نحاول هنا قراءة التقارب المصري الروسي الذي يشغل حيزا مهماً في مسرح الإعلام العالمي وتسليط الضوء على العلاقة التاريخية بين مصر وروسيا وأبجديات العلاقة الجديدة واستقراء دوافعها ومسبباتها ودراسة تداعياتها المحتملة على مصر والمنطقة العربية بالتناغم مع موجة الربيع العربي. جذور العلاقة التاريخية بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها وهبت رياح الحرب الباردة على العالم، وروسيا تبحث لها عن موطئ قدم في أرض الشرق الأوسط بعد الإنهاك الشديد الذي تعرضت له أعقاب الحرب والذي أفقدها كثيرا من حلفائها. كانت أميركا بالمرصاد دائما تقف حائلة أمام تحقق الحلم الروسي، لأن الطرفين يدركان مدى الأهمية الجيوسياسة والاستراتيجية الذي يتمتع بهما الشرق الأوسط في من يسعى للسيطرة على العالم، وسعت أميركا إلى تعزيز علاقاتها بدول المشرق العربي خصوصا تلك التي تقف على حافته ولها أهمية تفوق الأخريات.
أميركا بدورها عقدت التحالف مع بريطانياوفرنسا وسعت معهما إلى تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط والاستئثار بخيراته الغنية، في محاولة منها لمنع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة في الشرق الأدنى ومنع الصين من حلم الوصول إلى البحر المتوسط ومنه إلى أفريقيا، لإن الصين كانت وما زالت تنهج الاشتراكية كنظام اقتصادي أسوة بروسيا، فراحت أميركا تدعم الانقلابات العسكرية في سوريا وتبذر الصراع الطائفي في لبنان علاوة على ما كانت تمارسه نظيراتها في الأردن والعراق من سيطرة ونفوذ.
ارتأت أميركا حينها بأن تفرض سيطرتها على مصر أيضا، لاعتقادها بأنها كانت بوابة الشرق تاريخياً والحامي لحدوده ضد الغزاة، ففي مطلع الخمسينيات وبعد انقلاب الضباط الأحرار على نظام الحكم الملكي سعت أميركا إلى تعزيز علاقتها بعبد الناصر الذي كان يعتبر بطلا قومياً حينئذٍ وقدمت له المساعدات المادية واللوجستية رغبة في تقوية مصر وتعزيز دورها الريادي في المنطقة للانطلاق في مشروع أميركا التخلصي ما سمي ب "حلف بغداد" الذي سعت عبره مع نظيراتها بريطانياوفرنسا إلى التخلص من التمدد السوفياتي المزعوم. وقد وعدت أميركا عبد الناصر ببناء السد العالي الذي كان يطمح له على شرط الاشتراك في هذا الحلف برفقة بعض البلدان العربية، غير أن عبد الناصر تراجع عن ذلك وسعى إلى بناء علاقته بالسوفييت الذين وعدوه ببناء السد ودعم الاقتصاد المصري على أن يقوم عبد الناصر بإطلاق سراح الشيوعيين واعتماد النظام الاشتراكي.
لطالما أغاض ذلك أميركا وحليفاتها، ما دفع فرنسا إلى احتلال قناة السويس في 1956 التي كان عبد الناصر قد أممها ليقطع آمال الإمبريالية الغربية في السيطرة عليها، ومن ثم حصل العدوان الثلاثي على مصر الذي أغاض السوفييت وهدد بقيام حرب عالمية أخرى فقامت الأممالمتحدة بدعوة الفرقاء إلى ضبط النفس وأمرت بانسحاب الدول المعتدية من قناة السويس احتواء للموقف ومنعا لنشوب الحرب. وكان للصراع العربي الإسرائيلي دور كبير في أن تجد روسيا موطئ قدم آخر في سوريا التي لجأت إليها الأخيرة لإضفاء نوع من توازن الرعب الكائن في ذلكم الوقت، ولكن ما انفك الصراع العربي الإسرائيلي، باتفاقية السلام كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات في 1979، حتى أنهى العلاقات المصرية الروسية التي ظلت راكدة حتى يومنا هذا، وبقي لروسيا موطئ قدم وحيد وهو سوريا إلى جانب ما تربطها من علاقات مع إيران الثورة الإسلامية وعراق صدام حسين.
