العدوى الإيجابية مع حقيقة أننا كنا على وشك الانفجار كشعب نفد صبره طلعا بأكبر انتفاضة شعبية طوت عامها الأول وماتزال في الهواء الطلق، ترفض العودة إلى المنزل. مساء الرابع عشر من يناير 2011، دلف دكتاتور تونس زين العابدين بن علي إلى بطن طائرته وهو يكابد أقسى هزيمة يمكن أن يمنى بها رئيس مطلق السلطات، كان إلى ما قبل أسبوع يستطيع أن يحصي كم مرة عطس مئات السجناء السياسيين القابعين في سجونه. وسحب بن علي آخر نسمة تونسية إلى صدره ثم فرً أمام انتفاضة شعبية من نمط جديد لم تعرفه المنطقة الموبوءة بأنظمة دكتاتورية من أسوأ الدكتاتوريات التي عرفها العالم. ألا يمكن تشبيه وقع قدمين مرتجفتين لدكتاتور تونس على سلم طائرة تتأهب للفرار به بوقع قرع مجهول المصدر بمطرقة على منبر معدني ليعلن أن محكمة حساب لدكتاتوريات المنطقة العربية قد نُصبت للتو. سرى ذلك القرع الرهيب في جهات شتى من المنطقة كما لو كان من تلك البلاغات الإلهية القديمة التي كانت تصل إلى كل مسمع وفؤاد وفق مشيئة عليا قاطعة. وعلى بعد يتجاوز أربعة آلاف كيلو متر بين تونسوصنعاء، كان بضعة من طلاب جامعة صنعاء ونشطاء سياسيين وحقوقيين بين من التقطوا ذلك النداء السحري: نداء الحساب. ويحبذون هم أن يطلقوا عليه «الثورة» منذ أول بيان. الخامس عشر من يناير: الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي مثخن بجراحه النفسية وسط قصر أميري في مدينة جدة وصباح صنعاء رتيب وثقيل الوطأة..ومشمس كالعادة باستثناء أن بضعة طلاب جامعيين ونشطاء يقطعون المسافة بين جامعة صنعاء ومقر السفارة التونسية رافعين يافطات ورقية صغيرة من تلك التي تنسخ محلات الحاسوب الواحدة منها مقابل عشرة ريالات. «إرحل قبل أن تُرحًل» يكتب أحدهم على يافطته الصغيرة ويردد آخرون البيت الشعري الشهير للشاعر الرومانسي الخالد أبي القاسم الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر» و«يا بوعزيزي يا مغوار. نحن معك على خط النار». ومحمد البوعزيزي هو الشاب التونسي الذي أضرم النار في جسمه احتجاجاً على إهانة شرطية له فانتفض التونسيون دون رجعة.
أعلام تونسية وأبو القاسم الشابي ومحمد البوعزيزي.. هذا يوم تونسي إذن في صنعاء، ما كان يخطر لأحد أنه سيؤسس لأيام يمنية مدهشة، تضج بها الدنيا كلها، خصوصاً بعد أن عاجله جنود أمن وعناصر من المخابرات عند موقع السفارة التونسية وأخمدوه مع أصحابه. كانوا طلاباً مملوءين باليأس قد انسد الأفق أمامهم بوصفهم جيلاً يضغط عليه ميراث هائل من إخفاقات عهد علي عبدالله صالح ولم يعيشوا يوماً واحداً بعيداً عن ظله الكئيب. وكانوا ساخطين حيال كل شيء، بدءاً من أساتذة كلية الإعلام الذين مازالوا يلقون محاضرات عن الحروف القوطية في الطباعة حتى غرف السكن الصنعانية المحشورة كصناديق خشبية أسفل الدرج والمؤجرة بأثمان مضاعفة فقرروا أن ينتفضوا ولا شيء سيخسرونه. ومساء اليوم الذي قُدحت فيه شرارة الانتفاضة الشعبية، يحتار محررو الأخبار في الصحف الالكترونية والمطبوعة أيتناولون بياناً يدعو للإطاحة بنظام صالح أم يلقون به في خانة الموضوعات غير الصالحة للنشر. فقد وزعت منظمة الحزب الاشتراكي اليمني الطلابية بجامعة صنعاء مساء 15 يناير بياناً أطلقت عليه «بيان الثورة» يحرض على الإطاحة بالنظام ويدعوه إلى تسليم السلطة للشعب. وكان من السهل تصنيف البيان بين المبالغات اللفظية التي تطغى على النشاط السياسي في اليمن لو لم تؤكد الأيام التالية واقعيته.
