منظمات حقوقية:محاكمة المياحي انتهاك صارخ للعدالة وتهديد خطير لحرية الصحافة    الكيان يقصف مدرسة بنات بغزة بعد ساعات من وصف ترامب الحرب ب"الوحشية"    تصاعد حدة المجازر في غزة ومراكز الإيواء في مرمى القصف    أرسنال يقتنص نقطة ثمينة ونيوكاسل يعزز حظوظه بالتأهل لدوري الأبطال    ماذا يحتاج برشلونة للتتويج بلقب الليغا؟    جاذبية الذهب تضعف مع إيجابية المحادثات الأميركية - الصينية    وداعاً...كابتن عبدالله مكيش وداعاً...ايها الحصان الجامح    المرأة في عدن: لا لمنظومة الفساد الحاكمة    حقيقة استحواذ "العليمي" على قطاع وادي جنة5 النفطي شبوة    المنطقة العسكرية الثامنة مقرها الضالع كارثة قادمة    تمهيد لقيام سلطته.. بن حبريش يشق طريق جبلي بمنطقة "عيص خرد"    قوة الانتقالي تتآكل.. الجنوب أمام لحظة الحسم والقرار بات ضرورة!    نساء عدن: صرخة وطن وسط صمت دولي مطبق.!    صبحكم الله بالخير وقبح الله حكومة (أملصوص)    رئيس مجلس النواب يشيد بمستوى الحضور والتفاعل مع مختلف أنشطة وبرامج الدورات الصيفية    القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن .. بول دريش جامعة أكسفورد «98»    منظمة "عين" تدين جريمة مقتل طفلة وإصابة شقيقتها برصاص الحوثيين في البيضاء    ترامب رفع الراية البيضاء    الحرب الهندية - الباكستانية .. إلى أين ؟!!    احتجاجًا على الانهيار المتواصل للخدمات الأساسية .. نساء عدن يُهددن بالتصعيد    بريطانيا وأمريكا تاريخ أسود من الإجرام المُفرِط بحق الأمة والإنسانية ! (53)    الحكومة توجه بتزويد محطات كهرباء عدن بالوقود الإسعافي لتخفيف المعاناة    أكد أن نصرة المستضعفين من أبناء الأمة شرف وفضل كبير في الدنيا ولآخرة..الرئيس المشاط يتوجه بالشكر والعرفان لجماهير الشعب اليمني لتلبيتهم نداء الواجب ودعوة السيد القائد    بحاح يناقش آلية دمج الطلبة اليمنيين في المدارس المصرية وتحديث اتفاقية التعاون    الدكتوراه للباحث محمد القليصي في الأدب والنقد والبلاغة    أمريكا.. وَهْمٌ يَتَلَاشَى    مرض الفشل الكلوي (4)    قطر تهدي ترامب طائرة فاخرة لاستخدامها كطائرة رئاسية    المدارس الصيفية ودورها في تعزيز الوعي    شركة النفط بصنعاء تصدر تنويه للمواطنين بشأن المشتقات النفطية    رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس للطب المخبري ل" 26 سبتمبر ": المؤتمر سيكون نافذة للأبتكار    أقنعة الشرعية... وخنجر الخيانة    ضربة الشمس والإنهاك والفرق بينهما؟    وزير الشباب والرياضة يعزي في وفاة نجم المنتخبات الوطنية السابق عبدالله مكيش    محمد الحوثي يعزّي في وفاة العلامة محمد بن حسن الحوثي    البحرية البريطانية تحذر الاقتراب من موانئ اليمن    عندما يصبح النور مطلباً للنضال    ملخص مباراة برشلونة ضد ريال مدريد بالدوري الاسباني    البرنامج الوطني لمكافحة التدخين يدشن حملة توعوية في عدن تحت شعار "فضح زيف المغريات"    القنصلية اليمنية تصدر تعليمات هامة للطلاب والمسافرين الى الهند    شركات أمنية رافقت نساء المنظمات والشرعية يوم أمس    بدء الجولة الرابعة من المفاوضات بين طهران وواشنطن في مسقط    زيارة ترامب للمنطقة ومحطتها الاولى الرياض والملفات الشائكة    وفاة شخص وإصابة آخر إثر انقلاب مركبة وسقوطها في عرض البحر بمدينة المكلا    دراسة: المصريون القدماء استخدموا "تقنية بركانية" وآلات قديمة عالية التقنية لبناء الأهرامات    انتشار فيديوهات مفبركة بالذكاء الاصطناعي ل"كوكب الشرق"    تسجيل 17,823 إصابة بالملاريا والأمراض الفيروسية في الحديدة منذ بداية 2025    ثورة النسوان.. تظاهرة لم تشهدها عدن منذ رحيل بريطانيا    الملك سلمان يرعى نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين    بايرن ميونيخ يحتفل بلقب الدوري للمرة ال 34 ويودع نجمه المخضرم توماس مولر    الموسم المقبل.. 6 أندية إنجليزية في دوري الأبطال    رسالة الحرائر إلى رأس الافعى الذي منع توريد وقود الكهرباء    الفن بين المرآة والسيف: خطر مشهد السحل في الدراما "طريق إجباري" نموذجًا    - كيف ينظر وزير الشباب والرياضة في صنعاء لمن يعامل الاخرين بسمعه اهله الغير سوية    الإعلان عن القائمة الأولية لمعسكر المنتخب الوطني الداخلي في المكلا    وزير الأوقاف: تفويج حجاج اليمن سيبدأ الثلاثاء القادم    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتحي غيت .. وغيتات أخرى!
نشر في المصدر يوم 15 - 04 - 2010