موجة الهدم مؤخراً، ومنذ مطلع العام 2011 طفت موجة الربيع العربي في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وكان لها عميق الوقع والأثر في إرباك التوازنات وبعثرة كثير من الحسابات السياسية المبرمة بين القوى الكبرى وبين أنظمة الحكم العربية المتساقطة. سبب قيام الثورة السورية وتجذر الأزمة فيها إرباكاً كبيرا لروسيا في التعاطي مع أزمة حليفها شبه الوحيد في الشرق الأوسط، ما جعلها تكيل بمكيالين على طول أمد الأزمة في سوريا في محاولة لرأب الصدع واحتواء الأزمة وحلها سياسيا مخافة تفكك عرى التحالف القديم بين الدولتين. الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثين شهرا على اندلاع الثورة السورية، وفشل النظام في السيطرة على أكثر من 70% من الأراضي السورية والإدانات الدولية لجرائمه الخارقة لحقوق الإنسان، أصبح أمل روسيا في المحافظة على هذا النظام من شبه المستحيلات بعد التصدع الجسيم الذي أصاب أركانه وكثرة شروخه القاتلة. فتماهى نظام موسكو مع الرغبات الأميركية التي تقضي بتدمير الترسانة الكيمائية لسوريا عوضاً عن الضربة التي هددت بها أميركا النظام السوري، والتي لم تحصل، إثر استخدامها ضد المدنيين في غوطة دمشق وأودت بحياة المئات. وهاهي المعارضة السورية تصرح بأن هناك بعض التجاوب الروسي لحل الأزمة، ما يدلل على بوادر قبول موسكو بالتخلي بنظام دمشق طالما أنه لم يعد مفيداً وأن نهايته غدت مسألة وقت ليس إلا.
طهران هي الأخرى، حليفة النظام الروسي والداعمة الأساسية لنظام بشار الأسد في سوريا، تماهت مع الرغبة الأميركية والمقترح الروسي في تدمير سلاح سوريا النووي لإدراكها عدم قدرة الأسد على حسم المعركة لصالحه ضد الثوار، وهي ترغب حاليا بخطى حثيثة المشاركة في جنيف 2 لتضمن توفر الحل السياسي للأزمة الذي يبقي على الأسد طرفا فاعلاً في مستقبل سوريا المجهول. كما أنها ترغب في تقاسم الكعكة السورية بعد جنيف2 وأن تحجز لها مقعد في أرض سوريا ما بعد الأسد دعماً لحزب الله اللبناني واستمراراً للنفوذ في المنطقة.
عوامل التقارب بين القاهرةوموسكو منذ انقلاب الثالث من يوليو الذي تزعمه الفريق عبد الفتاح السيسي، والذي أطاح بمرسي وحكم الإخوان، وأميركا تهدد بقطع المساعدات الأميركية التي ابتدأ ضخها عقب توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد وتقدر ب 1.3 مليار دولار سنوياً، وقد توقفت بالفعل بعض تلك المساعدات كرفض للواقع الجديد الذي أحدثه الانقلاب من الإدارة الأميركية والتي تلكأت كثيراً في تقرير ما حصل في مصر من أنه انقلاب أم ثورة شعبية وتباينت فيه تصريحات المسئولين الأميركيين. قادة الانقلاب في مصر وسلطته المؤقتة تضايقت من جراء منع بعض تلك المساعدات وأثر عليها أيضا تراجع الدعم الخليجي، فعبرت عن ذلك مباشرة بإحياء علاقاتها الهامدة مع روسيا والتي توجت بزيارة رسمية لوفد روسي رفيع تكون من وزير الخارجية سيرغي لافروف ووزير الدفاع سيرغي شيوغو وتم مناقشة تعزيز الثقة وتقديم الدعم المتبادل بين الجانبين وصفقة أسلحة ضخمة ستبيعها روسيا لمصر في قادم الأيام.