جاء في إحدى فقرات البيان «إننا أمام مشهد يستدعي منا التحرك العاجل للإطاحة بالنظام العسقبلي المتسلط على رقابنا منذ ثلاثة وثلاثين عاماً ويتطلب ذلك منا التمسك بخيار النضال السلمي الديمقراطي للانتصار لإرادتنا وتحمل تبعات هذا الخيار الأجدى للتخلص من الطغيان». وأضاف «إننا نطالب اليوم من زعماء التسلط والاستبداد أن يستجيبوا لنداء العقل وقوانين المنطق وأن يسلموا سلطة الشعب للشعب وأن يرحلوا قبل فوات الأوان».
كان بوسع السلطات النظامية أن تكبت الحركة الطلابية داخل أسوار جامعة صنعاء لولا أن انتصاراً أكثر تأثيراً جاء من القاهرة حيث سقط حكم الرئيس محمد حسني مبارك يوم 11 فبراير تحت انتفاضة شعبية عارمة استمرت 18 يوما.
في تعزوصنعاء، لم ينتظر الشبان التواقون لإشعال انتفاضة مماثلة حتى صباح اليوم التالي لسقوط مبارك إذ خرجوا لتوهم إلى ميدان التحرير وساحة أمام مقر المحافظة بتعز ولاقوا القمع من فورهم. وخاض مئات الشبان في تعزوصنعاء أسبوعاً قاسياً على أيدي مسلحين مأجورين وعناصر استخبارية، ظلت تشن هجمات يومية عليهم لتمنعهم من التجمع والاستقرار في ساحة معينة لكن المحتجين في تعز تنادوا بالمئات في اليوم التالي إلى شارع وسط المدينة سموه ساحة الحرية واستقروا فيه مشكلين أول مشهد ثوري حقيقي ثم أقام عشرات الآلاف أول جمعة هناك أطلقوا عليها جمعة البداية.
أما في صنعاء فظل المشهد مقتصراً على جولات المطاردة اليومية: يتجمع المحتجون بالقرب من جامعة صنعاء ليشرعوا في ترديد هتافات كانت موحدة يومذاك مثل «إرحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام» ثم يهجم عليهم أفراد العصابات النظامية بالهراوات والحجارة والخناجر قبل أن يتسلحوا بالبنادق الرشاشة ويفتحوا النار على المحتجين.
«سنخرج غداً للمرة الأخيرة ونرى» قال النائب البرلماني أحمد سيف حاشد أحد زعماء الاحتجاجات وقد كاد ييأس من جدوى ما يفعلونه بعد قمع للتظاهرات على مدى ثلاثة أيام متوالية كان آخرها يوم الجمعة 18 فبراير حين طارد أفراد العصابات النظامية المحتجين من أمام جامعة صنعاء حتى شارع الزبيري وفرقوهم موقعين إصابات.
