لا زلت عند رأي قلته لبعض الزملاء الإعلاميين أن الأستاذ أنيس حسن يحيى من الشخصيات الوطنية التاريخية التي يجب أن تتاح لها فرص مناسبة في وسائل الإعلام لعرض شهادتها بتفاصيلها عن أحداث العصر أو التاريخ اليمني القريب الذي عاشه؛ والذي كان الأستاذ من رموزه البارزة؛ سواء أكان في إطار انتمائه للحزب الاشتراكي اليمني منذ تأسيسه حتى الآن أو في إطار انتمائه السابق لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تبوأ فيه مناصب قيادية متقدِّمة في فترة ازدهاره في عدن من منتصف الخمسينيات حتى الستينيات؛ قبل أن يقود مجموعة منه للتحول إلى اعتناق الفكر الماركسي اللينيني باسم "حزب الطليعة"، ثم التوحّد مع أحزاب اليسار اليمني في إطار الحزب الاشتراكي اليمني عام 1978. [سمعت من الأستاذ علي عبد الله الواسعي الذي كان من قياديي البعث قديماً أنهم كانوا في صنعاء يحدثونهم بتقدير عن الرفيق أنيس حسن يحيى في عدن!].
مناسبة هذا الكلام هو مقالة نشرها في "الثوري" الأستاذ أنيس مؤخراً بعنوان: حزبنا الاشتراكي يتجدد بشبابه.. وما يهمنا في المقال شهادة مثيرة لكاتبه عن الحرب الحدودية؛ التي اندلعت بين جيشي شطري اليمن في فبراير عام 1979؛ كشف فيها معلومة مهمّة بل وخطيرة عن المتسببين فيها على خلاف ما يتم الترويج له في كتابات يسارية حول أسباب الحرب ومن بدأها!
والحق أن هناك إصراراً من هنا وهناك لتزييف بعض ما حدث في البلاد من أحداث خطيرة، وكان لها ما بعدها؛ لتبرئة طرف ما وإلقاء المسؤولية على طرف آخر؛ مثلما يحدث مع حرب الانفصال عام 1994 عندما يصر الطرف الخاسر على حصر التاريخ لها من مايو 1994، وليس من يوم اعتكاف البيض في عدن بعد عودته من زيارة خارجية ثم تصعيد الموقف وممارسة سياسة حافة الهاوية، وفرض انفصال حقيقي على الأرض.. ومع عدم وجود تحقيق وتقصِّي حقائق محايد حول ما حدث في أغسطس 1993 حتى مايو 1994، فمن العبث بالعقول تظاهر الطرف الخاسر بأنه مجرد ضحيّة لمؤامرة ظالمة شنّت عليه الحرب لإخراجه – أو لإخراج الجنوب كما صار يقال بعدها- من شراكة السلطة والوحدة! مثل هذا يُقال على أحداث تاريخية قريبة نأمل أن نعود إليها في الأسبوع القادم!
[2] نأتي الآن إلى شهادة الأستاذ أنيس حسن يحيى الذي كان زمن الحرب عضواً في المكتب السياسي للحزب الحاكم في عدن، أي أنه كان في قمة الهرم الحزبي والسياسي الحاكم.. والشهادة كانت في معرض نقده لضعف العمل المؤسسي في الحزب ودولته المتأصل - كما يفهم من كلامه منذ ذلك الحين- يقول: [حرب فبراير 1979 لم تكن بقرار من قيادة الاشتراكي (!) التي فوجئت بوجود قواتنا الجنوبية (!) في دمت.. كان يعتقد بعضنا في القيادة – الذين أقدموا على خطوة مغامرة كهذه بتصرفهم غير الحكيم وغير المدروس هذا وغير محسوب النتائج – أنه يمكن بحرب خاطفة تحقيق الوحدة اليمنية، ودلّت الوقائع لاحقاً على أن هذا التفكير المغامر كان مجرد وهم، وهو أضر كثيراً بالحركة الوطنية في شمالي الوطن!].. [بسبب ضعف العمل المؤسسي عجزت قيادة الحزب عن محاسبة من ارتكب تلك الحماقات..].. يقصد اغتيال الغشمي وتفجير حرب 1979.
