّم منحة مالية لدعم خدمات الصحة الإنجابية في اليمن    على مركب الأبقار… حين يصبح البحر أرحم من اليابسة    من يومياتي في أمريكا .. بين مر وأمر منه    بين حروف الرازحي.. رحلة الى عمق النفس اليمني    قصر شبام.. أهم مباني ومقر الحكم    البحسني يكشف عن مشروع صندوق حضرموت الإنمائي    مقتل عريس في صنعاء بعد أيام من اختطافه    مليشيا درع الوطن تنهب المسافرين بالوديعة    علي ناصر يؤكد دوام تآمره على الجنوب    توقعات أوروبية باستمرار الجفاف باليمن حتى منتصف يوليو    هجوم إيراني فجر السبت والنيران تتصاعد في موقع وسط تل أبيب    نكبة الجنوب بدأت من "جهل السياسيين" ومطامع "علي ناصر" برئاسة اليمن الكبير    بقيادة كين وأوليسيه.. البايرن يحلق إلى ثمن النهائي    الأحوال الجوية تعطل 4 مواجهات مونديالية    حشوام يستقبل الأولمبي اليمني في معسر مأرب    صنعاء .. موظفو اليمنية يكشفون عن فساد في الشركة ويطالبون بتشكيل لجنة تحقيق ومحاسبة جحاف    «أبو الحب» يعيد بسمة إلى الغناء    بين ملحمة "الرجل الحوت" وشذرات "من أول رائحة"    علي ناصر محمد أمدّ الله في عمره ليفضح نفسه بلسانه    الأمم المتحدة تقلّص خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن وسط تراجع كبير في التمويل    ديدان "سامّة" تغزو ولاية أمريكية وتثير ذعر السكان    نجاح أول عملية زرع قلب دون الحاجة إلى شق الصدر أو كسر عظم القص    حين يُسلب المسلم العربي حقه باسم القدر    فعاليتان للإصلاحية المركزية ومركز الحجز الاحتياطي بإب بيوم الولاية    جماعة الإخوان الوجه الحقيقي للفوضى والتطرف.. مقاولو خراب وتشييد مقابر    كيف تواجه الأمة الإسلامية واقعها اليوم (2)    الخطوط الجوية اليمنية... شريان وطن لا يحتمل الخلاف    الصبر مختبر العظمة    شرب الشاي بعد الطعام يهدد صحتك!    الصحة العالمية: اليمن الثانية إقليميا والخامسة عالميا في الإصابة بالكوليرا    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن يقدم نفسه قرباناً لإنقاذ اليمن
نشر في المصدر يوم 24 - 10 - 2009

كم مرة سمعتم هذه العبارة المفعمة بالتطير واليأس: مستقبل اليمن ينذر بالسوء. أو تلك العناوين المشابهة التي يتم صياغتها على نفس المنوال، من شاكلة: الانهيار المحتوم، فشل الدولة، التفكك الذي يتربص باليمن، شبح المجاعة والجفاف. وبالتأكيد تتذكرون الشعور الذي يغمركم حينما يصبح مستقبل بلدكم مرادفاً لمصطلحات شائعة مشؤومة وذات مدلول بربري وخيم، مثل: الأفغنة، العرقنة، الصوملة.

من بين كل التوقعات المعنية بمستقبل اليمن، تبدو السيناريوهات، التي لا تنفك تتصورها تقارير المنظمات الدولية ووسائل الإعلام الخارجية، هي الأكثر تشاؤماً وقتامة وقسوة. لا بد أن نظرتها للأمور، بحكم المسافة التي تفصلها عن المشهد، تبدو أكثر إحاطة وشمولية، لكن أقل منها دقة في ما يتصل ببعض المعطيات إياها والمصادر التي تستند إليها. على أنه من الصعوبة بمكان إدراك ما إذا لم تكن مستويات التحيز والتوظيف السياسي عالية أم ضئيلة.

