ازمة الانتقالي الشراكة مع الأعداء التاريخيين للجنوب العربي الأرض والإنسان    الانتقالي الجنوبي ثمرة نضالات طويلة وعنوان قضية شعب    فخامة الرئيس بن مبارك صاحب القدرة العنكبوتية على تحديد الضحية والالتفاف    تاجرين من كبار الفاسدين اليمنيين يسيطران على كهرباء عدن    كرة القدم تُلهم الجنون: اقتحامات نهائي دوري أبطال أوروبا تُظهر شغف المُشجعين    كشف هوية القاضي الذي أثار موجة غضب بعد إصداره أحكام الإعدام اليوم في صنعاء    تجدد مواجهة مصيرية بين سكان صنعاء و الحوثيين    ما خطورة قرارات مركزي عدن بإلغاء العملة القديمة على مناطق سيطرة الحوثيين؟.. باحث اقتصادي يجيب    "إنهم خطرون".. مسؤول أمريكي يكشف نقاط القوة لدى الحوثيين ومصير العمليات بالبحر الأحمر    "لماذا اليمن في شقاء وتخلف"...ضاحي خلفان يُطلق النار على الحوثيين    غدر به الحوثيون بعدما كاد أن ينهي حرب اليمن.. من هو ولي العهد الكويتي الجديد؟    عيدروس الزُبيدي يصدر قراراً بتعيينات جديدة في الانتقالي    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    المرصد اليمني: أكثر من 150 مدنياً سقطوا ضحايا جراء الألغام منذ يناير الماضي    كيف أفشل البنك المركزي اليمني أكبر مخططات الحوثيين للسيطرة على البلاد؟    ضربة موجعة للحوثيين على حدود تعز والحديدة بفضل بسالة القوات المشتركة    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    جريمة مروعة تهز المنصورة بعدن.. طفلة تودع الحياة خنقًا في منزلها.. من حرمها من حق الحياة؟    مشهد رونالدو مع الأمير محمد بن سلمان يشعل منصات التواصل بالسعودية    تنديد حقوقي بأوامر الإعدام الحوثية بحق 44 مدنياً    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    سلم منه نسخة لمكتب ممثل الامم المتحدة لليمن في الاردن ومكتب العليمي    صندق النقد الدولي يعلن التوصل لاتفاق مع اوكرانيا لتقديم مساعدة مالية بقيمة 2.2 مليار دولار    استشهاد 95 فلسطينياً وإصابة 350 في مجازر جديدة للاحتلال في غزة    بوروسيا دورتموند الطموح في مواجهة نارية مع ريال مدريد    المنتخب الوطني يواصل تدريباته المكثفة بمعسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا للشباب    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    بنك سويسري يتعرّض للعقوبة لقيامه بغسيل أموال مسروقة للهالك عفاش    موني جرام تعلن التزامها بقرار البنك المركزي في عدن وتبلغ فروعها بذلك    مجلس القيادة يؤكد دعمه لقرارات البنك المركزي ويحث على مواصلة الحزم الاقتصادي    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    شاهد: مقتل 10 أشخاص في حادث تصادم مروع بالحديدة    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الامتحانات.. وبوابة العبور    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على الحزب الحاكم أن يقدم نوع من التنازل على قاعدة تحمل الدولة مسؤوليتها ومراعاة المصلحة العليا للوطن
نشر في المصدر يوم 28 - 10 - 2009

تتسع الاهتمامات الثقافية والفكرية للدكتور عمر عبدالعزيز، وتتعدد مشاربه العلمية والأدبية، فهو يجمع بين الاقتصاد كتخصص علمي والإعلام كمهنة وكتابة يومية في عدة صحف محلية وعربية.

وقبل ذلك هو أديب ومثقف إنساني يمارس الكتابة الإبداعية والنقدية في أجناس أدبية عدة.
ولمن لا يعرف فهو فنان يمارس التشكيل ببعديه النقدي والعلمي وله معارض تشكيلية ومشاركات في اليمن والشارقة.
برز اسمه مؤخراً كمحلل سياسي، في قنوات فضائية عدة، يمتاز بالموضوعية في الطرح ورؤية الأمور بنظرة تكاملية شاملة غير مبتسرة.

يتحدث في جوانب معرفية وفكرية وإنسانية شتى حديث المتخصص والباحث بتلقائية وحضور بديهة تُدهش، بعيداً عن العموميات والنظر للأمور بسطحية.

