[1] صُنّفت الآراء التي أدلى بها الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل حول الانقلاب الأخير إلى ثلاث أقسام وجدت أنها تسهّل عملية مناقشتها.. وكما قلنا فإن هيكل بدا سعيداً جداً بحدوث الانقلاب العسكري، وعزل أول رئيس منتخب، وراح يؤكد بيقين أهل الأديان أن ما حدث ليس انقلاباً لأن الجيش..لم يستولِ على السلطة! بمعنى أن الأستاذ يريدنا أن نؤمن أن الرئيس الانتقالي (عدلي منصور) هو الذي يحكم ويشخط وينطر، ويعزّ ويذل وليس قادة الجيش الذين جاءوا به من بيته ليكون رئيساً لمصر بدلاً من د. مرسي الرئيس المنتخب الذي عيّن من عينّوا عدلي فلم يجدوا حرجاً أن يعزلوه!
وكما أنه لا يمكن القول إن مرسي –رغم شرعيته الدستورية- حكم مصر فعلياً بسبب الميراث الأمني والعسكري المباركي (ومعه القضاء والإعلام الحكومي) فمن باب أولى أن يقال إن الرئيس الانتقالي المعيّن عسكرياً لا يحكم حقيقة.. ونظن أن أبلغ دليل على أن العسكر هم الذي يحكمون وليس المستشار قراره المبكر جداً بتغيير مدير المخابرات المصرية، وكما قلنا فإنه من غير المعقول أن عدلي عزله بناء على قناعة ذاتية؛ فالمؤكد أنه لم يكن يعرف حتى اسمه، وربما عندما طلبوا منه توقيع قرار عزل مدير المخابرات خبط صدره وصرخ: "يا لهوي.. هي مصر فيها جهاز مخابرات وله مدير كمان؟ أمال مرسي انعزل إزاي؟ وفين المخابرات من زمان لما كان الثوار يهاجمون قصر الاتحادية ويرمونه بالمولوتوف ويتسلقون الجدران محاولين اقتحام مقر المؤسسة السيادية الأولى في مصر؟ وفين المخابرات ما عملتش الواجب ونبهت مرسي أن الملأ يأتمرون به؟".
وحتى لو قيل إنه من الطبيعي أن يكون وزير الدفاع هو الذي أوصى بعزله، وأن الانتقالي بصم القرار فقط وهو يقول: "على مسؤوليتك يا سيسي.. أنا بريء!" حتى لو حدث ذلك فقد كان يفترض لو أنه كان هو الذي يحكم، والعسكر بشهادة هيكل لم يستولوا على السلطة؛ أن يطالب بمنحه فرصة لتقصي الحقائق حول سبب عزله أو تأجيل ذلك كام أسبوع لكيلا يسخر الناس منه، ويعرفوا أنه رئيس بصّام! فإذا أصر العسكر شخط فيهم: "يا الله منك له.. أنا الرئيس وما فيش واحد ينعزل إلا لما أمخمخ الموضوع في عقلي وأقتنع.. وبعدين إزاي نعزله ونحن ندعو إلى المصالحة الوطنية واحترام الجيش والعسكرية المصرية.. مش الراجل دا برضه جيش وإلا أنا غلطان؟".
وما تجاهله هيكل أن الانقلابات ينفذها العسكر، لكنها أحياناً تحكم مؤقتاً في البداية من وراء الستار (ثورة 23 يوليو مثالاً) أو تعيد مدنيين مثلما حدث مع شاه إيران بعد الانقلاب العسكري المدعوم من المخابرات الأمريكية الذي أطاح بالدكتور مصدق رئيس وزراء إيران.. فوفق فتوى هيكل لم يحدث يومها انقلاب بل ثورة حتى ولو كانت السي آي إيه وراءها؛ لأن العسكر لم يحكموا وعاد الشاه ليحكم وبأقوى بكثير مما هو موجود الآن في مصر!
[2] السبب الثاني الذي جعل هيكل يؤمن وتخالط بشاشة الإيمان قلبه بأن ما حدث هو ثورة وليس انقلاباً؛ شيء جديد حدده بأنه: عقيدة الجيش المصري التي استقرت في وجدان القوات المسلحة المصرية بأنه هو الحامي للتجربة الديمقراطية (!) وأنه المظلة التي تجتمع تحتها الحركة السياسية في البلاد!