وفي اليوم التالي، استطاع المحتجون بالفعل أن يضعوا أقدامهم في الشارع المقابل لجامعة صنعاء وينصبوا خياماً عند حلول الليل واقتبسوا للمكان تسمية «ساحة التغيير» بالرغم من هجمات مباغتة للعصابات النظامية لم تتوقف. تلك بدايات أضخم انتفاضة شعبية يمنية تنامت ساحاتها فوصلت إلى 18 ساحة تغطي مدن البلاد ثم امتدت إلى المديريات لاحقاً فما الحال التي ستنتهي عليها. لا تصور واضحاً للكيفية التي ستُختتم بها الانتفاضة غير أن ما يبدو أقرب للحدوث يشير إلى أن أحزاب اللقاء المشترك ستنهي اعتصامها الطويل في الساحات عقب تسلم الفريق عبدربه منصور هادي السلطة بموجب انتخابات رئاسية توافقية من المقرر إجراؤها في 21 فبراير المقبل. غير أن ذلك قد لا ينهي الاحتجاجات التي يُتوقع أن معارضين مستقلين وقوى اجتماعية رافضة لاتفاقية نقل السلطة سيواصلونها ليشكلوا معارضة جديدة وهو ما يبدو واضحاً الآن لدى جماعة الحوثيين وقوى لم تتخاطب الاتفاقية مباشرة بشأنهم ومستقلين متحمسين للإطاحة بنظام صالح من خلال الثورة الشاملة. ذلك أن كثيرين يرون في اتفاقية نقل السلطة مجرد تسوية سياسية بين الأطراف السياسية المتخاصمة.
لكن سيكون من القصور تقييم مكاسب الانتفاضة من خلال ما يبدو الآن أنه مجمل قطوفها الآنية الواردة في اتفاقية نقل السلطة بل ينبغي وضعها في إطارها الحقيقي كعملية تغيير عميقة ومزمنة، كانت الانتفاضة بأشكالها المباشرة كالاحتجاجات والعصيان الشعبي تمهيداً لهذه العملية وقوة ضرورية لإزالة العائق الذي يقاوم التغيير. فعقب شهر واحد من بدء سريان العملية السياسية، هاهي الانتفاضات العمالية تتوالى في غالبية المؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام تستعيد قدراً كبيراً من التوازن ووزراء الحكومة يستعيدون سلطاتهم التي كان رئيس النظام ومقربوه قد استحوذوا عليها. كان بالإمكان تحسين تلك المكاسب التي يريد بعض أنصار الانتفاضة لمسها بطريقة فورية لو أنهم حافظوا على قدر ضامن من استقلال الانتفاضة نفسها، ليس الاستقلال الذي يعني عدم انتساب المنخرطين فيها إلى أحزاب وجماعات مختلفة إنما استقلال قرارها وصبغة فعلها. بيد أن الأعمال الكبيرة تُسلم في الغالب إلى هيئات عقيمة. سأل مذيع في تلفزيون سهيل المعارض أحد المشتركين في تظاهرة ضد نظام صالح في سبتمبر الماضي: أين أنتم الآن؟ نحن في شارع عمان، أمام فندق المدينة. وإلى أين ستتجهون؟ لا أدري، القرار للجنة التنظيمية ولم تبلغنا بعد. يبرهن مضمون حوار كهذا على مدى ما لحق بالانتفاضة من تجميد وتحويلها إلى ورقة ضغط مع استلاب دافعها الذاتي.ولقد برز مثالان واضحان لها: مثال لانتفاضة تنبع من الثقافة الفردانية وبدا واضحاً في تعز ومثال لأخرى تطغى عليها «ثقافة القطيع» تكرس في صنعاء مع حضور لأصوات مستقلة لم تستطع التأثير جراء الفوارق الهائلة في الإمكانيات المادية. المهمة الآن إيصال ما حصدته الانتفاضة إلى بر آمنة. ولو لم يكترث الرئيس علي عبدالله صالح لشيء مما سيفقده من السلطة والأبهة والمال لأرقه أنً أضخم انتفاضة أجمع عليها اليمنيون كما لم يجمعوا على شأن آخر قد قامت ضده لتلقيه في خانة الزعماء الذين حل عليهم غضب شعوبهم فأخرجتهم من الحكم مطرودين وهذا مالا يستدرك ولا يعوض.
الصورة لمتظاهرين أمام جامعة صنعاء يوم 19 يناير 2011.