حط قدميه على سلم الطائرة فعانق أنفه هواء صنعاء العليل، وتفحصت عيناه مداها في حيرة: هل غبت أربع سنوات يا كمال أم أربعة أيام!؟ أجابه شوقه: المهم أنها صنعاء حيث الأهل يشتاقون، والحبيبة تنتظر، وأسترق من شباكها ابتسامة افتقدتها منذ زمن.
لمح "محمد" بقميصه الأزرق الذي كان يرتديه حين ودعه، فبدت صنعاء منطقية في زيها مع فتور ألوانها جراء مساحيق الفساد المالي والإداري الذي يقرؤه في تقارير الجهات ذات الصلة.. وأياً كان قميص محمد، قديما أو جديدا، فهو شقيقه الذي يقاسمه كل شيء: الاسم، وفصيلة الدم، وغرفة صغيرة على سطح الدار وإن اختلفا في وجهات النظر السياسية، فمحمد يعزو كل مصائب البلد وتردي أوضاعها إلى رأس النظام الحاكم، ولا يذكر الفساد في أي ملف إلا وأشار بسبابة فمه إلى رئيس الجمهورية وعائلته وأتباعه، أما كمال فيرى أن المجتمع هو من يعبث بالحياة، ولا يترك فرصة لأي حكومة تحقق أي نجاح..
يعتقد كمال أن التغيير يجب أن يأتي من داخل المواطن نفسه، وبدون مواطن واع لا تستطيع الحكومة أن تصنع أي نجاح لصالح الشعب..
هو على موعد مع حضن مشاكس الآن، لا يدري كم سيستغرق من وقت حتى أول مشادة كلامية بينه وبين محمد بسبب قناعة كل منهما.. بالطبع لن يحدث هذا الآن، فالوالد موجود وشوقه سيمنع ذلك بضمة طويلة ودمعة صارمة تأبى التدحرج على خده.
تفتح والدته الباب وتبقى أختاه خلف الباب، بينما أخواه الصغيران كانا قد استقبلاه عند باب التاكسي الذي أوصله, طوقاه في آن واحد واضطراه للهبوط إليهما وتقبيلهما بحرارة متعادلة..
كانت دموع والدته أكثر استجابة لقانون الجاذبية من دموع الجميع وبعناوين متعددة, فبعضها حملت عنوان الفرح بعودته، وبعضها حملت عنوان الانتصار على شوقها إليه، وأخرى تحمل عنوان الخوف من انكساره حين يعلم بتهديد والد خطيبته له بفسخ الخطبة إن لم يتم الزواج فور عودته، فهناك من يقف في طريق سعادة ولدها ويتربص بأمله شرا, إذ ما إن عرف جارهم الحاج مقبل أن كمال سيعود حتى زارهم نهار الجمعة وقال لهم إن خطبة ابنته قد طالت بما فيه الكفاية ويجب أن لا تستمر أكثر، لذا عليهم أن يبدؤوا بالاستعداد للعرس فور عودة كمال وإلا فإن موضوع الخطبة يعتبر لاغيا..
كانت والدة كمال قد علمت من بعض النساء في الحي أن الفندم سمير قد تقدم لوالد إيمان وأغراه بأن يدفع له أضعاف ما سيأخذه من كمال وينجز العرس في ظرف أيام!!
كمال الذي عاد يحمل شهادة في القانون الدولي لم يتمكن من الانتصار لأول قضية واجهته على أرض الوطن، وما هي إلا أيام حتى زفت إيمان للفندم سمير ذي الزوجات الثلاث والأطفال العشرة!!
لم يتمكن كمال حتى من مجرد الترافع في قضية الحبيبة التي توسلت أن ينتشلها من براثن مغتصبها منه، فهي لم تنتظره هذا العمر وترفض شبابا كُثراً لكي تزف بعودته لهذا السيئ الطباع صاحب المال المشبوه.
ما أكثر من أتى يهنؤه بعودته من الأقارب والجيران والأصدقاء, كانوا يبقون معه بعض الوقت ثم يغادرون إلا أن خيبة الأمل هي من كان يلازمه طوال الوقت، وما إن تنفرد به حتى ينهار أمامها بالبكاء.