وكما هو مؤكد فعمر هذه العقيدة؛ بصرف النظر عن صحة الزعم من عدمه؛ أقل من عام واحد فقط أي منذ أعفى مرسي قادة الجيش على خلفية جريمة قتل الجنود المصريين في سيناء.. وإذا شئنا البحبحة فهي عقيدة من مواليد 11 فبراير 2011 ، إلا أنه يصعب قبول أن عقيدة عسكرية (وليس أغنية لأحمد عدوية أو شعبولا!) تترسخ في مدة قصيرة، وخاصة أن المجلس العسكري بقادته ظل يحكم فعلياً حتى بعد الانتخابات الرئاسية.. كما أن الجيش المصري له وضع خاص منذ ستين سنة جعله دولة داخل الدولة وأحياناً دولة فوق الدولة؛ حتى في أيام أقوى رئيس جمهورية أي جمال عبد الناصر، وهو نفسه الذي نسب إليه وصف الوضع غداة هزيمة 1967 بأن البلد تحكمها عصابة.. ودولة داخل دولة.. ودولة المخابرات ومراكز القوى، وكان أفضل قرار اتخذه يومها تحرير الجيش المصري من شلة عبد الحكيم عامر وتسليمه لضاط محترفين لإعادة بنائه لمواجهة العدوان.
ونظن أن أسلوب التدخل العسكري الأخير المنحاز بفجاجة لطرف واحد من أطراف الصراع السياسي؛ يؤكد أن حماية التجربة الديمقراطية لم تكن عقيدة ولا خلقاً ولا حتى مشروع نية.. فمن غير المعقول أن يتبنى قادة الجيش وجهة نظر المعارضة كلها حول طبيعة الأزمة وطريقة حلها، وحتى في مسألة تعديل الدستور انحازوا للمعارضة، وجعلوا من بعض رموزها قادة للبلاد، وعزلوا الرئيس المنتخب بتلك الطريقة المهينة ثم يقال عقيدة وطبيخ ومهلبية..! وها هو قائد الانقلاب العسكري الفريق السيسي في كلمته بالأمس يؤكد انحيازه لطرف واحد، ويبرر انقلابه بأنهم (أي الإخوان) والرئيس هم سبب المشكلة عندما اختلفوا مع مؤسسة القضاء، والإعلام، والرأي العام، والقوات المسلحة.. ولم يرَ أي عيب لدى الطرف الآخر.. لا إعلام الأكاذيب والفتنة ولا القضاء المباركي الذي دمر البلاد، ولا المعارضة المجنونة ولا الدعم الخارجي.. ولم يرَ أيضا الجزء الآخر من الرأي المساند للرئيس بالملايين الذين تحدوا القمع والقتل وأصروا على مواجهة الانقلاب سلمياَ.. وكل ذلك يؤكد سبهللة الحديث عن الجيش الحامي والمظلة الجامعة، ويؤكد بأنه ليس مظلة للجميع بل لنوعية معينة من الأحزاب والقوى.. وأن قادته ليسوا حماة للتجربة الديمقراطية وإلا لألزموا الجميع بالدستور وليس تجميده، وهم منحوا الرئيس الانتقالي سلطة إصدار إعلانات دستورية رفضوا مثلها للرئيس المنتخب، وحلوا مجلس الشورى المنتخب، وأغلقوا القنوات الفضائية وعطلوا الصحف المعارضة للانقلاب.. وشنوا حملات اعتقال وتشويه لسمعة المعارضين والرئيس نفسه، ووصولاً إلى ارتكاب مذبحة بدم بارد قتلوا فيها معتصمين بالعشرات وهم يصلون!