في تلك اللحظة، نظرت زوجة شاه إيران من نافذة الطائرة حيثُ تجلس جوار زوجها، الذي يكتسحه القلق. قال لها، كما حاول أن يوهم الجماهير: سأسافر لقضاء فترة نقاهة قصيرة ثم أعود إلى العاصمة. لم يطمئن قلبها إلى هذه الرحلة. مسحتْ سماء طهران بعينيها عبر زجاج النافذة وهي تقول: لديّ يقين إنها المرة الأخيرة التي أراك فيها، يا بلادي الرائعة. لقد صدق قلبُها، بالفعل. فقبل تلك اللحظة، مغادرة إيران وإلى الأبد، بأشهر قليلة شعرت الولايات المتحدة الأميركية بالقلق حيال ما يجري من اضطرابات في أرض حليفتها إيران. فأرسل إليهم الشاه: لا تقلقوا يا أصدقاءنا، إن الأمور كلها تحت السيطرة. إنها مجرّد زوابع بسيطة لطالما اعتدنا عليها. وعندما خرجتْ الجماهير، سيلُ الله الأزلي، إلى الشارع واسترجعت دولتها من يد خاطفها الشاه، رفضت أميركا استقبال حليفها الذي لم يتوانَ للحظةٍ واحدة عن فعل أي شيء لصالح أميركا وإسرائيل. قال قائد قوات حلف شمال الأطلسي لصحيفة إيطالية معلّقاً: ليس علينا القتال لأجل صديق مهزوم، علينا فقط أن ندرس الظروف التي أدت إلى هزيمته والاستفادة منها!

لهذا الحدث التاريخي المذهل علاقة، عن بُعد، بما أرغب في الحديث عنه ..