مرت أشهر بعد عودته وزفاف إيمان.. قضى وقته في البحث عن عمل في مجال دراسته لكن دون جدوى, كانت الفرص تخطف منه لغير مستحقيها كما خطفت إيمان تماماً، كأنما كان كل شيء يصر على تذكيره بعجزه وعجز ما درسه من قوانين، ليبدأ بدراسة قوانين أخرى أكثر جدوى وإن لم يكن قد آمن بها أو استسلم لها لكنها كانت تغير قناعاته في أن النظام الذي يحكم البلد قد ازداد فساداً، وأصبح يقود البلد نحو الهاوية، لكنه لا يبرئ المجتمع أيضا..
وبينما هو يقاوم تلك القوانين كانت الأصوات تتعالى في "ساحة التغيير" عند جامعة صنعاء مطالبة بإسقاط النظام كما سبق وحل بنظام الحكم في تونس ومصر من أيام قليلة.. أصوات استجابت لأخواتها في "ساحة الحرية" في تعز، وتوالت الساحات والأصوات تتعالى في بقية المحافظات, لكن هذا لم يكن يروق لكمال، فهو لا زال يصر أن الشعب هو أساس الفساد، فليس النظام هو من خطف إيمان منه، بل طمع والدها وبشاعة الفندم سمير.. كان يقضي ليله في شجار مع محمد عن عدم جدوى هذه الثورة التي كان محمد من أوائل المنضمين إليها، لكنه كان يعود ليلا لينام في البيت نزولا عند رغبة والدته التي أقلقها انضمامه لهذه الثورة، فلم تعد تهنأ بمأكل أو مشرب منذ اندلاعها وإصابة بعض شبابها، فمنهم من استشهد ومنهم من جرح، وكانت تلك الصور على شاشات التلفاز تزيد من قلقها على ولدها منذ لحظة خروجه حتى عودته.
كل جمعة كانت تحمل اسماً يطلقه عليها شباب الثورة، وقبيل كل جمعة كان كمال يسأل أخاه: ماذا أسميتم جمعتكم أيها المجانين!؟ فيرد محمد بالاسم منتظراً من كمال ما سيجود به استهتاره على التسمية إلا أن هذه الجمعة لم يكن الاستهتار هو جوابه فما أن أخبره محمد أن جمعة الغد ستحمل اسم "جمعة الكرامة" حتى راح كمال يردد الاسم وكأنه يردد اسم إيمان!!
كررت شفتاه كلمة كرامة فارتد صداها كصاعقة نزلت على دمعته فأردتها على خده، وقال: سأخرج معكم غدا، فلا شيء ينزف داخلي مثل كرامتي يا محمد!!
انبلج صبح الكرامة، فهب كمال ومحمد يحملان اتفاقا بأن يبقى أمر مشاركة كمال سراً عن والدته، وحين سألتهما: أين سيصلي كل منكما هذه الجمعة؟ أجابا: سنصليها معاً اليوم. فرحت الأم، فذلك يعني أن "محمد" لن يذهب إلى الساحة هذه الجمعة.
دخل محمد وكمال الساحة وسط ترحاب رفاق محمد بمشاركة كمال غير المتوقعة من الكثير، فموقفه معروف لدى الجميع.. انتهت خطبة الكرامة وبدأت صلاتها وما إن فرغ المصلون لأجل كرامتهم وبدأوا بتحية بعضهم والدعاء لبلدهم وثورتهم حتى انهالت رصاصات القناصة من جهات متعددة تفتك بكل من سولت له كرامته إسقاط نظام لا يعترف بكرامة الشعوب!!
الرصاص الغاضب من كل كرامة هنا اختار أهدافه بدقة، طارد فريسته الجريحة في قلب كمال المكلوم لينزف دماً حراً كريماً لا يرى في غير الكرامة ما يستحق، لم يكن صراخ محمد ليتمكن من إيقاف دفق ذلك الجرح الغائر والجرح الأشد في روح كمال الذي نزف كلماته الأخيرة أيضاً: إنها تستحق.. إنها تستحق!