بالنسبة لمعظم اليمنيين، كما بالنسبة لأي شعب آخر، كثيراً ما يروق لهم تفحص صورتهم الذاتية من منظار الآخر، أولئك النفر من الناس، الذين يمتلكون ميزة الإطلال على مجرى الأحداث من خارج المسرح، ما يكسب رؤيتهم سمات الاتساع والتجرد، وربما الصدق والتوازن. نواقيس خطر! عندما أسمع هذه الكلمة تخطر في بالي تقارير كارنيجي والبنك الدولي ومؤسسة انشتاين ومجموعة الأزمات الدولية... وهلم جرا. إننا نخلد إلى النوم على وقع هذه النواقيس الجنائزية.

خذوا، على سبيل المثال، العدد 102 من سلسلة تقارير أوراق المؤسسة العالمية المرموقة "كارنيجي للسلام الدولي" الصادر الشهر الفائت. يحمل غلاف التقرير، الذي أعده كريستوفر بوتشيك، وهو باحث يعمل ضمن برنامج كارنيجي للشرق الأوسط، هذا السؤال الكبير والمؤرق: "اليمن: كيف يمكن تجنب الانهيار المطرد؟". إن لم يكن هذا العنوان ناقوس خطر فما هو إذن هذا الناقوس؟

في طي هذا التقرير نستطيع أن نتعرف على الطريقة التي بات ينظر بها العالم إلى اليمن. أظن هكذا، بكلمة: بلد يتداعى، ينهار كجدار قديم. ألديكم أدنى رغبة بالغوص في تفاصيل تقرير مؤسسة كارنيجي؟ إذا كنتم قد سئمتم من فرط الإصغاء لنواقيس الخطر، وأنا أعرف أنكم سئمتم فعلاً، فإنني وعدت نفسي بعدم الإسهاب في الشرح والتعليق، تاركاً لكريستوفر بوتشيك إدارة دفة الحديث.

كتب بوتشيك الآتي: "يواجه اليمن عدداً كبيراً ومتزايداً من التحديات التي تهدد مستقبله السياسي، وتهدد جيرانه في شبه الجزيرة العربية. فالحرب، والإرهاب، والحركة الانفصالية التي تتجذر، والاتجاهات الديموغرافية والاقتصادية المترابطة، قادرة على إغراق الحكومة اليمنية في لججها، ما يهدد الاستقرار الداخلي والأمن في جميع أنحاء المنطقة. وفي الوقت نفسه تتسارع وتائر نضوب نفط اليمن-مصدر أكثر من 75 في المئة من الدخل- وليست لدى البلاد وسيلة واضحة للانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط".
ويواصل: "لا يزال اليمن أفقر بلد في العالم العربي. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكانه في العقدين المقبلين إلى ما يزيد عن 40 مليون نسمة. هذا التوسع السريع في عدد السكان الذين يزدادون فقراً، سيفرض ضغوطاً لا تحتمل على الحكومة. وفي حين أن أياً من هذه التحديات لم يتحول بعد إلى تحد خطير، إلا أنها ستتقاطع كلها عشية الانتخابات الرئاسية في العام 2013، في الوقت الذي يكون فيه اليمن بحاجة إلى معالجة مرحلة انتقالية وشيكة في الزعامات السياسية".
انظروا كيف إن المخاطر، التي تعصف باليمن، تتخطى مسألة تغيير نظام الرئيس صالح، أو إخماد التمرد في الشمال. إنها من هذا النوع الثقيل جدا والفتاك: "ويمكن أن يؤدي نشوب أزمة إنسانية كبرى، ربما بسبب المجاعة الشديدة أو فشل المحاصيل، إلى حالة لاجئين طارئة كبيرة، لن تكون الحكومة قادرة فيها على تقديم خدمات الإغاثة الأولية". يعترف بوتشيك أن اليمن كان ينجو دوماً من الأزمات في الماضي، "لكن هذه التحديات المتشابكة والمعقدة لم يسبق لها مثيل في درجتها ونوعها. وفي حين لا تملك البلاد سوى القليل من الحلول الواقعية لمشاكلها اليوم، إلا أن خياراتها ستكون أقل وأسوأ في المستقبل".
الانشطار ليس أسوأ من المجاعة والجفاف، إلا أنه أقرب السيناريوهات إلى التحقق. فإذا "استمرت سلطة وشرعية الحكومة المركزية في التدهور، فقد يتحول اليمن ببطء إلى مناطق ومدن تتمتع باستقلال ذاتي. هذا المسار حدث في بلدان أخرى، مثل الصومال وأفغانستان، وكانت له عواقب وخيمة". لم يقل فك الارتباط على طريقة تشيكوسلوفاكيا مثلاً، أو يوغسلافيا أو الاتحاد السوفياتي، بل -لسوء الحظ- على طريقة الصومال وأفغانستان، ولكم أن تضيفوا العراق عشية انسحاب الجيش الأمريكي. يالخيبة أمل علي سالم البيض.

