عند عقبة هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية، يبدو أننا سنقف مطولاً قبل أن نصل إلى نهاية مثالية وحاسمة ونهائية.. بخلاف معظم القضايا والملفات المستعصية، يظل القرار السياسي في ملف الجيش والمخابرات محكوماً بسلسلة لا متناهية من الحسابات لدى الرئيس عبدربه منصور هادي وفريقه السياسي المكون من طرفي الائتلاف الحزبي الحاكم..رغم الحماس البائن لخطوة الهيكلة من قبل الشباب والمشترك، ثمة تعقيدات كثيرة تجعل الرئيس هادي ملتزماً بأقصى درجات التأني والحكمة في التعاطي مع هذا الملف. بالنسبة لهادي، ليست المسألة مجرد قرار جمهوري بإقالة قائدي الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع، إنها –في تقديراته- خطوة سياسية تاريخية يستعصي إنجازها دون الحصول على أعلى نسبة تحشيد وتأييد على مستويي الداخل والخارج. على أن كل التعقيدات البادية، لا تعلل بأي حال من الأحوال إفراط الرئيس في التعقل واغراقه في فواصل من الحسابات التي لا تنتهي.. هنالك ما يمكن أن يحسم المسألة مهما علت مستويات التأني والتأجيل، ببساطة: لايمكن لمشروع الدولة المدنية الحديثة أن يبصر النور دون إعادة هيكلة الجيش والأمن وإنهاء مراكز القوى المتحكمة في مساراتهما، ما سبق مسلمة حتمية ستدفع بالرئيس عاجلاً أو آجلاً إلى مرحلة اتخاذ القرار المنتظر.
كسر الإرادات بين الجيوش والحكومات في دول العالم الثالث، تظل المؤسستان العسكرية والاستخباراتية هما المتحكمتين في مسارات الفعل السلطوي والتنفيذي والسياسي. مستويات التحكم في الإدارة والقيادة، تجعل العلاقة بين هذه المؤسسات من جهة والساسة المدنيين من جهة أخرى متصفة بطابع الشد والجذب الذي عادةً ما يؤول إلى معركة لكسر الإرادات تنتهي عادةً بإخضاع المدنيين لإرادة المؤسستين العسكرية والمخابراتية.. النموذج التركي، يحوي أبلغ الأمثلة لتبيين جانب من تفاصيل معركة كسر الإرادات التي عادةً ما تنشأ بين الساسة والمؤسسات العسكرية والأمنية.. فخلال مراحل تاريخية منقضية، لجأ الجيش التركي إلى تنفيذ انقلابات عسكرية على حكومات منتخبة شعبياً تحت ذرائع من بينها حماية النظام العلماني والحيلولة دون تجاوز أسسه التي حددها مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك عاهداً إلى الجيش بحمايتها.. في الواقع، لم تكن معظم القرارات الانقلابية للجيش التركي نابعة من الحرص على علمانية الدولة بقدر ما كان للمسألة علاقة بحماية سلطة ونفوذ الجيش والمخابرات. الحالة اليمنية تبدو أكثر تعقيداً من الطرح التنظيري الوارد بعاليه، فهنالك مؤسستان عسكريتان وأمنيتان تتنازعان منذ عقد زمني منقضٍ سلطات الإدارة التنفيذية للدولة في إطار قيادة سياسية واحدة إبان حكم صالح.. ورغم أن إحدى المؤسستين في أواخر العهد الصالحي (الحرس الجمهوري والأمن القومي) استحوذت على مقاليد الإدارة والسيطرة على حساب المؤسسة القديمة (الفرقة الأولى مدرع والأمن السياسي) إلا أن هذه الأخيرة ظلت محتفظة بهامش واسع من القدرات والنفوذ بصورة تؤهلها للعودة إلى موقع القيادة والسيطرة حين تتهيأ الأجواء لذلك.