في الواقع، لطالما كان يساورني قلق عميق حين أرى الفنان اليمني أحمد فتحي يتصدر واجهة المناسبات التي يقال إنها "وطنية". كان يقطع تورتة الوحدة، تارةً، وتورتة سبتمبر في عامٍ آخر، والاثنين معاً في العام نفسه. لم يكُن يقطع تورتة أكتوبر كثيراً، ولا أدري لماذا. غنى وعزف للوطن، وقطّع من التورتات أكثر من عدد شهداء وطننا العظيم. راقبتُ حركته في العشر سنوات الأخيرة وأنا أقول لنفسي: لا بد أن هذه الوطنية الجارفة تعبير عن النقيض. وفي أحسن الأحوال: إنها النفعية المادية المحضة. لقد تعوّدنا، منذ زمن بعيد، على الشك في ولاءات النخبة لبلدنا الذي لا يعرفونه كما نعرفه، ولا يتألمون فيه كما نتألم. هكذا انطلقت الجماهير إلى التعليق: اليمن في جيوبهم، لمجرّد أن ارتفعت أول يافطة تبنتها النخبة المستفيدة من عبقرية أرضنا " اليمن في قلوبنا". وفيما يخص وعينا بأخلاق النخبة فنحن نقول بمقولة المكّي القديم: إننا لا نكاد نوقِن.

كشفت اللجنة البرلمانية سرّ الولاء الوطني العظيم: إن أحمد فتحي، الفنان، هو أحد النهّابة الكبار (وفي رواية: النهّابة المتواضعين) الذين سطوا على أراضي الفقراء والجياع في محافظة الملاريا والضنك (الحديدة). إلى الآن لم يصدُر أي توضيح من أي من الجهات ( الشخصيات الوطنية) التي طالها تقرير البرلمانية باستثناء صديقنا أحمد فتحي، وطبعاً الشيخ حميد الأحمر. كان تعليق حميد الأحمر ذكيّاً وحاسِماً، مشفوعاً بالأرقام(80 مليون ريال) والزمان والمكان. حتى أنه أشار إلى الأخ غير الشقيق للسيد الرئيس بوصفه وسيطاً مقبولاً بين الأطراف المتنازعة. لقد عبّر أعضاء اللجنة، بأكثر من طريقة، عن سرورهم للطريقة التي شرح بها حميد الأحمر موقفه.

أما فتحي "وز أبجر" فقد خانه التعبير إلى أبعد حد. أشار إلى أرض صغيرة على البحر بطريقة يقول عنها الأثر الشريف: ما أسكر كثيره فقليله حرام. لقد بدا تكذيب السيد فتحي كما لو كان يتحدث عن "الدرجة" وليس النوع! من المناسب أن نطمّنه بأن "فتحي غيت" لن تؤثر على جماهيره الفنّية، التي ليست غزيرة كما يعلم. وأنها "مجتش عليك لوحدك"! مع أن أحمد فتحي يحفظ عن ظهر قلب أغنية زميله إيهاب توفيق: "هيّ ناقصاك إنتَ كمان"!

هل أتجاهل أصل الحكاية وأجري إلى الهامش، حيثُ يوجد أحمد فتحي وبيده صفيحة صغيرة من الأرض بينما يتفيّأ النهابة الكبار ظلال المركز؟ في الواقع، لاسم أحمد فتحي رمزية عالية، واقتران هذا الاسم الفنّان بقضايا سطو واختلاس ونهب يصيب الضمير الأخلاقي الجمعي بمتلازمة الإحباط واليأس، فقدان ثقة المجموع بالمجموع، حدثٌ كثيف يهز إيمان الجماهير بذاتها الجمعية، بفاعلية ترسانتها الأخلاقية. إنه تشريع للفوضى عن طريق ضرب المثال: الانتهاك البسيط هو فعل رمزي تجريبي مهمّته نزع القداسة عن الأخلاق الجمعية والتأسيس، علاوة عن ذلك، لأخلاقية نيتشويّه: أخلاق القوة والقسوة.