ويعتقد التقرير أن مستقبل اليمن يكمن عند تقاطع ثلاث تحديات مترابطة: اقتصادية وديموغرافية والأمن الداخلي. يتمحور التحدي الاقتصادي، طبقاً لدويتشك، في استنفاد الموارد الطبيعية الحيوية، والآثار المترتبة على التباطؤ الاقتصادي العالمي، والفساد والبطالة. ما يلفت الانتباه هو أن الباحث الأمريكي يجزم، بشكل قاطع، بأن اليمن هو أفقر بلد في العالم العربي، وهو يزداد فقراً بسبب السياسات الحكومية التي يزيدها تعقيداً ارتفاع الأسعار وعدم القدرة على استيعاب عدد متزايد من السكان في سوق العمل المحلية. ويندرج تحت التحدي الاقتصادي الآتي: نضوب النفط، والانخفاض الهائل في أسعاره عالمياً، وكيف أن صادرات اليمن من النفط انخفضت في السنوات الأخيرة من 450 ألف برميل يومياً وقت الذروة في العام 2003، إلى حوالي 280 ألف برميل يومياً في يناير 2009، وفقاً لما يقوله أمير العيدروس، وزير النفط والمعادن. ويشير التقرير إلى أنه ما لم يتم العثور على اكتشافات جديدة، فإن خبراء الطاقة يقدرون أن تتوقف صادرات اليمن من النفط في غضون 10 سنوات، مستشهداً بتأكيدات البنك الدولي الذي قال أنه بحلول2017، لن تكسب اليمن أي دخل من النفط.

في غمرة الانشغال السياسي بالأشياء المسلم بها، متى كانت آخر مرة اعتراكم شعور بالخوف من أننا شعب على موعد مع الجفاف كقشة صيف. هذا ما يلامسه العنوان الثاني، فيما يتصل بالتحدي الاقتصادي، وهو: نضوب المياه. ففيما يعتبر التقرير تضاؤل احتياطات النفط بمثابة تحدٍ رئيسي لليمن، فإنه يرى أن النضوب السريع لإمدادات المياه، في نهاية المطاف، هو أكثر مدعاة للقلق. إليكم هذه الفقرة: "فالنقص في إمدادات المياه حاد في جميع أنحاء البلاد. وقد تصبح صنعاء، التي ينمو سكانها بمعدل 7 في المئة سنوياً نتيجة لزيادة التحضر، أول عاصمة في العالم تنفد فيها المياه". ويوضح أن أزمة المياه ناجمة عن عدة عوامل بما فيها ارتفاع الاستهلاك المحلي، وسوء إدارة المياه، والإسراف في تقنيات الري. ويتذكر كيف أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة حذرت في تقرير صدر العام 2009 من أن اليمن تعد من بين أكثر دول العالم التي تعاني من ندرة المياه، ولديه واحد من أدنى معدلات نصيب الفرد من المياه العذبة.