عمر عبدالعزيز من مواليد 6 أكتوبر 1953 وحاصل على الدكتوراه في الاقتصاد الدولي.
رأس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع عدن، وعين مديراً عاماً للتلفزيون فيها.
منذ العام 1995م وحتى الآن وهو يقيم في الإمارات كإعلامي، وكاتب زوايا ثقافية وسياسية، واستشاري في العديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية، ومدير لتحرير مجلة "الرافد" الثقافية الشهرية، وأمين عام لجائزة الشارقة للإبداع العربي.
انتهزنا فرصة مشاركته في مؤتمر المغتربين الثالث بصنعاء، واقتنصنا جزءاً من وقته الضيق وكان معه هذا الحوار الثري والشامل، ولولا انشغاله واستعداداته للسفر لكان الحوار أثرى وأشمل:


لنبدأ من مؤتمر المغتربين الثالث الذي أنعقد مؤخراً، بوصفك أحد المشاركين فيه، هل ترى أن مثل هذه المؤتمرات ستلبي طموحاتكم، خاصة أن بعض المغتربين المستثمرين يشكون من الابتزاز وعدم تنفيذ قرارات المؤتمرين السابقين؟

أتحدث من واقع تجربتي الشخصية فقد حضرت أحد مؤتمرات المغتربين، وتلمست أن جملة من القرارات قد أخذت مجراها للتنفيذ بكيفيات مختلفة وليست بكيفية واحدة تبعاً لذلك، اليوم نتحدث عن القرارات والتوصيات في أي مؤتمر من المؤتمرات لا نفترض بأي حال من الأحوال أن القرارات يمكن أن تنفذ بنسبة مطلقة أو مثالية ولكن مجرد وجود قرار ومجرد وجود توجيه للأجهزة المعنية بتنفيذ مثل هذه القرارات يعني أن هناك حراكاً باتجاه هذا التنفيذ. وأنا أقول إن المؤتمرات السابقة شكلت منصات حقيقية ومتكئات لتنسيق هذا التقليد الخاص بلقاء المغتربين في مؤتمر شامل وأيضاً بالاستفادة من الخبرات السابقة على قاعدة أنه يمكن تحوير وتعديل بعض الأمور وتفعيل بعض القرارات التي اتخذت ولم تنفذ كما ينبغي.

لكنني أقول حصراً إن مؤتمرات المغتربين اليمنيين تمثل محطة هامة لأنها تتعلق ببعض المواطنين المقيمين في خارج اليمن تقريباً، كما أنها تتعلق بوشائج الصلة التي لم تعد وشائج صلة اغترابية كما كنا نفهم تقليدياً فكلمة المغتربين تتصل أساساً بطبيعة الهجرة التاريخية القديمة التي كانت بشيء من الانقطاع الزمني الطويل، ولهذا نقول للمغتربين إنه من اليوم نستطيع أن نتحدث عن المواطنين خارج الحدود، وهذا أدق في تقديري الشخصي وخاصة أن وسائل النقل والاتصال والتواصل أصبحت تجعل الإنسان حاضراً في بلده حتى ولو كان غائباً وقبل أن يحضر باستمرار ويزور باستمرار. وبالتالي نحن هنا أمام مفهوم جديد للمغترب وهذا المفهوم في حقيقة الأمر تكرس في الأدبيات السائدة في العديد من بلدان العالم حيث يتم التحدث مع المواطن خارج الحدود.

ونحن عندما نتحدث عن المواطنين اليمنيين نتحدث عن مواطن الداخل ومواطن الخارج، بما في ذلك الذين يحملون جنسيات أخرى وذلك استناداً إلى قانون الجنسية اليمنية الذي يقول بقابلية ثنائية الجنسية، أي أن حصول اليمني على جنسية أخرى لا يلغي جنسيته الأصلية، وبالتالي أعتقد أنه آن الأوان لأن نتفكر وربما يكون هناك توصية بالنظر في هذه التسمية ليس لشيء، فقط لأنها تسمية قد تكون استنفدت أغراضها ولا تدلل بدقة عن معنى أن يكون الإنسان مهاجراً. نحن نعرف أن هناك ثلاث مستويات في التعبير عن الهجرة. فتاريخياً نتحدث عن الهجرة باعتبارها أمراً له صلة بمئات السنين وآلاف السنين، ثم الاغتراب الذي كان صفة القطيعة الزمانية والمكانية الطويلة وشحة الاتصال وإمكانية الاتصال الذي ساد على وجه التحديد خلال القرن المنصرم، ثم نتحدث الآن عن المواطنة خارج الحدود، وبالتالي فهذه المسائل كلها تصب في مجرى الهجرة الحديثة والعصرية تماماً مختلفة عن الهجرات التي ألفها آباؤنا وأسلافنا وأجدادنا.

ما هي قراءتك لراهن المشهد السياسي في اليمن، وتحديداً الحرب في الشمال والحراك في الجنوب؟
{ التطور التاريخي الإنساني هو محكوم بما يسمى "منطق الأزمة". ببساطة شديدة، هنالك مشاكل ومجموعة من القضايا التي تتطلب حلحلة أو حلاً، ولهذا السبب أعتقد أن طبيعة الأشياء أن تكون هناك أزمة، ولكن الأزمات أشكال مختلفة فهنالك أزمات درامية تراجيدية، وهنالك أزمات أخف وطأة لكنها في نهاية المطاف أزمات، فنحن نتحدث اليوم عن أزمة اقتصادية عالمية، عندما نتحدث عن أزمة بعض البلدان الصناعية الكبيرة. ونتحدث أيضاً عن مشاكل نوعية حتى في أشهر البلدان نجاحاً، كما هو الحال في الصين، يفترض أن تقرأ الأزمة بوصفها محطة تفكر ومحطة انطلاق لحلول وأيضاً بوصفها سنة من سنن التطور الكوني. لكن الأزمات عندما تأخذ طابعاً تصادمياً غير حميد وعندما تصبح خارج نطاق السيطرة تتحول إلى مشكلة حقيقية.

