ظلت الصحافة اليمنية على مدى سنوات مضت, يتصدر عناوينها بين فترة وأخرى الشطر الثاني من بيت شهير لأمير شعراء العرب محرفاً "كاد المعلم أن يكون (قتيلا)", لكن الأمر في السنوات الأخيرة يفرض تحريفاً أوسع, حتى "صار المعلم قتيلا" كواقع مُخجل. تسود أجواء من العنف في سماء العملية التعليمية وتتسرب تفاصيله الخطيرة إلى داخل أسوار محاضن التربية وخارجها, وتطفو باستمرار على سطح حياتنا اليومية أخبار اعتداءات تصل حد القتل, غالب ضحاياها معلمون وإدارات مدرسية وتربوية, وأصابع الاتهام تشير إلى الطلاب وأولياء الأمور كجناة.
ومؤخراً.. انتقدت لجنة التعليم العالي والشباب والرياضة بمجلس النواب "دخول الطلاب في بعض الكليات بالجنابي والمسدسات", وذلك في تقرير لها ختمت به زيارات ميدانية لكليات جامعية مختلفة في محافظتي البيضاء وصنعاء, أغلبها كليات تربية يتخرج منها من يُفترض أنهم المعلمون والتربويون مستقبلاً.
ومتزامناً مع ذلك، وعلى بعد أمتار من مجلس النواب، كان أبناء محافظة ريمة ينفذون اعتصاماً أمام مجلس الوزراء احتجاجاً على عجز أجهزة الأمن عن ضبط قتلة تربوي بمديرية بني الحارث في العاصمة, وحصلت اللجنة التي شُكلت من وجاهات في المحافظة على توجيه من رئيس الوزراء لوزير الداخلية يُشدد فيه على "سرعة ضبط الجناة".
ودانت نقابة المهن التعليمية والتربوية "جريمة قتل التربوي رشيد الضيفي", التي يترتب عليها "حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في العملية التربوية والتعليمية, وإثناء المعلمين عن أداء رسالتهم السامية وواجبهم التربوي والتعليمي".
تصاعد وشروع بالقتل ورغم أن العام الدراسي لازال في فصله الأول, إلا أن حالات الاعتداءات التي وصلت أخبارها إلى الصحافة تبدو مقلقة, في حين أن اعتداءات كثيرة حُجبت أخبارها عن الصحافة لأسباب أهمها حسم الكثير منها عبر الحلول العرفية وبالطرق القبلية, أو صمت الضحايا حفاظاً على سمعتهم في مجتمع قبلي محافظ يعتبر كشف شخص عن اعتداء تعرض له "من نواقص الرجولة".
ومنتصف ديسمبر 2009 وجد المعلم محمد البعداني نفسه مجبراً على تلقي العلاج في المستشفى والرقود لأيام عديدة على أحد أسرته بعد الاعتداء عليه من قبل عصابة (7 أشخاص) بالضرب المبرح حد الإغماء داخل ثانوية قتيبة بن مسلم بمدينة دمت بالضالع لأنه عاقب طالباً أثناء طابور الصباح ضرباً بالعصا.
ووفق بلاغ إدارة المدرسة, فقد اعتدت العصابة على المعلم في أجزاء مختلفة من جسده مستخدمين "أدوات حادة قاتلة قاصدين قتله في ساحة المدرسة حتى أغمي عليه وسالت الدماء من رأسه بغزارة أمام طلابه".
واستنكرت نقابة المعلمين بدمت الاعتداء الذي اعتبرته "عملاً إجرامياً يمس كافة المعلمين ويسيء للعملية التعليمية والتربوية برمتها", ودعت "السلطات الأمنية إلى سرعة إلقاء القبض على المعتدين وتقديمهم للعدالة ليكونوا عبرة لغيرهم حتى لا يتمادى الآخرون من ذوي النفوس المريضة في الاعتداء على معلمي الأجيال".
