إن وجود امرأة نابغة في الرياضيات أو الفيزياء أو في أي علم من علوم المعرفة يناقض طبيعة المرأة بنفس الدرجة التي يستحيل معها أن نجد امرأة عندها لحية. من يصدق أن صاحب هذه المقولة ليس شرقياً متمسكاً بالفكر المحافظ بل هو عالم فلك ورياضيات اسمه فرديناد موبيوس من أعماق الغرب من مدينة لايبزج الألمانية، ولكن ما توصل إليه بحنكته وثاقب نظرته في عام 1896 أثبتت الأيام أنه هراء لا مكان له إلا في كتب النوادر والفكاهات، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن تفوق الطالبات في كثير من فروع المعرفة ليس مناقضاً لطبيعتها بل إنه على العكس من ذلك يتفق معها تماماً.
حين قرأت هذه المقولة تذكرت حكاية واقعية حدثت أيام الدراسة في المرحلة الثانوية بين معلم الفيزياء وإحدى الطالبات، والشاهد من هذه الحكاية أن معلم الفيزياء كان يحمل نظرة قاصرة وثقافة سطحية عن اليمن وقدرات أبنائه وبناته مما جعله يبالغ في نقد الأوضاع وخاصة وضع التعليم بمقدار ما كان يحمله العالم الألماني من فكر مغلوط حول طبيعة المرأة وقدراتها.
الشاهد من هذه الحكاية أن زميلتنا العزيزة أثبتت لمعملنا الفاضل قصر وعيه حول اليمن وحضارته وتفوق أبنائه بقدر ما أثبتت الدراسات الحديثة هلامية ووهن ما كتبه العالم الألماني؛ وإليكم الحكاية: كنا في الصف الأول الثانوي حين كانت حرب الخليج الأولى قد أجبرت معلم الفيزياء -عراقي الجنسية- على الخروج والعمل في اليمن، ظل معلمنا لفترة طويلة غير راضٍ بما حل به من تغيير في نمط حياته، وأصبح أسير التفكير الدائم بالعراق، فما أن ندخل في درسٍ ما إلا وقارن بين اليمن والعراق، وما أن نتحدث في موضوع من المواضيع إلا ومجّد بلده وانتقد أوضاع اليمن بطريقة استعلاء ونظرة نرجسية.
طالما كُنّا نجادله ونختلف معه بالرأي قلنا له: "إن اليمن كغيره من بلدان العالم الثالث لديه الكثير من الأوضاع المتخلفة إلا أن هذا لا يعني أن تطلق أحكامك الجزافية وتعمم نظرتك السوداوية، اليمن كغيره قادر على تجاوز التخلف ومواكبة التطور في وقت مناسب"، إلا أن معلمنا ظل على حالته في النقد والمعاتبة لنا داخل الفصل وخارجه وربّما أن حالته النفسية كانت وراء هذا التحامل الزائد.
أتذكر من ضمن ما كان يقوله: (أنا عراقي، أنتو أبو يمن متخلفين، ما عندكم تعليم، من يوم دخلت اليمن ما شفت شيء جميل، شنوا هذه الحياة، أنتو يا أبو يمن غشاشين، تعرفون العراق وصل إلى التقدم في البينة التحتية وصناعة الأسلحة لأن العراقيين احترموا التعليم ما غشوا، شنوا تغش مستحيل، عندنا الغش زي عندكم الشرف).
وفي ذات يوم دراسي كانت زميلتنا المعروفة بتفوّقها في الفيزياء والرياضيات قررت أن تضع حداً لتجاوزات معلمنا، رفعت يدها أثناء الشرح مستأذنة، وقالت له إن لديها عدداً من المسائل في الفيزياء والرياضيات سبق له أن حلها بطريقة خاطئة، وآخر هذه المسائل ثلاث مسائل في الفيزياء حلها اليوم بطريقة خاطئة، وما كان منه إلا أن قام بكتابة المسائل على السبورة مرة أخرى، وطلب منا إعادة حلها من جديد، تعددت الحلول، واختلفنا طلاب وطالبات عن الحل الصحيح، وأوكلنا مهمة فصل الخطاب لمعلمنا، وإذا به يخفق في حل هذه المسائل، أخذت زميلتنا الطبشور وقامت إلى السبورة تبين لمعلمنا الأخطاء وتشرح له ولنا كيفية الوصول إلى الناتج الصحيح.
في مشهد دراميٍ مخجل وحزين وقف معلمنا مرتبكاً عضّ بأسنانه على طرف معطفه، وهو يتمتم بكلمات تفيد بتخليه عن غروره، قالت: "تهزمك حرمة يا ماجد..؟ تهزمك حرمة يا ماجد..؟ لكن في العلم ما هو عيب، عفواً أبو يمن، صحيح الإيمان يمان والحكمة يمانية".
ترددت بيننا -معشر الطلاب والطالبات- ضحكات ساخرة، وساد همس الكلام تشفياً ونكاية بمعلمنا، وإذا به وقد أخذ عصاته الغليظة وأمرنا -نحن الطلاب- بالوقوف، وطلب منا فرد أيدينا، بدأ الجلد بقسوة شديدة كان يجلدنا وهو يردد هذه العبارة (لو عرف أبونا آدم كان طلق أمنا حواء .. لو عرف أبونا آدم كان طلق أمنا حواء).