ألا يدل ذلك على أن هيكل يستخف بالناس ويتعامل معهم بأجندة إعلام الستينيات؟ [3] السبب الثالث الذي جعل هيكل يفتي مطمئناً أن ما حدث ثورة وليس انقلاباً هو ما وصفها بالحشود غير المسبوقة في السياسة الإنسانية المعاصرة المطالبة برحيل مرسي.. وقد قلنا إن النهج الديمقراطي لا يقر هذا الأسلوب لأنه يفتح باب الجحيم على كل رئيس طالما أن هناك من هو مستعد لدفع الملايين والمليارات للتحريض.. وهاهم أنصار مرسي بالملايين وصامدون في الشوارع والميادين أكثر من أسبوعين؛ رغم الإرهاب والقتل وبأكثر مما حدث في 30 يونيو (بصرف النظر عما يقال عن تزوير صور المظاهرات) فهل يكفي ذلك لفهم أن الحشود ليست معياراً سليماً للشعبية أو لصحة المواقف إلا إذا تأكدت في انتخابات حرة!.
حقيقة أن حشود الإسلاميين أكبر لم تفت على هيكل؛ فحاول أن يقلل من أهميتها بالقول إن حشد التحرير كان مؤثراً لأنه عفوي وطبيعي (والذين شاركوا فيه أحباب الله ومجاهدون لا يبتغون إلا وجه الله وحشدهم خال من النكهات الخليجية، ورومانسي.. وقصده شريف!) أما الحشود الأخرى فهي تنزل بأوامر تنظيمية وغير مؤثرة!
هذه نقطة غير أساسية وهي من تراث الماضي الشمولي الذي يكره التنظيمات والأحزاب.. لكن من تزوير الوقائع الزعم بأن الخروج إلى الشوارع والميادين والاستمرار فيها ظاهرة غير مسبوقة في السياسة الإنسانية المعاصرة.. وحتى لو كان المقصود هو الحجم والعدد؛ فبصرف النظر عن التشكيك فيه فهناك الآن أعداد أكثر بكثير تتجمع في ميادين رابعة العدوية والنهضة ورمسيس، وفي المحافظات الأخرى.. لكن من يحسب لهيكل أعداد المعتصمين؟ ومن يقرأ له التقارير الأجنبية؟
ويؤسفنا أن نقول إن السياسة الإنسانية المعاصرة عرفت هذه الظاهرة في حالات كثيرة لا ندري كيف غابت عن الأستاذ لولا أن الغرض مرض.. وهو يعرف أن الثورة الإيرانية ضد الشاه كانت أقوى بكثير مما حدث في البلدان العربية.. والسودان نفسه عرفها مرتين في 1964 و1985 في ثورتين شعبيتين، وعرفتها أوروبا الشرقية زمن سقوط الأنظمة الاشتراكية.. وعرفتها بعض البلدان الآسيوية فيما عرف بالثورات البرتقالية.. وحدثت في مصر 25 يناير وقبلها في تونس وبعدها في اليمن وسوريا وليبيا! وعندما عاد السادات الخصم التاريخي لهيكل من زيارة إسرائيل استقبله خمسة ملايين مصري كما قيل، ومع ذلك لم يرَ هيكل في ذلك شرعية لنهج السادات وعارضه بقوة!
[4] السبب الأخير الذي سوّق به هيكل الانقلاب العسكري بأنه ثورة قوله إن الانقلاب أنقذ مصر من كوارث كان مقرراً (!) أن تبدأ الخميس، وهي بالمناسبة حجة كل أو معظم الانقلابات العسكرية التي تبرر بها حشد القوات.. وحتى الآن لم ينشر أنه كانت هناك مؤامرة ضد مصر.. وحتى لو كان هناك شيء من ذلك فالمؤكد أن المدبرين له هم أنفسهم الذين لم يتركوا مصر تهدأ يوماً واحداً من خلال إثارة القلاقل والاعتصامات واحتلال مقرات الدولة، وتعطيل المصالح بدعوات العصيان المدني بالغصب.. ومن خلال أعمال الإرهاب والقتل، وحرق المقرات الحزبية، والاعتداء حتى على قصور الرئاسة، وتعطيل الخدمات العامة وافتعال الأزمات التموينية.. فهؤلاء هم الذين كانوا سيتسببون بكوارث.. ومن الواضح الآن أن هؤلاء كانوا يعملون وفقاً لخطة الانقلاب العسكري، وبدليل أنهم ناموا وهدأوا بعد الانقلاب.. وانفرجت أزمات الكهرباء والوقود والعملة الصعبة.. إلخ! والعقبى لليمن ولكن بدون.. انقلاب عسكري!