أميركا حتى اللحظة لم تبد أي ردة فعل إزاء التقارب المصري الروسي ولا حتى تحفظاً مما حصل، مما يوحي بسيناريوهين محتملين إزاء ذلك التقارب: أولاهما، أن الولاياتالمتحدة راضية بهذه الخطوة المصرية، والتي ربما استأذنتها فيها سلطة الانقلاب، وتريد أن تقدم شيئاً من الدعم للانقلاب، ولكن بالوكالة عبر اتفاق أميركي روسي خليجي، يمنع تورط أميركا المباشر في دعمه لتحافظ على سمعتها في حماية التحولات الديمقراطية في المنطقة. ولكن هذا السيناريو غير معقول نظراً لطموحات القوتين في السيطرة في الشرق الأوسط وصراعهما القديم منذ الحرب الباردة وحتى الآن.
أما السيناريو الآخر، فهو أن السيسي شعر بإمكانية تخلي الولاياتالمتحدة عنه إذا ما فشل الانقلاب وعجزت سلطته المؤقتة عن حل أزمة الشارع المصري وإيجاد مخرج مشرف، كما حصل تماما مع حسني مبارك حين أوعزت الولاياتالمتحدة إلى الجيش المصري باستباق إعلان استقالة مبارك عن منصبه تفاديا لتفجر الوضع إبان ثورة يناير وحفظا لتماسك الجيش المصري، الحليف القوي لأميركا، وهذا ما عزز مخاوف السيسي في مصيره بعد فشل الانقلاب سيما مع تعذر أميركا والخليج عن توفير الحصانة له وإبقائه في منصبه. حينها راح يبني علاقات ثنائية مع روسيا كونها القوة الكبرى الثانية بعد الولاياتالمتحدة في حال تخلت عنه الأخيرة. وهذا السيناريو مقبول إلى حد ما رغم أن ملامحه لا زالت غير واضحة.
تداعيات التقارب على مصر والمنطقة لاشك أن التقارب المصري الروسي سيكون له تداعياته الخطيرة على مصر خاصة كونها ستؤجج الصراع والتنافس العنيف بين الولاياتالمتحدةوروسيا على تقاسم الهيمنة والنفوذ، وربما يؤدي إلى انقسام حاد بين فصائل الجيش المصري وقيادته العليا بين من سيبقى مع الولاياتالمتحدة وبين من يتجه نحو روسيا. من المحتمل أن الفريق السيسي استشرف أن لا مكان له في الحكم خصوصا مع مؤشرات فشل الانقلاب الملحوظة ولذلك حاول دق إسفين جديد في النظام المصري لتكبيل الإخوان أو مرسي، لو قدر لأحدهما الرجوع للحكم، وجعلهم بين فكي كماشة تعثر انطلاقهم في مشروعهم الإسلامي.
إيران الحليف الاستراتيجي لروسيا، ستجني بعض ثمار هذا التقارب وستهتبل هذه الفرصة لربط علاقات بينها وبين مصر لطالما تعثرت منذ عقود، مما يوفر لها موطئ قدم جديد على أرض عربية بحجم مصر ومكانتها عربياً لدعم مشروعها الإمبراطوري التوسعي عبر تطويق الشرق الأوسط ودول الخليج من كافة الجوانب، بعد أن ضمنت لها مقعدا في قطار الصراع في سوريا، وربما تسلم لها سوريا كما سلمت لها أفغانستان والعراق بعد الحرب الأميركية، علاوة على تحركاتها العنيفة في اليمن عبر عميلها الحوثي. وبذلك يكون لها إمكانية التصرف والعبث في أرض الجزيرة عبر ثلاث جبهات حساسة.
كما أن الصين، حليفة روسيا الأخرى، ستستطيع توسيع استثماراتها في القارة الإفريقية إذا ما نجحت في ربط علاقات مع مصر، إضافة إلى ما يربطها من علاقات سابقة مع السودان، وبذلك تتمكن من بسط نفوذ اقتصادي في القرن الأفريقي.
كل ما سبق ذكره من توقعات إن صدَقَت، وإن لم أكن متشائماً فإنها تشي ببوادر حرب عالمية ثالثة قد تنشب بين الولاياتالمتحدةوروسيا وحلفائهما لو تمكنت الأخيرة من تعزيز نفوذها مصرياً وأفريقياً، ما سيجعل أميركا على أهبة الاستعداد الدائم لعرقلة كل ما يتمخض عن تحركات روسيا النفوذية حفاظاً على مكانتها وهيمنتها عربياً ودولياً.