إنه بلدُنا، نحنُ الهنود الحُمر! أؤكّد لكم: من 148 اسماً جاء في تقرير اللجنة البرلمانية، بالحق والباطل، لم أعثر على اسم واحد من المممكن الظنّ أنه داس يوماً على شوك بلادي حافياً وجائعاً كما فعلتُ أنا وفعل الملايين مثلي. لم يسند أحدٌ منهم ظهره إلى الحائط وينظر إلى السماء، كما فعلت أنا والملايين: رباه، أكاد أموت من الجوع. لم يفرح أحدٌ منهم كما فعلتُ أنا والملايين لهدف "بن ربيعة" في مرمى الصين، ولا للمرة الوحيدة التي تعادل فيها منتخبنا مع المنتخب السعودي في الزمن البعيد. من منهم، أولئك الذين نهبوا أرضي وما تحتها، الوطنيين الشرفاء، والمناضلين الأبرار عاش على "الوزِف" والخبز الناشف ولو لنصف يوم كما يفعل الملايين في ريف اليمن ومدنها إلى الآن. لم يشتمّ واحدهم عرق الشقاء الذي يخاطبنا بصورة مغرضة: أيها الأصدقاء إن وطنكم يبخل عليكم بالراحة. وكنا نقول له: أيها الشقيّ، إن وطننا في قلوبِنا، ينامُ معنا مثل نجمة الصباح، ويصحو معنا مثل يمامة الحرَم. وفي داخلنا إيمان أسطوري: إنهم، في مكان ما، يختطفون وطني، يشحنونه في كانتونات غريبة، إلى العالم. النفط والغاز والماء والبحر والأرض ليست هي الوطن الذي في ذواتِنا. هذه الدوال هي عناصر الوطن بالنسبة لذلك الحشد الأنيق المليء بالقتلة، بتعبير جان بول سارتر. أما وطننا نحنُ فهو دالة فائقة الكثافة، مجاوِزة للمادة، ذات مرجعية غير قابلة للقياس.

قال لي ضابط ابن حلال قبل أيام: لماذا ترفض فكرة أن يكون للمرء ولد؟ قلتُ له: لأن الولد سيحتاج إلى الرزق، عنصر الحرمان الدائم. بادر الضابط إلى الثناء على الله بما هو أهلٌ له، ثم حدثني طويلاً عن الله الذي لا يدعُ دابة في الأرض وإلا ويقرر رزقها. ابتسمتُ له: لماذا خلق الله النار؟ قال : للكافرين. أجبته: لا، ليس صحيحاً. لقد خلق الله النارَ لأن هناك نخبة قاتلة لا تفتأ تسرق ذلك الرزق الذي قدره الله للولد والبنت اللذين ينتظرهما كل أب. هؤلاء القتلة سيتسببون في موت الولد بالجهل أو بالجوع. هل هذا هو عين ما قصده الضرير العظيم : فإما أن يخلفه فقيراً، وإما يخلفه يتيما؟ إذ لا يوجد خيار ثالث في عالم الهوبزيّة الصرفة: حين يغدو الإنسانُ ذئباً لأخيه الإنسان!

مرة أخرى: كشفت اللجنة البرلمانية فضائح ثقيلة، رغم الفترة القصيرة التي قضتها اللجنة ( 10 أيام فقط) في الحديدة. عنصر القوة في اللجنة هو وجود عناصر ينتمون إلى اللقاء المشترك، وهذه رسالة شديدة الوضوح إلى الجماهير: إنهم يحرسونكم من الفئة الباغية. قاعدة اقتصاد-سياسية كلاسيكية: المعارضة هي جرس الإنذار في الأوطان.

