- كيف تمكن بضع مئات من المتظاهرين غير المسلحين من اختراق الإجراءات الأمنية لواحدة من أكثر السفارات تحصينا في العالم؟ - كان المحتجون يصرخون قبالة الجنود الذين كانوا يحدقون إليهم.. ثم وبدون مقاومة كبيرة، سار المتظاهرون بخطوط مستقيمة صوب السفارة.. وكرجل محترم يفتح الباب لسيده، تراجع الجنود.. وساروا معهم، حتى أن بعضهم كان يبتسم.. - علاقة يحيى صالح بالسفارة الامريكية وطيدة جدا.. وهو حتى الآن نجح في تفادي الكثير من التأثيرات المترتبة على التغييرات الأخيرة: حتى اللحظة لم تقوض أو تضعف سلطته سواء بإقالته من منصبه أو بنقله إلى موقع أقل. - لأن فرص «يحيى» المستقبلية في الحفاظ على موقعه القيادي، تبدو ضئيلة جداً. ولأن الرئيس السابق ما زال يعيش في وسط صنعاء، فإن الحضور وتأثير عهده الطويل على مدى 33 عاما سيبقى أيضا.. - التواطؤ الأمني الأخير ليس جديداً فهو أشبه بذلك السابق، قبل عام، حين حاصر غوغائيون يتبعون النظام، دبلوماسيين أجانب في السفارة الإماراتيةبصنعاء وسط تجاهل واضح لهم من قوات الأمن.. - مؤخرا أصبحت علاقة هادي مع واشنطن أقوى من سلفه.. ما يجعل أي تقويض لتلك العلاقة، على شاكلة الهجوم الأخير على السفارة، من الممكن أن تلعبه تلك الأيدي التابعة لصالح، وبشكل خاص يحيى، كون موقعه في الجيش اليمني يعتبر مهدداً وفقاً لمخططات هادي الجارية لإعادة الهيكلة. - الشائعات هنا ترفع تلك الفوضى التي تم توقيتها إلى حد ما توقيتا جيدا، لتبدو غطاء مثاليا للتدخل المستمر لصالح في مرحلة التحول السياسي الهشة التي تمر بها اليمن..
كتب: أيونا كريج * الخميس 13 سبتمبر، حينما كان الدخان الاسود يتصاعد نحو السماء فوق السفارة الامريكيةبصنعاء، كان المحتجون قد تمكنوا، عبر الفؤوس والمعاول المختارة بعناية، من تحطيم النوافذ الزجاجية السميكة للمدخل الرئيسي من مكتب الإجراءات الأمنية. وعلى وقع صرخة «الموت لأمريكا!» أحرق الحشد الغوغائي الغاضب العلم الاميركي وأضرموا النيران في سيارات الدفع الرباعية الموجودة داخل المبنى الذي يفترض أنه يخضع لحراسة مشددة. بيد ان ثمة أمراً لم يكن منطقيا بالمرة: كيف تمكن بضع مئات من المتظاهرين غير المسلحين من اختراق الإجراءات الأمنية لواحدة من أكثر السفارات تحصينا في العالم؟ تبدأ الإجابة على هذا السؤال برمينا إلى المحيط الخارجي للطوق الأمني وعند الحواجز الإسمنتية الموجودة في الشوارع القريبة والمحيطة بالسفارة الامريكية. فحينما وقف المتظاهرون يهتفون أمام الكتل الخرسانية المنخفضة التي صممت لإيقاف المركبات المقتربة من المبنى، كان الجنود التابعين لقوات الأمن المركزي اليمني، يحدقون نحوهم، بلباسهم العسكري المموه، والقبعات الزرقاء، والمصفحات الحديدية البرتقالية والزرقاء الساطعة المميزة. ورشاشات «الدوشكا» الآلية من عيار 50 المثبتة على ظهر المركبات العسكرية الصغيرة، كانت تقف تحت مظلات واقية من حرارة الشمس، على نحو تهديدي في مواجهة الحشود الغوغائية. ثم، ودون مقاومة كبيرة من الجنود، سار المتظاهرون بخطوط مستقيمة على الرغم من الفجوات في ما بين الكتل الإسمنتية المخططة بالأصفر والأسود. وكرجل محترم يفتح الباب لسيدة، تراجع الجنود، مع أسلحتهم من نوع AK-47s والمتدلية من على أكتافهم، تاركين الحشود الغوغائية الهاتفة تمر من بينهم بسلاسة. وبينما كانت الحشود الغوغائية الغاضبة تزحف متقدمة أكثر صوب مبنى السفارة نفسه، سار الجنود معهم، حتى أن بعضهم كان يبتسم. قوات الأمن المركزي اليمنية، التي أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ما