ظاهرة مقلقة الاعتداءات على المعلمين والمسؤولين والموظفين في إدارات المدارس ومكاتب التربية والتعليم صارت " ظاهرة مقلقة رغم أنها ليست جديدة في اليمن", يؤكد نقيب المعلمين أحمد الرباحي, ويستدرك "لكنها في السنوات الأخيرة زادت اتساعاً".
ويرجع الرباحي في حديث خاص مع "المصدر أونلاين" ذلك لعوامل مختلفة أهمها "أنها انعكاس للوضع العام في اليمن, حيث الانفلات الأمني والفوضى وعدم الالتزام بالنظام والقانون من قبل السلطة والمجتمع على حد سواء".
وأضاف: "هناك اختلال قيمي في المجتمع لدى الطلاب وأولياء الأمور (الآباء), سببه انحسار أهمية التعليم في نفوس الأجيال, وبالتالي ضعف الاحترام للمعلم وتقديره".
غير أنه يعود للتأكيد أنها "قيم دخيلة على المجتمع اليمني وهو ليس الوحيد في العالم العربي" في ذلك, ويحمل وسائل الإعلام والكثير مما تبثه خاصة في الأعمال الدرامية جزءاً من المسئولية عبر تقديم المعلم بصورة سيئة.
ويشير نقيب المعلمين إلى أن من أسباب تصاعد الظاهرة "أوضاع المعلمين والتربويين المتردية اجتماعياً ومادياً", ويلفت إلى أن المعلم كان يتمتع بالكثير من الاحترام والتقدير من قبل المجتمع, حيث كان يقوم بأدوار إضافية بجانب وظيفته فكان "مصلحاً اجتماعياً، وإماماً دينياً، وشخصاً يتمتع بالتأثير في المجتمع والوجاهة"، وهو ما افتقده معلم العاصر الحاضر.
ويتابع: "كان أداء المعلم في العقود الماضية أفضل, فحالياً تحولت مهمته ودوره إلى مجرد وظيفة يمارسها بصورة جامدة مع ما يصاحبها من ضعف في الأداء".
اضطرابات سلوكية وخلصت دراسة ميدانية إلى وجود 10 أنماط من الاضطرابات السلوكية في أوساط طلاب وطالبات مرحلة التعليم الأساسي بمدينة عدن التي تعد أكثر مناطق اليمن مدنية وتحضراً ومن النادر حدوث اعتداءات على المعلمين فيها.
وأوضحت الدراسة التي اعتمدت السيرة والسلوك في المدرسة كمقياس أن النتائج أظهرت أن نسبة الغش بين صفوف الطلاب بنين وبنات فاقت 66%، ووصلت نسبة عدم القدرة على التركيز إلى نحو 55%، ونسبة العدوان بلغت نحو 42%، أما أنماط الكذب والأنانية والسرقة فقاربت نسبتها 39% لكل نمط، فيما بلغت نسبة الهروب من المدرسة 37%، والعناد حوالي 35%، وعدم النظام 34%، وعدم التعاون 31% تقريباً.
وأشارت الدراسة إلى وجود فروق بسيطة غير جوهرية بين البنين والبنات ما عدا اضطراب الأنانية, مؤكدةً أن أسباب ما تصادفه فئة الطلاب من عواصف وتوترات تعود إلى العوامل المحبطة والصراعات المختلفة التي تعترض طريق الطالب أو الطالبة في الحياة الأسرية والمدرسية والاجتماعية.
ويتفق المدير العام المساعد للقناة التعليمية التابعة لوزارة التربية والتعليم محمد اليافعي في حديث خاص ب"المصدر أونلاين" مع نقيب المعلمين في أن تقاعس الجهات المختصة (الأمنية والتعليمية) كان له دور كبير في تصاعد حجم هذه الاعتداءات. ويؤكد: "المعلم والتربوي فقد كرامته ولا يجد من يدافع عنه, وكذلك فقد قدرته على السيطرة على الطلاب خلال العملية التعليمية وفي صفوف الدرس".