أعتقد أنه ما زالت الأمور قابلة للتدوير على إمكانية محاصرتها والسيطرة عليها، والخيارات القائمة هي خيارات واضحة المعالم من حيث التشخيص ومن حيث المرئيات، ولكن ليست واضحة المعالم من حيث إرادة التنفيذ، وأعتقد أنه آن الأوان لأن يكون هناك إرادة سياسية حقيقية قائمة على تشاور وطني رشيد وعاقل، وقائمة على خيار أن تتماهى السلطة مع الدولة وبالتالي الأخذ بالخيارات الكفيلة بأن نخرج من نطاق الأزمة غير الحميدة إلى نطاق الأزمة الطبيعية، ونطاق الأزمة التي تولد تطوراً وحالة من الانعتاق أكثر فأكثر فتلك العناصر والشروط التي استنفدت أغراضها لتكون سبباً للنماء وللتطور.

أرى أن الأوجه الإجرائية لتشخيص الأزمة في اليمن ككل واضحة المعالم بالنسبة لنا جميعاً، وهناك العديد من المسائل التي يفترض أن يتم استقراؤها ومكاشفتها بطريقة واقعية حتى الذين يقفون ضد الدولة وقوفاً علنياً، لا بأس من أن يتم الجلوس معهم وإيضاح بأنهم يعشون ضلالات، لأنهم يغادرون منطق التاريخ والجغرافيا، نحن اليوم عندما نتحدث عن مشكلة صعدة بالمعنى الأيديولوجي الديني السياسي علينا أن نفهم أن ما يجري هناك هو مفارق تماماً لطبيعة البنية الدينية والتاريخية في اليمن ونحن في إطار الزيدية التاريخية اليمنية ليست هنالك مشتركات جوهرية لا في الحاكمية ولا في فقه الإمامة مع الزيدية. وبالتالي ففقه الاعتزال الزيدي الذي يشكل المنطلق الأساسي للعلاقة بين الإمامة والحاكمية كان قد انتهك من قبل الإمامة الزيدية، كما حصل في الإمامة الإباضية في عمان. وحتى الشيعة الجعفرية كانت قد اُنُتهكت. فكرة ولاية الفقيه انتهكت معنى العلاقة بين الإمامة في الشيعة الجعفرية والحاكمية الدنيوية. وهو أمر يطول الحديث حوله الآن.

مقطع القول إن هناك شباباً مندفعين مؤدلجين يفعلون ما لا يدركون. ومسؤولية الدولة ومسوؤلية القوى والأحزاب السياسية المختلفة والعقول النيرة التنوير وإيضاح المسائل المتعلقة بهذا الأمر.

ما دمت تحدثت عن الانتهاك الذي تعرض له المذهب الزيدي تاريخياً، وأن ما يجري الآن من حروب هو مفارق لطبيعة البنية الدينية التاريخية في اليمن، ألا ترى أن التمرد الحوثي في صعدة لم يعد يمثل الزيدية التاريخية اليمانية، وأنه قد تأثر بمعنى من المعاني بالشيعة الجعفرية أو الاثنى عشرية؟
{ فيما يتعلق بمعطيات الوضع في صعدة لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء لنعرف أسباب هذه الظاهرة، وأعتقد أن واحدة من الأسباب الرئيسية أنه تم استزراع السلفية الجهادية في عقر دار الزيدية التاريخية وكان هذا أمر غير حكيم، لأن قانون الطبيعة يقول "لكل فعل رد فعل"، فكان رد الفعل باتجاه الاستقطاب المذهبي الذي لا تعرفه اليمن تاريخياً، ونحن نعرف أن المذهبين السائدين في اليمن يتواشجان في الأصول والفروع حد التماهي التام، وأن الزيدية التاريخية لا علاقة لها بالشيعة الجعفرية، لولا أن بعض الشباب الأفتياء "المؤدلجين" تأثروا -بمعنى من المعاني- بالروح الثورية الخمينية، التي تجد لها رجع صدى في لبنان على سبيل المثال، ومثل هذه الروح هي مثار جدال وإشكال، بل وخلاف حتى داخل إيران، التي توزعت الآن إلى معسكرين كبيرين، في إطار الحاكمية القائمة: "معسكر الإصلاح، ومعسكر المحافظين".