تزال تحت قيادة ابن أخيه العميد يحيى صالح، الذي يتمتع منذ سنوات بعلاقة دافئة مع السفارة الامريكية هنا في صنعاء. كما أن قوات مكافحة الإرهاب التي دربتها ومولتها الولاياتالمتحدة تقع هي الأخرى تحت قيادته. وكانت تلك العلاقة واحدة من أوثق وأهم العلاقات في استراتيجية الولاياتالمتحدة لمكافحة شبكة القاعدة في البلاد سيئة الصيت. وفبراير الماضي، في ذلك اليوم عندما سلم عمه السلطة إلى رئيس البلاد الجديد، عبدربه منصور هادي، في دار الرئاسة، كان يحيى والسفير الامريكي جيرالد فيرستاين، يحضنان بعضهما البعض كصديقين قديمين. ومع الضحكات والمصافحة الحارة الطويلة، شبكا مرفقي بعضهما البعض وسط الغرفة المكتظة بكبار الشخصيات وحشد من وسائل الإعلام المحلية والدولية. وعلى أية حال، منذ فبراير، بدأت بعض القضايا تشهد تغييرات بطيئة داخل قوات الأمن اليمنية. وأضعفت الشبكة العائلية – الممتدة والقوية للقيادات - التي خلقها الرئيس اليمني السابق. وكانت المراسيم (القرارات) الرئاسية التي أصدرها هادي، والتي صدرت خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، قد حولت قادة عسكريين إلى مواقع أقل وغيرت من الاصطفافات (الانحيازات) للقيادة القديمة داخل القوات المسلحة المنقسمة في البلاد. وخلال عام من الاضطرابات السياسية، انقسم الجيش اليمني بعد المجزرة التي راح ضحيتها 53 محتجاً، والتي وقعت في 18 مارس، 2011، داخل ساحة التغيير في صنعاء. وهي المجزرة التي أدت إلى انشقاق اللواء علي محسن الأحمر، أحد القادة الأقوياء في البلاد، والذي رمى بثقل فرقته الأولى المدرعة وراء حركة الاحتجاج المناهضة للصالح. وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس صالح في يونيو 2011 غادر الرئيس المصاب إلى المملكة العربية السعودية المجاورة نظرا للحاجة الملحة لتلقي الرعاية الطبية هناك، وفي النهاية تبادل طرفي الجيش المنقسمين الضربات فيما بينهما. وفي سبتمبر، عندما بلغت أعمال العنف ذروتها، بدت الحرب الأهلية كأن لا مفر منها تقريبا. لكن وعلى الرغم من أن عودة صالح المفاجئة بعد ذلك إلى صنعاء، كان من شأنها ان تؤدي إلى المزيد من نوبات القتال، إلا انه وافق أخيرا على التنحي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وتسليم السلطة إلى نائبه منذ فترة طويلة، عبده ربه منصور هادي. وبدت التغييرات الجذرية في بنية الجيش اليمني كأنها ضرورية لعملية الانتقال السياسي والإبقاء على وريثه. بيد انه لم يكن انتقالا سهلا: ففي أبريل 2012، عندما رفض الأخ غير الشقيق لصالح وقائد القوات الجوية الجنرال محمد صالح الأحمر، التنحي، وصلت شاحنات صغيرة مليئة بالمسلحين، إلى مطار صنعاء محتجة على إقالته، وفرضت إغلاق المطار بالقوة، والذي يستخدم أيضا كقاعدة رئيسية للقوات الجوية اليمنية. وحتى الآن، نجح يحيى إلى حد كبير في تفادي الكثير من التأثيرات المترتبة على التغييرات الأخيرة: فهو حتى الآن لم تقوض أو تضعف سلطته عبر إما إقالته من منصبه أو بنقله إلى موقع أقل، وذلك على عكس ابن عمه طارق صالح (يقصد شقيقة)، الذي كان سابقا يرأس الحرس الرئاسي، وقرر أن يتقاعد بدلا من قبول وظيفة جديدة بموجب الإصلاحات التي قام بها هادي. لكن فرص يحيى المستقبلية في أن يظل محافظا على موقعه القيادي، تبدو ضئيلة جدا. بيد أن العشائر الحاكمة في اليمن لا تسقط دون قتال؛ الكثير هنا توقعوا، وما زالوا يتوقعون أيضا، رد فعل عنيف من عائلة صالح. ولأن الرئيس السابق ما زال يعيش في وسط صنعاء، فإن