اتهم التقرير (ضباط، وفي مرويات صحفية أخرى: قائد) القوات الجويّة بالسطو وارتكاب فظائع "تدمى لها القلوب، ويندى لها الجبين"! يا للهول، ما هذا؟ وأين يحدث هذا كلّه؟ انتبهتُ إلى التقرير فوجدته يشير إلى رتبة قائد القوات الجوية: مقدّم! وبغض النظر ما إذا كان قائد القوات الجوية متورّطاً، كما تحدثت صحف كثيرة، أو متعاوناً لأبعد حد كما في حديث مفضل اسماعيل، مقرر اللجنة البرلمانية، إلى صحيفة الناس. نحن هنا بإزاء أمر جلل: مقدّم يقود قوات جوية يفترض أنها تمثل "جوهرة القوات المسلّحة اليمنية" وتزخر بالرتب العسكرية العليا " فريق ولواء وعميد .. إلخ". إن هذا يعني، بمنتهى البساطة، أنه ليس أكثر من واجهة للفئة المختفية، صاحبة الكلمة العُليا، يؤدي دور حارس المزرّعة الذي ينفذ فقط تعليمات البيه الكبير. هل تشرح هذه الملاحظات ما أبداه قائد القوات الجوية للجنة من أسف وشكوى تجاه مرؤوسيه، الذين قال إنه ضاق بأفعالهم ( ويبدو أنه لا يملك القدرة، ولا الرغبة، في السيطرة عليهم)؟

مرة ثانية: على طول حرب صعدة لم يرِد ذكر قائد القوات الجويّة في الحديدة، بالرغم من أن الطيران كان العنصر الأكثر بروزاً في هذه الحرب. عندما انتهيتُ من كتابة هذه الفقرة وجدت مفضل اسماعيل يقول لصحيفة "الناس": الانكسارات العسكرية التي حدثت في حرب صعدة سببها انشغال قادة عسكريين في قضايا النهب والاستحواذ. الأمر ليس كذلك بالضبط، أعني: ما حدث في صعدة لا يمكن الإشارة إليه بكلمة: انكسارات! ثمة عنوان مثير في العدد الأخير من صحيفة " كل أحد": لجنة حرف سفيان تشكو الحوثيين إلى واحد أحد. عنوان آخر في صحيفة "السياسية"، الأحد الفائت: العليمي يحث لجان صعدة على ضرورة العودة إلى الميدان مهما كانت الظروف! هذه هي الانكسارات،أو ال repercussions المستمرة نتيجة حرب انتصر فيها الحوثيون بكل وضوح. أنا هُنا أشير إلى القاعدة العسكرية الشهيرة: ينتصر الصغير حين يمنع الكبير من الانتصار، وينهزم الكبير حين لا يتقدّم في يوميات المعركة. القادة العسكريون، غير النهّابة، يحفظون هذه القاعدة عن ظهر قلب.

أوصى التقرير بضرورة النأي بالقوات المسلّحة عن هذه السلوكيات التي تضرّ بسمعتها. أتذكر أني قلتُ مثل هذا الأمر أثناء الحرب الأخيرة، وآهٍ منك أيتها الأخيرة الأولى: لقد ارتبط اسم "قائد عسكري" في ذاكرة الجماهير، خلال ثلث قرن من الزمن، بقضايا "الأراضي" ومظلوميّات المواطنين. يمكنكم مراجعة الشكاوى التي لا انتهاء لها في أي صحيفة محليّة. بيسر شديد ستقع أعينكم على هذا الثالوث: قائد عسكري، مواطن، مناشدة. وهذا ارتباط غير صحّي، ضار جدّاً بمؤسسة من المفترض أنها " حزب الأمة وحامية مكتسباتها الفردية والجماعية"!

قبل أربعة أعوام ألقى السيد الرئيس خطاباً أمام النخبة، أو My Elite كما كان الرئيس بوش يخاطب نخبته الطفيليّة. ملاحظة: لا أتهم نخبة رئيسنا بالطفيليّة، أعني: لستُ أنا من فعل ذلك، إنه البرلمان! قال لهم الرئيس بيقين لا تهزه الوقائع المعاكسة: إنكم أشرف رجال اليمن. على الأقل كان من بين الحاضرين حوالي 30% من الأسماء التي شملها تقرير اللجنة البرلمانية، أما ال70% الباقية فقد شملهم وصف السيد الرئيس على بعد. فهؤلاء القريبون ما قطعوا وادياً ولا نالوا من عدوٍّ نيلاً إلا كان البعيدون معهم .. حبسهم العذر عن الحضور. قريباً من هذا، وبنسبة 100% من الذين شملهم تقرير باصرّة هلال كانوا بين الحاضرين، يتسلّمون بأنفس راضية لقب: أشرف رجال اليمن.