والحقيقة أن الشيعة الجعفرية قد انتهكت منذ الثورة الخمينية وإقرار "ولاية الفقيه" مرجعية الإمام بوصفه ليس إماماً دنيوياً ولكن مرجعية دينية يمكنه أن ينصح ويوجه ولكنه لا يحل محل الحاكم، لكن الذي يحصل الآن أن فكرة "ولاية الفقيه" أصبحت تحل محل الحاكمية الدنيوية والإمام هو الحاكم الفعلي، الأمر الذي لا علاقة له بالزيدية التاريخية الإمامية، لأنها محكومة باشتراطات قوية تتعلق بكيفية جمع الإمام بين الحاكمية الدنيوية والمرجعية الدينية، ولكن لا بد أن يكون عالماً وفقيهاً، وأن تكون عنده خصال تؤهله للسلطة، ولا بد أيضاً أن ينتخب ولا أن يورث كما حصل في الإمامات التاريخية التي حكمت في اليمن وعُمان، فالحقيقة أن الإمامتين الإباضية والزيدية، قد خرجتا في ما يتعلق بأمر الحاكمية على وجه التحديد عن فكرة الحاكمية بما هي مسطورة في إطار المذهبين.

ولهذا السبب، فأعتقد أن الظاهرة الحوثية فيها جزء كبير من الاستلهام والتأثر الأيديولوجي بنموذج حزب الله، وهناك أيضاً بعض كبار السن ممن يستدعون بعض التيارات المندثرة وهي تيارات ذات طابع "خروجي"، يستلهمونها وبالتالي يتأثرون بها.

أعتقد أن ما يجري في صعدة أمر بحاجة إلى معالجة خاصة، ومعالجة متشعبة ومتعددة الأبعاد، فالحل العسكري يمكنه أن يتحور ويتحول بحسب واقع الحال، باعتباره قراراً سياسياً قد تم اتخاذه، والحلول الأخرى لا بد أن تأخذ مجراها، بحيث تكون هناك منظومة متكاملة من المتوازيات في العمل على حلحلة هذه المشكلة ذات الطابع الخاص بكل فرادة.

استطراداً على كلامك، قلت إنه آن الأوان لأن يكون هناك إرادة سياسية حقيقية قائمة على تشاور وطني رشيد وعاقل، هل ترى أن وثيقة الإنقاذ الوطني الصادرة عن لجنة الحوار الوطني هي خطوة في الاتجاه الصحيح؟
{ فيما يتعلق بالمبادرات المتعلقة بالحلول السياسية، أعتقد أن جملة المبادرات التي قدمت سواءٌ من المؤتمر الشعبي العام أو اللقاء المشترك أو بعض التجمعات والهيئات الشعبية والأهلية، تشكل في مجملها قابلية لبعض المشتركات خاصة إذا عرفنا أن الحوار السياسي الرئيسي والمتعلق بالإصلاح والمتعلق باللامركزية وبشكل الدولة الاتحادية والمتناسبة مع طبيعة اليمن وجغرافيته وتاريخه، كل هذه الأشياء أعتقد أنها ستشكل أرضية حقيقية للحوار. وفي تقديري أن على المؤتمر الشعبي أن يبادر بنوع من التنازل الإجرائي الذي يعني في نهاية المطاف تحمل الدولة لمسئولية أساسية في مثل هذا التنازل على قاعدة الحفاظ على المصلحة العليا للوطن، وبالتالي فكل الدعوات التي نسمع بها تعتبر ضرورة في هذا الأفق.

في ظل هذه المتغيرات والصراعات، هل تعيش اليمن أزمة هوية؟ وإلام تعزو تراجع الهوية الجمعية لليمنيين، وبروز هويات صغيرة جديدة، أو العودة إلى هويات ماضوية جهوية أو مذهبية؟
هذا موضوع في غاية من الأهمية ليس في اليمن فقط ولكن في كثير من البلدان، نحن نرى الآن إذا تحدثنا عن الجغرافيا الإثنية العالمية، سنجد أن الهوية في البلدان المتطورة مقرونة بالمواطنة، فالمواطنة هي رمز الهوية، وتعني وفق الآداب العصرية "تجاوز المراتبية السلالية والقبلية والعشائرية والطائفية"، وتعني "التشارك في الوجود أرضاً ومكاناً وزماناً"، وتبعاً لذلك يصبح ترميز المشاركة "القانون"، ومداها "القانون"، وأن لكل واحد الحق وعليه واجب تماماً بقدر المساواة أمام القانون.

والحال في كثير من الدول العربية، وربما بطريقة أكثر فلكلورية في اليمن ما زلنا نستجر بعضاً من الأعراف الموروثة من الماضي، وهذه الأعراف سلبية لأنها تصطدم بحقائق العصر وحقائق الوجود المادي في اليمن، فنحن لا نستطيع أن نتكلم في اليمن عن نقاء سلالي أو عن مراتبية تجعل فئة أفضل من فئة أخرى، فيما أدبيات الدولة، دستوراً وقانوناً، تنص على أن المواطنة متساوية، وتبعاً لذلك فالهوية المقرونة بالمواطنة تعني الانتماء للعصر أو القدرة على التفاعل والتمازج الاجتماعي الطبيعي. والحقيقة أنه ليس لدينا مشكلة حادة كتلك البلدان التي تستقبل ملايين الناس من أرجاء العالم كوافدين جدد، وتحرص أشد الحرص على إدماجهم في المجتمع. فيما نحن مندمجون طبيعياً، ونعيش في نفس الإيقاع الثقافي العام، ولكن هناك استدعاءات سلبية لعناصر ماضوية استنفدت أغراضها، وأعتقد أن السبب الرئيسي في هذا يكمن في الفقر أولاً، والإحباطات، وفي بيئة المظالم، لأن هذه البيئة تجعل الناس يتوسلون بكل ما هو "ماضوي" ويعتقدون أنه يضفي عليهم قيمة معينة ويعطيهم مكانة مختلفة، فيقعون في حفرة الوهم الكبير، ويمكن أن تتحول إلى متوالية للتنافي العدمي الذي لا معنى له مما نشاهد له ظواهر في دول الجوار "الصومال" مثلاً، الذي هو شعب من الدين والمذهب نفسيهما، لكنه يتقاتل على أسس قبلية ووصلت الآن إلى مستويات البيوت الصغيرة.

