أهرب من الأخبار غير السارة في صنعاء إلى دبي، حيث الأخبار الجيدة، ففي الأسبوع الماضي غيَّر مسؤولون حكوميون في دبي بعض قواعد العلاقة التقليدية بين الغرب والخليج، وذهبوا إلى بريطانيا ك«خبراء أجانب» بعيون سوداء وبشرة سمراء، لمساعدة لندن في استعادة دورها البحري القديم، عبر مشروع هائل، شعاره: «تغيير قواعد اللعبة». دعونا نبدأ القصة من البداية: في العام 1979 جاءت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية إلى دبي لافتتاح ميناء جبل علي في المدينة، وعند الافتتاح أشادت بالكفاءات البريطانية ودور لندن في مساعدة بلدان العالم الثالث وتزويدها بالخبرات اللازمة للنهوض، وبعد نحو عشر سنوات جاء مجموعة من التجار إلى الشيخ محمد بن راشد يطلبون منه الذهاب إلى والده الذي كان يحكم دبي، لإقناعه بعدم جدوى العمل في تطوير مشروع ميناء جبل علي، فهو يكلّف خزينة الدولة الكثير من الأموال، والحاجة ليست ملحّة لبنائه. يقول محمد بن راشد في الكتاب الذي أصدره مؤخراً بعنوان «ومضات من فكر»: « ذهبت إلى الوالد رحمه الله وطلبت منه ذلك، دار حديث قصير، وبعد صمت قال لي إنه يبني شيئاً للمستقبل».
في الزمن الراهن يعدّ ميناء جبل علي واحداً من أفضل عشرة موانئ في العالم، وهو الأول في الشرق الأوسط على مدى تسعة عشر عاماً، ويضم 150 شركة ملاحة، تقوم بنحو 96 رحلة أسبوعياً من وإلى أكثر من 115 ميناء حول العالم. وتدير شركة «موانئ دبي العالمية» إلى جانبه 60 ميناء حول العالم في القارات الخمس تستقبل 56 مليون حاوية سنوياً.
أعود إلى لندن، حيث ذهب أحمد بن سليم الذي يرأس مجلس الإدارة في موانئ دبي العالمية واشترى للشركة قطعة أرض ضخمة تصل إلى عشرة كيلو مترات بالقرب من لندن، تملّك حرٌ لدبي، وليست محدودة بثلاثين أو تسعين سنة. ثم وبخبرات إماراتية خالصة أنشأوا فيها أكبر مشروع ميناء ومنطقة حاويات لوجيستية في بريطانيا وأوروبا بحسب البيان الصادر من الشركة، وأطلقوا عليه «لندن غيت واي» الذي يعادل في مساحته أربعة أضعاف مساحة الوسط التجاري في مدينة لندن، وتم خلال هذا المشروع تعميق نهر التايمز على امتداد 100 كيلومتر، في عملية وصفت بأنها الأكبر من نوعها في تاريخ بريطانيا. وعندما جاء رئيس مجلس الوزراء البريطاني إلى موقع المشروع ونظر إلى الرافعة العملاقة بجواره نظر إلى الإماراتيين وقال مازحاً: يكفي أن هذه الرافعة هي أعلى من «عين لندن». وأضاف: «إن المشروع يفوق من حيث الأهمية مشروع الأولمبياد، وسوف يساهم في توفير فرص عمل كثيرة للبريطانيين، وسيعمل على تحقيق النمو الاقتصادي والتجاري للمملكة».
قصة التغيير التي حدثت خلال 34 عاماً بين كلمة الملكة البريطانية في جبل علي وكلمة ديفيد كاميرون في مشروع «لندن غيت واي» تلخص جانباً من القصة التي تجعلني أتحمس للحديث عن دبي كلما خذلتني الأحلام في صنعاء، ذلك لأنها نموذج جيد يستطيع أن يعطي الأمل لكثير من الشعوب في المنطقة بقدرتها على تحقيق ما تظنه صعب المنال، كما تشير في جانب كبير منها إلى أن هؤلاء الرجال القادمين من البيئة الصحراوية والبدوية استطاعوا بالمثابرة والإصرار والإخلاص إنجاز خطوات كبيرة وعملاقة في الاقتصاد والتنمية يتجاوز في بعض الجوانب الدول المتقدمة، بل ويحققون المرتبة الأولى على مستوى العالم في الكفاءة الحكومية، والرابعة في الأداء الاقتصادي، بحسب الكتاب السنوي للتنافسية العالمية 2013، الذي يعد أحد أهم التقارير العالمية لقياس مستوى تنافسية الدول، ويصدر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية في سويسرا.
القارئ اليمني ربما يسأل: «ألم يكن من الأفضل لموانئ دبي أن تستثمر في عدن بدلاً من لندن؟» والجواب هو: لا، وعندي من الأسباب ما يكفي، وأكتفي بواحد: وهو أن المسؤولين عن الشركة «يشتوا يطلبوا الله مش يدخلوا في شريعة»، وواحدة من الصفقات الضخمة التي جنوها من المشروع قبل تدشينه في الربع الأخير من العام الجاري كانت مع مجموعة «ماركس آند سبنسر» بقيمة تصل إلى 200 مليون جنيه استرليني.
بدأت بقصة من كتاب «ومضات من فكر» وأختم بقصة من الكتاب نفسه، يرويها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد: «في العام 1985 تواصلت معنا إحدى شركات الطيران التي كانت تستحوذ على 70 بالمئة تقريباً من الحركة الجوية في مطار دبي، طلبت منا الشركة أن نوقف سياسة الأجواء المفتوحة التي اعتمدناها وقتها، والتي كانت تقضي بأحقية أي شركة طيران بالعمل في مطار دبي، كانوا يريدون حماية حصتهم في السوق، بل وأعطونا مهلة أسابيع عدة للاستجابة، وإلا فإنهم سينسحبون من المطار الذي سيخسر 70 بالمئة من حركته، رفضنا طلب الشركة لسبب بسيط، لأننا نؤمن بأن المنافسة هي الأفضل لبلادنا، وليست الحمائية. أوقفت الشركة رحلاتها لمطار دبي، فاستأجرنا طائرتين، وأنشأنا شركة طيران في العام 1985 أسميناها طيران الإمارات».
كان يتحدث عن شركة طيران الإمارات التي هي اليوم ثالث أكبر شركة طيران في العالم ويضم أسطولها 197 طائرة تقلع نحو 1000 مرة في الأسبوع الواحد من مطار دبي إلى 130 وجهة عالمية منفردة.