ويتطرق إلى تأثير القات كتحد اقتصادي يسهم في استنزاف المياه. وفي تقييمه للآثار السلبية للقات، أشار التقرير إلى أن البحوث أظهرت بعض الجوانب المفيدة لزراعته من خلال توفير الخدمات المحلية وخلق فرص عمل لأبناء المناطق الريفية. لكنه عاد ليقول: "ومع ذلك، فقد تم تحديد عادة مضغ القات على أنها من أهم الأسباب الرئيسية للفقر في البلاد، حيث تقلص الإنتاجية، وتستنزف الموارد النادرة، وتستهلك حصة متزايدة من ميزانيات الأسر".

فيما يتعلق بالفساد، قال التقرير إنه يمثل مشكلة خطيرة ومستمرة. واستشهد بتلك الإشارة التي تضمنها تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الصادر عام 2006، بأن الفساد في اليمن هو نتيجة ضعف المؤسسات الحكومية، محددة 4 مصادر رئيسة للفساد، هي: عملية وضع الميزانية الوطنية، ونظام المشتريات، والنظام العسكري-التجاري، وجهاز حزب المؤتمر الشعبي العام.

وهذا عنوان عريض آخر: التحديات الديموغرافية. فبحسب التقرير، فإن أهم مروحة من المخاطر التي تواجه اليمن تكمن في الديموغرافيا. "فعلى الرغم من أن معدل النمو السكاني انخفض قليلاً في السنوات الأخيرة، إلا أنه من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث يزيد قليلاً عن 3.4 في المئة سنوياً"، يقول التقرير. وراح يشرح ماهية المعضلة الديمغرافية، في ظل فقر حاد، حيث لا يتعدى مستوى دخل الفرد السنوي 900 دولار، ونحو نصف عدد السكان يكسبون أقل من دولارين يومياً، متحدثاً عن عدم كفاية جهاز التعليم، ومعدلات الأمية العالية، وتفاقم مشكلة البطالة بتزايد أعداد من يدخلون سوق العمل سنوياً إلى 25 ألف شخص.

التحدي الثالث، كما يعتقد التقرير، هو الأمن الداخلي. تتمثل محاور هذا التحدي في الآتي: التطرف الإسلامي، وحرب صعدة، والحركة الانفصالية في الجنوب، والقرصنة. ومن بين هذه المحاور يبدو أن حرب صعدة والحركة الانفصالية هما القضيتان اللتان تحتكران جل النقاش العام في اليمن، مع إغفال بقية التحديات، رغم جوهريتها. وإذ أخذ يسترسل في عرض الجذور التاريخية لتنظيم القاعدة، وتنامي قوته في اليمن، فلأنه أكثر الهموم استحواذاً على صانع السياسة في البيت الأبيض. مع أنه أعطى تفسيرات مقتضبة وتفتقر إلى العمق لحرب صعدة وما أسماها "الحركة الانفصالية في الجنوب". وهاتان المعضلتان تشكلان على حد سواء تهديداً وجودياً لجمهورية اليمن، لكن الأخيرة ستكون مع قدر أكبر وأوسع نطاقاً من الدعم الشعبي، حسبما يظن التقرير.
التقرير يتناول ملف القرصنة وأمن الحدود بإيجاز. فهو يفترض أن عجز اليمن عن تأمين حدوده جعل منه نقطة عبور رئيسية للأسلحة والمخدرات وعمليات التهريب الأخرى، من شرق أفريقيا عبر المملكة العربية السعودية إلى دول الخليج العربي.