في الكلام معلومتان: الأولى: قيادة الحزب الحاكم لم تكن تعلم بقرار الحرب ولم تصدره، وفوجئت بجيشها في قلب المناطق الشمالية! والأخرى: الطرف الجنوبي (العسكري على الأقل) هو الذي بدأ الحرب الخاطفة أو المغامرة غير الحكيمة، وليس القوى الرجعية والإمبريالية التي أرادت استغلال حادثة اغتيال الغشمي للانقضاض على النظام التقدمي عدن!
فيما يتعلق بالبادئ بالحرب فالأمر ليس جديداً عند كثيرين كانوا يعرفونه، ويعرفون أن النظام في صنعاء لم يكن قادراً على التفكير أصلاً في خوض حرب ولو على الطريقة الفوضوية التي حدثت في عام 1972.. فالنظام كان يومها ضعيفاً ومهترئاً وممزقاً داخلياً منذ اغتيال الرئيس الحمدي مروراً بالانشقاقات الخطيرة التي واجهها نظام الرئيس الغشمي وصولاً إلى اغتياله، ثم مجيء الرئيس السابق علي صالح إلى السلطة وحدوث الانقلاب الناصري الذي فشل، لكنه زاد من تضعضع النظام.. بالإضافة إلى استمرار التمرّد اليساري المسلّح في المناطق الوسطى بقيادة فرع الحزب الاشتراكي في الشمال وازدياد قوته وسيطرته؛ وكلها كانت أحداثاً زادت من ضعف نظام صنعاء وكشفته تماماً أمام عدوه المتربص به وأغرته بأن يكون هذه المرة هو المبادر بالهجوم، وانتهاز فرصة الضعف والانهيار، والاستفادة من وجود الجبهة كرأس حربة متوغلة في قلب البلاد في إسقاط النظام. وتوحيد اليمنيين تحت حكم الحزب الاشتراكي اليمني!
الإشارة إلى أن الحزب الحاكم في عدن لم يكن في الصورة أبداً إلى درجة المفاجأة هي المفاجأة الحقيقية، ومع أهمية هذا الكلام؛ لكننا لا نستطيع بسهولة تقبّل فكرة أن جيشاً في دولة مثل تلك التي كانت تحكم الجنوب يخوض حرباً دون علم القيادة السياسية الحزبية أو بدون أوامر منها.. ليس فقط بسبب أن الدولة يومها كانت تعرف دبيب النمل، ومن جاء ومن راح، ولها أجهزة خطيرة متغلغلة في البلاد مثل: منظمات الحزب المنتشرة في كل مرافق الدولة المدنية والعسكرية، وأمن الدولة والمليشيات المسلّحة التي كانت مكملة لعمل الجيش، ولكن لأن كثيرين من الذين عاشوا تلك الفترة كانوا يعلمون أن كل المؤشرات تدلّ على أن اليمن تسير باتجاه الصدام العسكري؛ ولم يكن خافياً أن التعبئة الإعلامية والسياسية والعسكرية في عدن، وازدياد الأعمال العسكرية للجبهة الوطنية، وخاصة مع انضمام مجاميع كبيرة من رجال القبائل المعارضين لحاكم صنعاء النازحين إلى الجنوب؛ حيث تلقوا تدريبات عسكرية سريعة في عدّة معسكرات؛ منها معسكر الاستقبال في العند استعداداً للعودة لجولة جديدة من الصراع.. ويومها كانت الحدود الشطرية ملتهبة بانتظار شرارة تفجّرها، وكانت ساعة الصفر كما علم يومها (كنت مجنداً في الجيش أيامها) هو سقوط أحد الجبال الحصينة (أظنه جبل مريس) في أيدي المعارضة المحاصرة له، وهو ما حدث فعلاً بخسائر كبيرة بسبب تلغيم المواقع قبل الانسحاب منها.. ويومها أعلنت حالة الطوارئ. وبصورة عامة فكل ما كان مشهوداً يومها يتصادم مع كلام الأستاذ أنيس الذي يُوحي بأن الحرب كانت مغامرة (سرية بالضرورة) دبّرها قادة عسكريون دون علم الحزب الحاكم، ولا يعرف عنها المسؤولون المدنيون شيئاً؛ إلا إذا كان البعض في القيادة قد أخفى حقيقة الأمر على بعض المسؤولين أمثال أنيس.. لأمر ما!