ويشير اليافعي، وهو يعمل أيضاً خبيراً في قطاع التدريب والتأهيل بالوزارة، إلى تعميم سبق أن أصدره وزير التربية والتعليم قبل سنوات يمنع على التربويين كافة (معلمين وإداريين) استخدام العقاب الجسدي مع الطلاب بأي صورة كانت. ويلفت إلى برنامج تدريبي لمناهضة العنف ضد طلاب المدارس من قبل المعلمين والإدارة المدرسية, تنفذه الوزارة بالتعاون مع منظمة اليونيسيف والمنظمة السويدية, ويضيف "قمنا بالتدريب للمعلمين والإداريين في غالبية المحافظات لتوعيتهم بماهية الوسائل البديلة عن العقاب الجسدي".
ومن خلال الواقع والتجربة في الميدان يؤكد اليافعي: "وجدنا أكثر المدرسين والإدارات المدرسية الذين تعرضوا لاعتداءات أنها كانت ردة فعل من قبل طلاب تم تعنيفهم إما جسدياً أو نفسياً".
ويتفق نقيب المعلمين معه بأن استخدام العنف من قبل المعلم ضد الطلاب وبالذات العصا يؤدي إلى نتائج عكسية لديهم تجاه معلميهم. وأضاف النقيب: "ونحن عادةً ننبه المعلمين والتربويين عموماً إلى عدم اللجوء للعنف ضد طلابهم".
الدخل سبباً غير أن نقيب المعلمين يؤكد من جديد أن للظروف الاقتصادية التي يعاني منها التربويون دور في ذلك, "لقد صاروا من أقل الفئات دخلاً وأسوأها معيشة, وتجد أن نظرة المجتمع للمعلم تختلف عن نظرته للطبيب الذي تعد ظروفه الاقتصادية أفضل مقارنة به". ويشير الرباحي إلى كثير من الاعتداءات التي كان ضحيتها تربويين أدى بعضها إلى القتل أو الإعاقة, ويضيف متحسراً " وللأسف تأتي أحياناً من نافذين ومسؤولين في الدولة". ويتابع –بأسف- "الكثير من هذه الحالات يتم حلها عرفياً, نظراً للتعقيدات في إجراءات القضاء, وهناك تقاعس من قبل الأجهزة الأمنية في ضبط المعتدين خاصة إذا كانوا نافذين ومسئولين ووجاهات اجتماعية أو قبلية، وهذا يشجع على بروز هذه الظاهرة في المجتمع".
والمبنى ضحية أيضاً لا يتوقف الأمر على الاعتداء الذي يصل للقتل أو الشروع فيه أحياناً, فحتى المحاضن التربوية تكون أحياناً أخرى عرضة للاعتداءات, فمنذ 20 ديسمبر2009، ولأيام عديدة، ظلت مدرستان بمديرية ردفان في محافظة لحج مغلقتين من قبل مواطن تعبيراً عن احتجاجه لعدم توظيف نجله, وفاءً بوعد قطعه له المجلس المحلي مقابل تنازله عن الأرض لبناء المدرستين.
وقبلها بأسابيع، كان 3 طلاب أظهرت نتائج الثانوية العامة فشلهم العام السابق, يعبرون عن غضبهم من نتيجة الفشل تلك من خلال إغلاق مدرستهم بمحافظة البيضاء ومنعوا الطلاب والمعلمين والإداريين من دخولها.
واستخدم الطلاب الفاشلون في عملية إغلاق المدرسة أدوات بدائية كالعصي والجنابي والأقفال, وأعقب جريمتهم تلك حضور مدير المديرية إلى المدرسة واستخدم العرف القبلي كأداة بدائية لاستمرار الدراسة. فقد "حَكَم" مدير المديرية ضد إدارة المدرسة ومدرسيها, وفق العرف القبلي, طالباً منهم العودة إليها اليوم التالي دون تصعيد للموقف، ووافق المغلوبون على أمرهم دون نقاش، واكتمل اليوم الدراسي دون تعليم أو كرامة للتعليم والمعلمين، أو حتى التفات للنظام والقانون.