لهذا السبب أعتقد أن مشكلة الهوية في بلد كالسودان على وجه الخصوص، وربما بقدر ما في عدد من الدول العربية، وخاصة بلدان شمال إفريقيا قد تنعكس علينا في اليمن إذا لم نتمكن من تفعيل القوانين على قاعدة المواطنة المتساوية، وأن نعتبر أن فكرة المواطنة تعني ببساطة "الهوية" سواءٌ كان هذا المواطن يماني الأصل أو مولوداً في اليمن، أو خضع للتجنيس وفق قوانين اليمن السارية، وتبعاً لذلك لن تكون هناك مشكلة في الهوية.

في تقديري الشخصي الهوية مفهوم ثقافي وإنساني وليس مفهوماً عرقياً، الذي يجمع العرب في كل مكان بالمعنى "الهوياتي" هو أنهم بثقافة واحدة وبنسق ثقافي صادر عن اللغة العربية وعن الدين الإسلامي، وأن هذه المسألة هي التي جعلت هذا العالم العربي الكبير يعيش نفس الإيقاع فيما يتعلق بالمعطى الثقافي والفكري والوجداني الداخلي. علماً بأن من هم في العالم العربي ليسوا عرباً عاربة أو عرباً أقحاحاً، ولهذا السبب اليمن التي هي مهد العروبة، ليست مكاناً للأقحاح، والسلالات النقية، إن هذه المسألة كاذبة في كل مكان، وليس في اليمن فقط، والحقيقة الكيانية في هذا الوجود الكوني أننا خلاسيون، في نهاية المطاف، سواءٌ بشكل مباشر عبر الانتماء لأبوين أو بشكل تاريخي، وبالتالي أعتقد أن مبدأ فكرة المواطنة تعني تفعيل القوانين السارية ومشاركة الجميع والتخلي بطريقة غير مأسوف عليها عن كل الموروثات العرقية السلبية الماضوية، تعني أن يستشعر كل مواطن في بلده أنه ند وقرين وموازٍ للآخر.

هل معنى هذا أن الأحداث التي تجري في اليمن لا تعبر عن هويات جديدة؟
ما يجري الآن في اليمن سواءٌ في المحافظات الشمالية أو الجنوبية أمر، في تقديري الشخصي، مفارق لحكمة التاريخ والجغرافيا، دون أن أدخل في تفاصيل كثيرة حول هذا الموضوع. والتوسل لبعض المسائل الماضوية التي لا تعبر عن الحقائق الكيانية التاريخية الجغرافية لليمن الكبير، أمر متهافت في نهاية المطاف، ولا معنى أو مستقبل له.

مستقبل اليمن وكيانيتها وقيمتها وتاريخيتها تكمن في واحديتها وعلى أساس الواحدية العصرية، الوحدة التي تعني أيضاً التعدد فهما وجهان لعملة واحدة. احترام وجود الأنساق التاريخية والثقافية والاجتماعية وتعايش هذه الأنساق على قاعدة المصلحة العليا. والوطن الكبير هو المخرج من كل المشاكل. أما هذه الاستدعاءات فأعتقد أنها -في جزء كبير منها- ليست قادمة من بيئة الحكمة أو الخبرة، أو المعرفة الحقيقية للتاريخ الحقيقي لليمن. نحن نعرف أن كل الحركات السياسية في اليمن على مدى العقود الماضية كانت حركات تتوق إلى وحدة الأرض والشعب. وحتى الصراعات اليمنية البينية في إطار النموذجين السابقين "جنوباً وشمالاً" كانت من أجل الوحدة، وحتى التوازي والتآخي والتآلف والتكامل في بعض الآفاق كانت أيضاً من أجل الوحدة.

وما تم في 22 مايو جاء ترجماناً اعتيادياً لكامل الأدبيات السياسية أو ما نسميه نحن ب"الحركة الوطنية اليمنية" وأنا أسميها ب"الحركة السياسية اليمنية" لأني لا أستثني أي طرف من أن يكون حركة وطنية حتى وإن كان رجعياً، فأنا أعتبره حركة وطنية لأنه جزء من اليمن، ولهذا السبب فأنا أتحفظ دائماً على تسمية الحركات السياسية التي تاقت إلى التغيير والتقدم والتحول حركات وطنية، لأن هذا هو احتكار لسمة الوطنية، أقول إن الكل وطنيون. ولكن هناك حركات سياسية لها آفاق وآراء ربما تكون مستقبلية حداثية ليبرالية عصرانية، وحركات أخرى ترى أن في الماضي معنى وقيمة ولهذا السبب كلهم وطنيون.