[3] في حال دقة هذه الشهادة؛ فهي تؤكد ما قيل إنه خلاف وقع يومها وتطوّر بعد ذلك ليصير أحد أسباب الانقلاب على الرئيس السابق عبد الفتاح إسماعيل في إبريل 1980 (أي بعد عام ونصف العام فقط من توليه رئاسة الجمهورية!)، وأقصد هنا اتهام وُجّه لعبد الفتاح بأنه كان وراء إيقاف زحف الجيش – ثم توقيع اتفاق الوحدة في الكويت بما فيه من تنازلات لمصلحة الشمال- بعد أن حقق الجيش انتصارات كبيرة، وتجاوز المناطق الحدودية متوغلاً إلى حريب والبيضاء وإب، واليوم يمكن أن نستنتج أن الخلاف كان سببه: أن شنّ الحرب كان قراراً مغامراً غير مدروس لمجموعة عسكرية متحكمة، ولم تعرف به القيادة السياسية، ثم سارعت لوقفه في الوقت المناسب؛ سواء بسبب تهديد العراق وسوريا بالتدخل أو خشية هيمنة العسكر على كل شيء بعد الانتصار!
هناك رواية أخرى راجت تخالف شهادة الأستاذ أنيس: مضمونا ودلالة لها علاقة بالحرب؛ تقول إن الانقلاب على عبدالفتاح كان بسبب غضب "جماعة عنتر وصالح مصلح مؤيدين بعلي ناصر محمد" من الرئيس "ذي الأصل الشمالي" الذي ورّط الجيش في حرب 1979 لتحقيق أهداف خاصة أو أحلام لا تخدم الجنوب بقدر ما تخدم أهداف "الشماليين" في الحزب.. وهذه الفكرة - التهمة ما تزال تتكرر حتى الآن من قبل بعض دُعاة الانفصال الذين يعتمدون في تهييج العامة على شيطنة الشماليين في الحزب أو ما يسمونه: تيار فتّاح والشرجبي وعبد العزيز عبد الولي الذين انزلوا الويلات بالجنوب!
[4] يظل كلام الأستاذ أنيس حسن يحيى المذكور شهادة أو رواية بحاجة إلى تأكيد أو نفي وتصحيح من مصدر آخر في قيادة الحزب الاشتراكي يومذاك.. ولأن معظم قادة تلك المرحلة المدنيين والعسكريين قد غادروا الدنيا، والذين ما يزالون أحياء (مثل علي ناصر والبيض وباذيب) لن يقولوا غالباً شيئاً ينفي أو يؤكد؛ لأنهم خلاف الأستاذ أنيس ما يزالون يمارسون أدواراً سياسية وحزبية كبيرة.. لكل ذلك فالعشم ضئيل، اننا سنقرأ نفياً أو تأكيداً أو توضيحات على ما خفي من أسرار تلك المرحلة، وفي هذه الحالة ستظل شهادة أنيس هي الراجحة، وإن كُنّا نتمنّى أن يتوسّع الأستاذ في الحديث حول هذا الأمر قبل أن تضيع الحقيقة!