صراع الرأسين الحاكمين عقب الافتراق البائن بين المؤسستين إثر اندلاع ثورة الشباب السلمية، بدا الأمر وكأن الدولة قد انشطرت الى رأسين سلطويين، ورغم أن جهاز الأمن السياسي الذي يعد مع شقيقه القومي بمثابة (قلب الدولة) ظل يحاول الاحتفاظ بهامش من الحياد الظاهري، إلا أن جل تفاعلاته وأنشطته وتوجهاته جعلته أقرب ما يكون إلى قوى الثورة، ليبدو المشهد وكأن دولتين تتصارعان في إطار أجواء ثورية ملتهبة، لمزيد من الفهم هنا يمكن العودة إلى مقال سابق كتبته في (حديث المدينة) تحت عنوان: بين المركزين المقدس والمصغر، هكذا يحكم الرئيس دولتين معاً..!! خلال يوميات الصراع بدا أن ثمة اختلافاً في التموضعات، فالجمهوري والقومي كانا يهيمنان بشكل مطلق على صناعة معظم القرارات السياسية والعسكرية في الفريق السلطوي، لاسيما عقب غياب صالح إثر حادثة النهدين.. أما في الفريق الثوري، فلم يكن القرار حكراً على الفرقة والسياسي، بل ظل محكوماً بموافقة الحلفاء في المشترك وباقي المكونات الثورية الفاعلة.. القرع الصاخب لأجراس الحرب، ظل يؤشر على أن سلطة ما بعد الصراع ستؤول إلى المؤسسة العسكرية والأمنية المنتصرة، غير أن التوقيع على اتفاقية الرياض (المبادرة الخليجية) أدى إلى تقويض احتمالات الوصول إلى هذا المآل متسبباً في فتح طريق سلمي لإعادة تشكيل النظام الحاكم. رغم أن اتفاقية الرياض دفعت بالمؤسسات المدنية (الحزبية) إلى واجهة الأحداث كقيادة سياسية ائتلافية للبلاد، إلا أن حضور المؤسستين المنقسمتين ظل واضحاً في عناوين المشهد وتفاصيله، وهو ما أدى لتخليق انطباع باستحالة تمكن المؤسسات المدنية الحزبية من إدارة البلاد وبناء دولة مدنية حديثة دون إخضاع المؤسستين العسكريتين والأمنيتين لسلطة الرئيس هادي وفريقه السياسي المتكون من الائتلاف الحزبي الحاكم.
إعادة التشكيل والدمج إعادة هيكلة القوات المسلحة وأجهزة المخابرات، عملية لايمكن حصرها في قرارات إقالة رئاسية لرجال الصف الأول فيها. واقع الانقسام والاستقلال الذاتي والقيادي لكل مؤسسة يفرض إعادة تشكيلها وتنظيمها ودمجها بصورة تضمن توحيدها أولاً وإخضاعها للسلطة المدنية (الحكومة) ثانياً. أبرز التعقيدات الماثلة تتلخص في التبعية الهيكلية لهذه المؤسسات، فباستثناء الفرقة الأولى مدرع التي تتبع وزارة الدفاع هيكلياً، نجد أن المؤسسات الثلاث الأخرى المتمثلة في الحرس الجمهوري والأمن القومي والأمن السياسي ترتبط جميعها برئاسة الجمهورية هيكلياً.. واقع كالذي بعاليه، يجعل من المستعصي على المؤسسات المدنية (الحزبية) الحاكمة القيام بأي دور حقيقي في إدارة شؤون البلاد لكون هذه المؤسسات السيادية التي هي عبارة عن (قلب الدولة وأذرعها التنفيذية) لا تخضع لسلطة الائتلاف الحزبي الحاكم (الحكومة).
مؤسسات بسيادة ذاتية مستقلة! في حالة الحرس الجمهوري مثلاً، هنالك ما لا يقل عن (37) لواء عسكرياً بقوام تقديري يتجاوز (75) ألف مقاتل وعتاد تسليحي واستراتيجي كبير. جيش متكامل العدة والعتاد والبنيان كالحرس الجمهوري يصعب أن يظل بعيداً عن سلطة وإشراف وقيادة وزير الدفاع والقائد التنفيذي للجيش اليمني (رئيس هيئة الأركان العامة).. ومع أن الفرقة الأولى مدرع بألويتها العسكرية المنتشرة في أنحاء متفرقة من الجمهورية تتبع هيكلياً لقيادة المنطقة العسكرية الشمالية الغربية ووزارة الدفاع، إلا أن هذه الأخيرة لاتملك سلطة فعلية في إدارة شؤون الفرقة وقيادتها. الآمنين القومي والسياسي هما الآخران لا يخضعان نهائياً لسلطة وزير الداخلية، بل يتبعان (صورياً) لرئاسة الجمهورية، في حين أن (الواقع) يؤكد أن كلاً منهما عبارة عن سلطة أمنية تتمتع بسيادة ذاتية وفردية، بعيداً عن رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية.