لقد كان فحوى النتيجة، التي توصل إليها بوتشيك، هي أن التحديات الاقتصادية، والديموغرافية، تعمل على تعقيد وتفاقم التهديد الأمني. ثم إنه راح يبين أهمية التصدي الفعال لتقاطع هذه المشكلات، بشراكة الدول المانحة مع الحكومة اليمنية. وشدد على ضرورة الشروع بالبحث عن طرائق جديدة للتحضير لاقتصاد ما بعد النفط. المفارقة أن التقرير، في معرض مناقشته لخطط اللامركزية التي تسعى إليها اليمن، يحذر من أن الحد رسمياً من دور الحكومة المركزية سيكون ذا أثر عكسي في أفضل الأحوال. إنه يرسم صورة مرعبة لمعنى أن تنهار الدولة، معطياً إشارات حمراء للولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج على وجه التحديد.

قبل حوالي شهرين، عاد وفد الكونجرس من اليمن مفعماً بالقلق. وكتبت وسائل الإعلام أن الوفد رفع توصية لإدارة أوباما بسرعة التحرك حتى لا تضطر للتدخل عسكرياً في اليمن. وأصبح من الدارج في صحف الخليج تشبيه اليمن بأفغانستان، بغية تذكير السعودية بالوبال الكبير الذي جلبه انهيار أفغانستان على جارتها النووية باكستان. لهذا كان كريستوفر بوتشك ملحاحاً في حث الولايات المتحدة الأمريكية إلى التعجيل باتخاذ خطوات من شأنها التخفيف من آثار المشاكل، كونها "تمتلك مصلحة في مساعدة اليمن نظراً إلى أهمية البلاد الاستراتيجية بالنسبة إلى مصالح الأمن القومي الأمريكي وأهداف السياسة الخارجية". و"لأن تكلفة عدم التحرك ستكون كبيرة للغاية". واقترح بأن تضغط أمريكا باتجاه دمج اليمن في نادي مجلس التعاون الخليجي أو تأهيله على الأقل في هذا المضمار. رغم أنه اعتبر أن تحديات ومشاكل اليمن تجعله أقرب للقرن الإفريقي منه إلى الخليج العربي.

هل لمحتم بارقة أمل؟ كلا. لا شيء يحمل على الظن بأننا سننجوا. لكن، أيعني هذا أن نظل مذعنين كمحكومين بالإعدام؟ لا. لا بد من وجود طريقة أفضل لمجابهة الأقدار القاسية. صحيح، من سوء الطالع، أن هذه أشياء تلوح وكأنها حتمية. لكن يجب حيالها عدم الاكتفاء بالقلق، أو التلاوم، وهز الكتفين. ناهيك عن خطورة التمادي في استنزاف الوقت الثمين، إنما الآخذ في التناقص، في طرح هذا السؤال الحاسم لكن القديم والمبتذل: من الذي زج بالبلد في هذا الشرك التاريخي اللعين؟ أجل، يا له من سؤال منطقي وعظيم، عدا أنه في الوقت الخطأ. ثم إن بساطة الرد عليه تماثل بساطة أن تسأل تلميذاً غبياً عن أكثر ما يثير قرفه في الحياة، سيقول: المعلم، بلا شك.

إن السؤالين الأكثر تعقيداً، والأكثر جدارة بالطرح الآن، واللذين يستدعيان اجتراح حلول مبتكرة، ومقاربات ذكية، ثاقبة، هما: كيف أصبحنا على ما نحن عليه اليوم؟ وما هي الطريقة الملائمة لوقف التدهور، وانتشال أنفسنا من قاع الهلاك؟ ليس هناك ما هو أسهل من إلقاء اللائمة على الرئيس. لقد استنفدنا طاقتنا في إثبات كم أن السلطة فاسدة وشريرة ولا تطاق. أجل فعلنا ذلك بكل السبل الممكنة. أليس لدينا فكرة عن الشيء الكبير التالي.