لا بد أن تستوي الأمور على الجدل الخلاق، وبالتالي نحن بحاجة الآن إلى أن يتداعى حكماء اليمن من أجل فن إدارة الأزمات وليس تأزيم الأزمات، لأن الإدارة بالتأزيم تعني ببساطة اللجوء إلى خيارات تكتيكية آنية قاصرة، أما فن إدارة الأزمات على قاعدة الحكمة والاستيعاب والتمثل لهذه الأنساق المختلفة يعني الإبحار نحو المستقبل. أعتقد أن كل الرائين في اليمن مهما كانت مواقعهم الفكرية والأيديولوجية، يستطيعون أن يلتقوا عند مُعيَّن ومعلوم من السوية فيما يتعلق بالمصلحة العليا لهذا الوطن.

ما هي الخيارات الممكنة للخروج من أزمات اليمن المتفاقمة؟
بالنسبة لنا أي خيار يؤدي إلى تشقق لن يكون شمالياً أو جنوبياً، بل حالة من التشظي الكامل، وعلى الجميع أن يعرفوا أن هذا التشظي هو دفن لكل أمل في مستقبل واعد قريب، ولهذا فالحل هو في اليمن الموحد الذي عليه أن يكون متغيراً ويتم فيه الإصلاح الحقيقي الجاد بإرادة سياسية جادة هي مجيرة- في نهاية المطاف- على الحاكمية القائمة، أو على السلطة بالمعنى الدقيق، فعليها أن تعمر الدولة وتكمل المؤسسية الهيكلية لها، حتى تصبح المسافة بين السلطة والدولة مسافة قريبة، لكي يحصل نوع من التماهي بين السلطة كونها إرادة، والدولة بوصفها حالة تمثل لهذه الإرادة. المشكلة أن المسافة تتباعد، والتباعد بين السلطة والدولة هو كالتباعد تماماً بين المعارضة والدولة، وبالتالي فالدولة بوصفها المعيار الحاضن للسلطة والمعارضة معاً، يفترض أن يتم تعميرها وأن تكون هناك جدية في بناء دولة متكاملة الملامح، ومؤسسة على النظام والقانون أولاً، ومؤسسة على نموذج اللامركزية الشاملة، والتي تعني تمتين الوحدة، وإعطاء أفضلية تنموية في الأقاليم المختلفة، و"مباراة" حرة بين المحافظات المختلفة، والذي يعني شعور الجميع بأنه مشارك في العملية التنموية وإعادة إنتاج القيم المادية والروحية.

هذا هو المخرج، وهو الحل فيما أتصور، وأعتقد أن الوقت مازال متاحاً للعمل في هذا الاتجاه.

إذا سارت الأمور نحو الانفصال –لا سمح الله- هل سيستطيع كل طرف أن يحافظ على كيانه كما كان عليه الحال قبل الوحدة أم أن الماضي البعيد من سلطنات ومشيخيات سيجر نفسه على البلاد وتكون حالات التشظي والتشرذم هي السائدة؟
أي دعوة سياسية أو حركة سياسية على وجه الأرض تجري في اتجاه الانفصال أو باتجاه الاستقطاب الشطروي أو المناطقي والطائفي، كل هذه الحركات ستوصل إلى مزيد من التشظي، لن تعود اليمن كما كانت من قبل، فللتاريخ نواميس وقوانين تسري على الجميع، اليمن الذي كان قبل الوحدة ليس كما هو اليوم، ولن تكون اليمن القادمة "لا سمح الله" لا شطرية ولا موحدة.

أقول هذا الكلام بيقين الرائي لأمر وقواعد وقوانين التاريخ، ولهذا السبب أقول نصيحة أخوية لكل من هو معني بهذا الأمر: اعلموا علم اليقين أنه إذا تفتت اليمن فإن هذا التفتت سيتحول إلى متوالية. علينا أن نتعظ، ونقرأ الجغرافيا والتاريخ كما ينبغي أن يقرأ، وليس بعيداً ما ينال بعض بلدان الجوار العربي مثل الصومال الذي دائماً أضرب بها المثل بوصفها الحالة الأكثر نموذجية في هذا المعنى، وأيضا ليس بعيدا ما يحصل من محنة حقيقية في بعض البلدان كالسوادان والعراق، مما يمثل إشارات بالنسبة للجميع. على اليمن أن يكون كبيراً، وعلى ملعب المشاركة أن يتسع، وعلى الدولة كما أسلفت أن تكون محايثة للسلطة، أي أن تكون الدولة هي الحاضن الأكبر لمعنى الولاية، والحاكمية والسلطة، وأيضا لمعنى المعارضة، لماذا؟ ببساطة شديدة لأن الدولة هي التعبير الكلي عن وحدة القوانين ووحدة الوجود، ووحدة الشهود ووحدة الدلالة في الأرض. لهذا السبب ما كانت الدول في هذا العالم إلا لأنها هي الإطار والحاضن الذي يستطيع أن ينظم الخلاف والاختلاف، وأن ينظم المصالح المختلفة، بين مختلف الفرقاء في الأرض.