الحضور وتأثير عهده الطويل على مدى 33 عاما سيبقى أيضا. إن التواطؤ بين قوات الأمن وعائلة صالح في أحداث يوم الخميس عند السفارة الامريكيةبصنعاء لم تكن هي الحادثة الأولى من نوعها. فلقد حملت الاحتجاجات التي وعلى افتراض أنها كانت عفوية، شبها واضحا لحصار إحدى السفارات في صنعاء العام الماضي والتي يعتقد الكثيرون أنها كانت مدبرة أيضا لإثبات النقطة ذاتها. وسط تلك الاحتجاجات المتزايدة في صنعاء، في 22 مايو، 2011 – وهو اليوم الوطني في اليمن للاحتفال بالوحدة مع الجنوب – كان المجتمع الدولي يتوقع أن يوقع علي عبد الله صالح على اتفاقية مجلس التعاون الخليجي التي من شأنها أن تحمله على تسليم السلطة. وبينما كان الدبلوماسيين الأجانب بصنعاء مجتمعون بفارغ الصبر داخل مبنى سفارة الإمارات العربية المتحدة، إذا بحشد غوغائي غاضب يصل إلى خارج السفارة. وفي الاحتجاج الذي على ما يبدو أنه كان ردا على وضع حد لرئاسة علي عبد الله صالح، كان الرجال الذين يحملون أسلحة من نوع AK-47s والخناجر اليمنية التقليدية، الجنبية، يفرضون حصارا على السفراء في الداخل. في النهاية كان التجاهل الصارخ للأمن الخارجي، من خلال الجنود الذين فضلوا إيلاء انتباههم في الاتجاه الآخر [تعمد التجاهلٍ]، هو الأمر الذي جعل مثل هذا الحدث ممكنا. لم ينته الحصار إلا عندما قام صالح ببسالة بإرسال مروحياته لسحب كبار الشخصيات الأجنبية من سطح المبنى في مهمة إنقاذ متسلسلة. السيناريو كله كان اشبه بمشهد سينمائي مكتوب من شأنه حتى أن يضع هوليوود موضع سخرية كونه ليس إلا عملا مبالغ به. ومع ذلك فتلك كانت مؤامرة صالح الكلاسيكية. وإن هي إلا ستة أشهر أخرى مرت، تحت الضغوط المتزايدة وبعد الحرب الشاملة التي اندلعت في العاصمة، قبل أن يتخلى ويوقع – في نهاية المطاف- على اتفاقية نقل السلطة. في نظر واشنطن فإن علاقة هادي مع الولاياتالمتحدة قد ثبت بالفعل بكونها أقوى من تلك التي كانت مع سلفه. وفي خطاب له في أغسطس، تباهى جون برينيان مساعد الرئيس الامريكي لمكافحة الإرهاب بكون تلك العلاقة أفضل من أي وقت مضى، قائلا: «منذ أن تولي الرئيس هادي الرئاسة، هناك تصميم جديد، وتجانس جديد من ناحية ما تقوم به الحكومة اليمنية بشأن مكافحة الإرهاب». وإن أي تقويض لتلك العلاقة، على شاكلة الهجوم الذي تم توقيته جيدا على السفارة الامريكية، من الممكن أن تلعبه تلك الأيدي التابعة لصالح، وبشكل خاص يحيى، كون موقعه في الجيش اليمني يعتبر مهددا عطفا على مخططات هادي الجارية لإعادة الهيكلة. وبعد مشاهد الخميس في شمال شرق العاصمة، فحتى الرئيس هادي نفسه لم تفت عليه ملاحظة تلك السهولة التي كان المتظاهرون معها قادرين على اختراق الإجراءات الأمنية. وفي بيان الاعتذار الذي صدر منه للولايات المتحدة وباراك أوباما، أضاف هادي بأن اقتحام مبنى السفارة الامريكية «سلط الضوء على أن الانقسامات الحاصلة بين الأمن وقوات الجيش اليمنية... ساهمت في تضخيم الحادث». وفي اليمن تكثر نظريات المؤامرة، المعززة بفعل نظام غامض أمضى ثلاثة عقود طويلة في الحكم، وكذا بفعل الصحافة الحزبية والمستقطبة بشكل كبير. والشائعات ترفع تلك الفوضى التي تم توقيتها إلى حد ما توقيتا جيدا، لتبدو غطاء مثاليا للتدخل المستمر لصالح في مرحلة التحول السياسي الهشة التي تمر بها اليمن. هذا جيد، طالما أن ذلك لا يخرج عن نطاق السيطرة.
* نشرت المادة في مجلة Foreign Policy (الأمريكية) - بتاريخ الجمعة 14 سبتمبر 2012. * الصورة لاقتحام السفارة الامريكيةبصنعاء (تصوير: محمد حويس - AFP).