هل تذوقتم مرارة أن تصبحوا أناساً مشردين مثيرين للرثاء والعطف، وغالباً التأفف والازدراء والشماتة؟ ألم تجربوا الطعم المهين حينما توصد الأبواب في وجوهكم عنوة مع بضع ركلات وسيل من كلمات الاحتقار؟ عندما لا يكف الرئيس صالح عن استحضار أشباح الصوملة ومرادفاتها، فإن علينا أن نأخذ كلامه على محمل الجد دائما. هذا الرجل سيفعل المستحيل ليحتفظ لنفسه بقمة السلطة. إنه يشغل منصباً شديد الإغواء، له مذاق وبريق لا يقاوم. على أن الرئيس، أكثر من أي شخص آخر، يدرك حقيقة أن أغلب الكوابيس التي تقض مضاجع اليمنيين هي وجودية، مزلزلة، جذرية إلى درجة أنها لن تكتف بالتهام نظام حكمه وانتهى الأمر، بل يرجح أنها ستبتلع كل شيء. هذا ليس مجازاً. نعم.. كل شيء. إنني أعني ما أقول: "كل شيء".

ماذا يفترض بنا أن نفعل؟ سيغمغم بعضكم. والحال أنه يوجد دائما ما يتعين فعله. إن مجرد طرح هذا السؤال مؤشر جيد. غير أن علينا تجنب الميل للتبسيط. يجب التفكير بأن المسألة أكثر تعقيداً مما يحلو لنا أن نتوهم. لا توجد وصفة واحدة، بل عدة وصفات، الكثير منها في الواقع. لن تُحدث إزاحة الرئيس من الحكم فارقاً كبيراً، حتى إني لأجرؤ على القول بأنها لن تحدث فارقاً البتة. إلا في حالة واحدة: أن يزيح نفسه بمحض إرادته، بعد أن يجري ترتيبات حاسمة تجنب البلد تداعيات غياب رجل لطالما ربط كل شيء بنفسه، الجيش والعاطفة الوطنية ومشاعر الانتماء، والوحدة، والنفط. ورغم كل شيء، "ستكون حكومة ما بعد صالح مثقلة بشكل خطير بسبب تزاوج انخفاض الإيرادات وتحجيم قدرة الدولة". هكذا كتب كريستوفر بوتشيك في تقرير كارنيجي.

نحن في مأزق حرج يا رجال. هذا المأزق الذي وجدنا أنفسنا عالقين بين فكيه، يتساوى فيه ثمن فاتورة بقاء الرئيس مع ثمن إزاحته. والاختيار لن يتم على أساس أيهما أقل سوءاً من الآخر، بقدر ما سيعتمد على الحؤول دون أن تغدو الكلفة هي اليمن بالذات، بمعنى ألا يأتي يوم تقدم فيه اليمن نفسها قرباناً لإنقاذ اليمن من رئيس طال أمده. هل سيبقى يمن أصلاً؟

على كلٍ، إذا كان من شيء يتوجب وضعه في الحسبان فهو: الإقلاع، باستمرار، عن وضع العنف ضمن قائمة خياراتنا. ويتفق لي دائماً أن أضيف ما هو أدهى وأمر: الابتعاد عن النزوع الانشقاقي المستشري بوضوح في المحافظات الجنوبية، والمضمر بخبث داخل أدمغة الحوثيين. والسبب بسيط، ففي حين يظهر العالم هلعه جراء اعتلال صحة اليمن الذي يهدد أمن واستقرار المحيط الإقليمي، كما والممرات البحرية، فبربكم.. أسيفلح علي سالم البيض بأن ينأى بأمته الجنوبية المتخيلة ويقيم جمهوريته الموعودة. بكلمات أخرى؛ إذا كان الانهيار المطرد في اليمن يمس الأمن القومي الأمريكي، على بعد آلاف الأميال، فكيف لهذه الطامة أن تنجب جمهورية للبيض، وسلطنة للفضلي، ومملكة للحوثي، أو حتى ميراثاً للعميد الركن أحمد علي عبدالله صالح!

أحب الاعتقاد بأن لدينا جميعاً ما نخسره. ربما سيخسر الرئيس الحكم، بيد أننا سنخسر إلى الأبد ما هو أفدح: بلدنا، أحلامنا، حياتنا التي تستحق أن تعاش كما يليق إلى آخر رمق.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.