لنضع الهم السياسي جانباً وننتقل إلى الجانب الثقافي والأدبي –عشقك الأول- خلال السنوات الماضية شهد اليمن زخماً ثقافياً وحركة نقدية وأدبية. واعدة. ألا تلاحظ أنه قد تراجع هذا الزخم في ظل طغيان السياسي وانسحابه على كل ما عداه؟
أعتقد أن الثقافة هي الإشارة لما هو أشمل ووضع مجتمعي كامل، وهذا الوضع إذا كان محتدماً فيه احتمالات كبيرة، فالشاهد الثقافي يكون أكثر إضاءة ووضوحاً، الثقافة ليست قرينة الاسترخاء، أو قرينة الأمن العام في كل الأحوال، ولكنها يمكن أن تخرج من تضاعيف المعاناة أو تضاعيف المشاكل. وهناك شواهد كثيرة فعلى سبيل المثال الأدب الروسي العتيد الذي عرفناه وعرفه العالم، بوصفه تياراً كبيراً في الأدب الكلاسيكي الإنساني، كان خرج من عصر القيصرية الذي كان عصر مفارقات، وغنى فاجر وفقر أسود، ومشاكل وتقاتلات وما إلى ذلك، لكنه أنجب "غوغول" و"تشيكوف" وأمثال هؤلاء. بالمقابل سنجد في الآداب اللاتيني أمريكية أو ما يسمى بآداب الواقعية السحرية، أنها خرجت من بلدان المتاهات الكبرى مثل كولومبيا.

ولهذا السبب أقول إن الثقافة هي سمة المجتمعات المتحركة، وسمة المجتمعات التي تعيش في حالة مخاض، والمخاض الإنساني في تقديري الشخصي حالة متواصلة قد يكون يسيراً وقد يكون عسيراً، لكن في حالة العسر يكون الإفراز الثقافي أكثر صدقية وجدلية. وهنالك أمر آخر مهم جداً، أي الأمر المتعلق بالمسافة بين الثقافي والسياسي، في كل الأكوان والمجتمعات البشرية هنالك مسافة بين الثقافي والسياسي، ذلك لأن السياسي يضع بعين الاعتبار بين الممكن والبرنامج والآني، فيما الثقافي دائماً يتوق إلى حلم (ألف الفاضل)، ولهذا السبب يكون من الطبيعي أن تكون الثقافة مفارقة إلى حد ما للسياسة، أو أن تكون هناك حركة شد وجذب بين الثقافي والسياسي، غير أن الثقافي الرشيد هو ذلك القادر على أن يكون سياسياً مسئولاً، والسياسي المسئول هو ذلك القادر على أن يكون متاخماً للمعطى الثقافي.

إذن ما تقييمك للمشهد الثقافي في اليمن شعراً ونثراً؟
أعتقد أن الساحة اليمنية أفرزت في السنوات الأخيرة زخماً وافراً من العطاء الثقافي والفني المتنوع، ولكنني على وجه التحديد لاحظت أن هنالك نفساً شعرياً واضح الملامح، ونفساً شعرياً متجدداً، وهناك كثير من الفضاءات الشعرية الحديثة، ذات الطابع المؤصل في أساس البيان والبديع اللغويين، وأعتقد أن الزخم الشعري أمر له علاقة بالتاريخ الخاص بالعرب، كما أن له علاقة بالتوق الحداثوي، ومحاولات التجريب المتعددة، والمختلفة، ولهذا أستطيع أن أتحدث اليوم عن كوكبة من الأسماء تستطرد على السبعينات وما بعدها وحتى هذه الأيام من الأسماء الشعرية التي لا يمكن ذكرهم في هذه العجالة، ولكنهم يشكلون في محصلتهم رافداً كبيراً في الثقافة اليمنية القادرة على الحضور المشارك في الأفق العربي بامتياز حقيقي.

فيما يتعلق بالآداب السردية أزعم أننا ما زلنا في الأدب الروائي لسنا حاضرين كما ينبغي أن نحضر، علماً بأن البيئة اليمنية هي بيئة روائية بامتياز، بيئة الواقعية السحرية والمفارقات والغرائب والحالات الوجودية المتنوعة والأجواء التي تذكرني بأيام القيصرية، وربما بحالات لاتين أمريكا، التي أسلفت الإشارة إليها، وهذه البيئة تتطلب همماً عالية فيما يتعلق بالآداب السردية، هنالك جهود تبذل وهناك كتابات سردية لا أريد الإشارة إليها، ولكنني حتى الآن وعلى المستوى الشخصي على الأقل لا أجد نمطاً أو فعلاً سردياً يكون (مجايلاً) بطريقة متميزة. وأعتقد أن هناك بعض المشاريع وبعض الأقلام التي كتبت وتكتب، وما زالت لديها بعض القابلية لبعض الانزياحات، وهنالك ممن لم يكتب وهؤلاء مهمون جداً في تقديري الشخصي، لا أدري لماذا يتهيبون الخوض في الكتابة السردية الطويلة. وأعتقد أن هؤلاء لو امتشقوا ناصية القلم، واستنفدوا إمكانياتهم الخاصة في الذائقة والمعرفة والإبداع، يمكنهم أن يكتبوا سرديات يمنية متجاوزة كثيراً من السرديات العربية.