بدلاء على مقاعد الاحتياط خطوة دمج المؤسسات ستجسد ضرورة حتمية خلال مراحل إعادة الهيكلة، فالجيشان (الحرس والفرقة) يجب أن يعاد تنظيمهما ودمجهما في تشكيلات عسكرية موحدة تحت قيادة وإشراف وزير الدفاع.. جهازا المخابرات (القومي والسياسي) يسري عليهما الأمر ذاته؛ إذ لابد من دمجهما وإعادة تنظيمهما في جهاز مخابرات واحد يخضع لسلطة وزير الداخلية ورقابة مجلس النواب.. على أن خطوة الدمج المفترضة لايمكن تنفيذها دون القيام بسلسلة من الإقصاءات الإجبارية لقيادات الصف الهرمي الأول كتمهيد لمرحلة الدمج وإعادة التشكيل.. الحديث عن إقصاء قادة المؤسسات الأربع يستجلي بالضرورة علامات استفهامية حول البدائل الافتراضية التي يمكن إحلالها في قيادة هذه المؤسسات. بعض التوقعات رجحت أن تتم عمليات الإقالة والتعيين كالتالي: إحلال اللواء أبوبكر الغزالي رئيس أركان الحرس الجمهوري كبديل لأحمد علي عبدالله صالح في قيادة الحرس الجمهوري، واللواء الظاهري الشدادي نائب قائد المنطقة الشمالية الغربية كبديل للجنرال علي محسن الأحمر في قيادة الفرقة والمنطقة، والعميد أحمد درهم وكيل قطاع الأمن الداخلي في جهاز الأمن القومي كبديل لعمار محمد عبدالله صالح في قيادة جهاز الأمن القومي، والعميد محمد رزق الصرمي كبديل للجنرال غالب مطهر القمش في قيادة جهاز الأمن السياسي، وفق المعطيات ثمة ما يشير إلى أن الرئيس هادي لن يلتزم باختيار البدلاء من أبناء هذه المؤسسات على طريقة الاستلام والتسليم بين الجيلين الأول والثاني؛ إذ يمكن أن تتم تعيينات مخالفة تماماً لآنف التوقعات. كاستدراك تكميلي يصعب القول إن إعادة الهيكلة ستقتصر على المؤسسات الأربع الفائت عرضها؛ إذ هنالك مؤسسات يجب أن تشملها إعادة الهيكلة وبالأخص القوات الجوية والدفاع الجوي والأمن المركزي والقوات الخاصة والحرس الخاص، وهو ما يعني أيضاً إقصاء قيادات هذه المؤسسات وتعيين قيادات جديدة كخطوة أولى على طريق إخضاعها لسلطة الوزارتين (الدفاع والداخلية).
تشبيك غير مجدي لاتبدو الولاياتالمتحدة مهتمة بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بقدر اهتمامها بالتنسيق والتشبيك مع القادة الصوريين لهذه المؤسسة، فمثلاً ثمة تعويل أميركي كبير على الجنرال أحمد علي الأشول رئيس أركان الجيش اليمني في تنفيذ معظم الأجندة العسكرية وخصوصاً ما يتعلق منها بملف الصراع العسكري مع تنظيم القاعدة، من واقع لقاءات ثنائية انتهى الأميركيون إلى قناعة مفادها أن رئيس هيئة الأركان العامة هو الأكثر تأهيلاً لإدارة هذا الملف خصوصاً وملف الجيش اليمني عموماً، المعطيات تشير إلى أن الأشول رغم أنه بحكم موقعه يعد قائداً تنفيذياً للجيش اليمني إلا أنه لايستطيع تحريك كتيبة عسكرية دون موافقة القادة الفعليين للمؤسستين العسكريتين المنقسمتين، كما أن أكثر من نصف الجيش اليمني وتحديداً الحرس الجمهوري لايمتثل مطلقاً لتوجيهات رئاسة الأركان ووزارة الدفاع لكونه أي الحرس الجمهوري يتبع القائد الأعلى للقوات المسلحة بصورة مباشرة، في الواقع: لايبدو أن الاميركيين يريدون التعاطي بجدية مع الحقيقة الساطعة التي تؤكد أن جميع القيادات الصورية بوزارة الدفاع لايستطيعون تنفيذ أي أجندة تخص الجيش مالم تتم أعادة هيكلته أولاً بصورة تضمن أخضاعه للوزارة ورئاسة الأركان، بالتالي يمكن القول إن أي تنسيق أو تشبيك لإدارة وترتيب الجيش اليمني يصعب أن يحقق غاياته قبل الشروع في إعادة الهيكلة.
وماذا بعد بقرار جمهوري يمكن للرئيس هادي أان يشرع في إعادة هيكلة الجيش وأجهزة المخابرات ويقيل جميع قادة هذه المؤسسات، غير أن إصدار قرار كهذا يظل أكثر تعقيداً مما يبدو عليه الأمر.. هادي لم يأت إلى كرسي الرئاسة في ظروف طبيعية لكي تتاح له سلطة التصرف الأحادي دون الرجوع إلى مكونات الطيف السياسي الحاكم. تموضعه الراهن كمنفذ للاتفاقية (المبادرة) ورئيس توافقي يفرض عليه إجراء سلسلة من التفاهمات مع أطراف العملية السياسية بموازاة الحصول على إسناد المجتمع الدولي قبل المضي قدماً في إعادة الهيكلة واتخاذ قرارات الإقالة والتعيين.. بوسعه التصرف كرئيس شرعي منتخب وقائد أعلى للجيش ويقدم على اتخاذ قرارات شجاعة بالإقالة والتعيين، غير انه وفق راهن المعطيات لن يقوم بذلك دون إجراء فاصل من الحسابات الدقيقة والمعقدة.. ثمة من يرجح لجوءه لاتخاذ قرارات إقالة وتعيين بحق قادة الألوية في (الجيشين والأمنين) كخطوة على طريق إقالة الرؤوس الكبيرة، غير أنه مهما أمعن في التروي والتأجيل وأوغل في الحسابات وتحاشى فعل التصادم مع الرؤوس الكبيرة فسيصل إلى قناعة مفادها أن تحقيق مشروع الدولة المدنية الحديثة لايمكن أن يتم دون العبور عبر بوابة إعادة هيكلة الجيش والمخابرات وكفى!