مرة رابعة: كان التقرير فاجعاً، بالنسبة لي على الأقل. فقائد القوات الجويّة في الحديدة (وفي رواية: قادة عسكريون في الشرطة الجوية يقعون تحت إمرته) كان يهدِم سور أول منشأة لتحلية المياه في اليمن، استثمار سعودي بنسبة 62%، في الوقت الذي كان فيه وفد اليمن يشترك في مؤتمر الرياض الأخير لأصدقاء اليمن. تقريباً: في نفس ساعات الاجتماع. لم يقل التقرير هذه المعلومة لأنه لم يكن بحاجة إليها. وفي البرلمان، أثناء توزيع التقرير، وقف شخصٌ أنيق، مظهره يشابه إلى حد بعيد مظهر الروائي العالمي باولو كويهلو. اقترب من النائب شيبان وحاول الاعتداء عليه. بينما تمكّن نائبٌ آخر، لا يشبه باولو كويهلو طبعاً، من تسديد لكمة إلى كتف زميله. أما رئيس البرلمان فقد استخدم ألفاظاً قاسية، ضد برلماني في القاعة، فضّلت وسائل الإعلام أن تشير إليها بقوسين فارغين. دخل اسم أمين "التشاور الوطني" والرئيس الدوري للمجلس الأعلى للقاء المشترك في القائمة. قال أعضاء البرلمانية إن هذين الاسمين أضيفا دون موافقة كل أعضاء اللجنة. هذه مجرد فضائح صغيرة Micro-scandals! تحيط بالجريمة الوطنية.

الجريمة الوطنية يمكن تلخيصها في هذا الإطار: الشيخ، القائد، الفنان، القاضي، الوزير، المحافظ. كان هؤلاء طرفاً فاعلاً في الجريمة. الطرف المفعول بدا هكذا: المواطن، الدولة. الطرف الأول مليء بالأناقة القاتلة، أما الطرف الثاني فهو المهزوم، المالك الوحيد للشرعية، شرعية الحذف والإضافة، شرعية الخلع والتنصيب. ورد في التقرير اسمٌ قيل إنه استحوذ على مساحة من الأرض تعادل مساحة قطاع غزّة تقريباً (285 كيلومتر مربّع). اسمٌ آخر اختطف ما يقترب من مساحة الفاتيكان. أما إجمالي ما نهبته الشخصيات الوطنية (اليمن في قلوبهم) فقد تجاوز مساحة إمارة دُبي، أو البحرين، أو سنغافورة! هذا ما انكشف في عشرة أيام فقط. ناهيك عن ما فعلته تلك الأسماء الكبيرة التي سقطت من الكشف، بالتوجيه المباشر، قبل توزيع التقرير. وتلك التي خشي معدو التقرير من الإشارة إليها. بمعنى آخر: تلك التي خشي الشاكي من الحديث عنها إلى اللجنة.

كنّا نقرأ الأرقام – الأرقام لا تمزح، لو سمحتم- ونفرك جباهنا. تعلن الجهات الحكومة عن افتتاح مشروع( بتمويل خارجي، بالطبع) صغير للغاية بتكلفة باهظة. في حين يفتتح المسؤول نفسه، المشرف على مشروع الحكومة، مشروعه الخاص بحجم أكبر عشرات المرات من المشروع الحكومي (مستشفى، مثلاً) وبتكلفة لا تتجاوز ربع تكلفة المشروع الحكومي. هكذا كان يجري تهريب اليمن من الزمن النوعي الراهِن، إخفاؤها قسرياً بطاقيّة الفساد. وقبل خمس سنوات من مراجعة نتيجة أهداف الألفية الثمانية، التي وضعت في العام 2000، يتحدث اليمنيّون عن إمكانية دفع رواتب الموظفين في الأشهر القادمة.