وماذا عن ظواهر ثقافية أخرى كالتشكيل والموسيقى؟
فيما يتعلق بالجانب التشكيلي فهو في منتهى الأهمية، حصل خلال السنوات الأخيرة أن التشكيل في اليمن ازدهر بشكل واسع وخاصة فيما يسمى بالواقعية التعبيرية، والتشكيل المتعلق بالانزياح من العامية البصرية إلى البصرية الرائية المقرونة بالمعرفة والمهارة في آن واحد. ولقد وجدنا هذا الأمر في كثير من المحافظات بما في ذلك بعض المناطق التي لم نكن نتصور أن الشباب سيلجأون فيها إلى الرسم، أو التعامل مع الألوان. وأتصور أن المعادل البصري إجمالاً ليس في مستوى التشكيل ولكن أيضاً في مستوى التعامل مع الوسائط المتعددة، وفي مستوى التجريب والتعلم الدائم لهذه الوسائط البصرية.

وأقصد على وجه التحديد الفوتوغراف والفيديو وما إلى ذلك، أعتقد أن هناك محاولات وجهوداً في هذا الباب على المستوى الفردي ولكن الأمور بحاجة إلى نوع من التأصيل المعرفي إلى حد كبير. وأعتقد أن هذا التأصيل المعرفي لن يبدأ إلا من المؤسسات ولهذا أنا أدعو المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون والأجهزة المعنية بالوسائط المتعددة على وجه التحديد، أن يكرسوا المزيد من ورش العمل التي تستدعي الخبرات القادرة على إعطاء المفردات والعناوين والأساليب الجديدة، في الاشتغال البصري على "النصوص البصرية". وأشير أيضاً إلى جانب الصحافة -وهذا مهم جداً- فنحن في هذا الجانب حصل فيه كثير من المباراة: استحضار الموديلات العربية وغير العربية في الصحف اليمنية، وخاصة صحف التابلويد، وهذه الموديلات في حقيقة الأمر هي مدرسة للتعليم والتعلم، وأتوق إلى أن يكون عندنا صحافة يمنية تقدم لمستها الخاصة في هذا الجانب وليس هذا الأمر ببعيد إن شاء الله. وإجمالاً فأعتقد أن الحركة الثقافية والفنية تزدهر.

للأسف الشديد الجانب الموسيقي هو الأقل ازدهاراً، وما زالت تعيش في الحاضنة التاريخية الكلاسيكية، وكل أشكال التجديد في الموسيقى ما زالت متعثرة عدا بعض الجهود الاستثنائية التي قدمت من قبل الفنان الذي تُرك للإهمال وهو الفنان أحمد باقتادة المقيم في عدن، وهو الوحيد الذي حاول أن يقدم تجديداً، بل قدم مستويات لحنية فيها درجة واضحة من التجديد، ولكني هنا لا أستثني القامات التي كان لها أهمية كبيرة في الستينات، كما هو الحال بالنسبة لمحمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبد الله وغيرهم، وأقول إن شيوخ الغناء في اليمن ما زالوا يمثلون المعين الذي لا ينضب، وأذكر من الذين استحضروا الغناء التاريخي في اليمن وأسميهم "شيوخ الغناء" محمد علي باشراحيل، القعطبي، إبراهيم الماس، استطراداً.. محمد مرشد ناجي وأحمد السنيدار وعلي الآنسي وعلي السمة والحارثي وغيرهم هؤلاء الناس مازالوا ينوئون بكلكلهم على الجيل الجديد. وبالتالي فأعتقد أن الجانب المتعلق بالموسيقى على وجه التحديد، والموسيقى ليست موسيقى مجردة في تقديري الشخصي، فالموسيقى لها صلة بالغنائية البصرية، ولها علاقة بالغنائية النصية، وتكاملية الثقافة، فالظواهر الإيجابية التي حصلت في تاريخ الموسيقى اليمنية في أفق التجدد وكانت حاضرتها عدن على وجه التحديد، كانت متصلة بثقافة الكلمة وثقافة الصورة وثقافة المعنى وثقافة البيئة، وبالتالي فأعتقد أن هذه التكاملات هي التي يمكن أن تصنع موسيقى جديدة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الجهود بذلت من بعض الفنانين هنا وهناك، وربما أشير على وجه التحديد فيما يتعلق بالتأصيل المعرفي للفنان جابر علي أحمد. وأرى أن هناك إمكانية لأن تتساوق الموسيقى مع ازدهار البيان النصي الأدبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.