هذه الفضيحة المدويّة، تسونامي اليمن المعاصر، تحيلنا من جديد إلى أحدث خطابات الرئيس: يوجد الفساد حيثُ يوجد رأس المال الضخم، الشركاتية. كانت هذه النظرية هي آخر ما ابتكره مستشارو الرئيس لأجله. هم في العادة يبتكرون النظريات التي توقع رئيس البلاد في تناقضات هشّة للغاية. رددها الرئيس أمام وسائل الإعلام العالمية، في آخر ثلاثة أسابيع، باعتبارها نقطة قاتلة في إلجام المتحدثين عن الفساد. طبعاً لم ينتبه مستشارو الرئيس إلى معلومة ضئيلة تقول: إن رئيس جامعة صنعاء، مثلاً، متّهم باختلاس مبلغ مالي يعادل ثلاثة أضعاف التهمة الموجّهة ضد مدير بنك " فريدي ماي" أكبر بنوك العالم وفتيل انهيار الرأسمالية! تُرى كيف سيفكّك مستشارو الرئيس هذه الواقعية الجديدة: كيف فشل تصوّرهم العبقري عن الإحاطة بهذا الشكل الهمجي من أشكال الفساد، سرقة الأرض، الذي ينتمي إلى عالم ما قبل الشركاتية والكوربوراتورية والكمبورادورية؟ قال لنا إبراهيم الكوني في روايته " نزيف الحجر" إن سرقة الأرض وما تحتها هو أبشع أنواع اللصوصية، فهو تفتيت لأسرار الأم التي تمنحها الحياة. نحواً من هذا المعنى، وليس بالضبط. الأمر له علاقة بالإقطاع على الصورة التالية: ما يحدث في الحديدة الآن هو أكثر بعشرات المرّات مما فعله القتلة البروتستانتيون الفارون من الجزر البريطانية بالهنود الحُمر في أميركا. على الأقل، كان الهنودُ الحمر اليد العاملة لفترة طويلة، طبقاً للكتابات التاريخية التي تناولت تاريخ الثروة في أميركا. كما أن كل ذلك كان سرقة في ظلام الأرض الجديدة، وليس في عالم النور والمعرفة. فهل كان نزار قباني يقصد أبناء الساحل، في بلدتي العظيمة، وهو يقول: لن تجعلوا من شعبنا شعبَ هنودٍ حُمْر؟

خاتمة للناس الذين في الأعالي:
في إلياذة هوميروس يسقط الأمير باريس، نجل بريان ملك طروادة، أمام زوج هيلين وشقيق أجاممنون، الملك اليوناني الذي أحرق طروادة. كانت هيلين، التي هجرت زوجها وفرّت مع باريس، ترقب المشهد من أعلى سور في طروادة. الجيوش أيضاً كانت ترقب المبارزة من الطرفين، في الساحة التي أمام الحصون. حتى أخيليس نفسه كان ينظر ويبتسم. كان الدم ينشعُ من جسد باريس وجسده يرتجف، فقد بدا أنه لا يجيد استخدام السيف، ولا علاقة له بالفروسية وشؤون الرجال. إنه فقط يجيد مغازلة النساء واختطافهن وحسب. في تلك اللحظة صرخ الفارس اليوناني بصوته العالي يخاطب زوجته الهاربة هيلين: هل هذا هو من تركتِني لأجله؟ بترجمة أخرى: هل هذا هو بطلُكِ النقي، صاحب الرصيد النضالي والوطني؟ وبالمصري: همّا دُول الأبطال بتوعك يا هيلين؟ جتها خيبة اللي عايزه خلَف!

المصدر أونلاين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.