لماذا يكون ابناء وبنات الأعلام الوطنية في العالم العربي غالبا فاسدي الرأي والسلوك في المجال العام؟ قبل مقاربة هذا السؤال، نورد هنا عامل التشويش والتضخيم لهذا الموضوع، وهو القياس الخاطئ على الآباء، وهنا تظهر "فداحة" سلوك الأبناء، واذا ما ابعدنا القياس فإننا سنرى سلوكهم في حجمه الطبيعي كفاسدين او متملقين، كما المئات من امثالهم القادمين من أسر غير معروفة. والآن، بامكاننا مقاربة هذه الظاهرة، وهي ظاهرة طبيعية في سياق الأنظمة السياسية في العالم العربي في رأينا بعكس ما يعتقد الكثيرون، ولهذا عدة اسباب، اول سبب أن المناضلين الوطنيين في العالم العربي كانوا غالبا من ذوي النهايات التراجيدية، وظلموا في حياتهم وبعد مماتهم، وهذا الشعور يبرر لذويهم ارتكاب الكثير من التجاوزات بدعوى ان "الوالد" لم ينل حقه من التكريم، هذا الشعور بالمظلومية يمثل تبريرا نفسيا مهما وقويا للسلوكيات المنحرفة.
من جانب آخر، تتميز الحياة السياسية العربية بتقلبات قوية، وحين يأتي "رئيس" جديد، يدعي احداث قطيعة مع سلفه، كما فعل السادات ومبارك وزين العابدين على سبيل المثال، ومن ضمن السلوكيات التي تتبع لإعلان هذه القطيعة هو الإغداق على أسر الوطنيين الذين قضوا في عهود سابقة وكان هناك عداء رسمي او ضمني ازاءهم، وهو اغداق بالمناصب والمساكن والمرتبات الشهرية وما شاكل.. هذا جانب.
من جانب آخر، يقوم النظام السياسي بالإغداق على أسر المناضلين لأن هذا يعد عملية تجميل له، ويحرص جهاز الدولة على اعلان العطاء والتكريمات في وسائل الإعلام اظهارا ل"كرم" و "انصاف" فخامة الرئيس للرموز الوطنية، والنظام يعرف وزن هؤلاء المناضلين في الضمير الجمعي، فيستثمرهم من خلال ابنائهم وبناتهم.
بالإضافة الى كل هذا، هناك خلل رئيس في الوعي السياسي للتشكيلات الحزبية العربية، وهو خلل الوعي الريفي، فتكريم الرمز الوطني من قبل وعي مديني، يكون بتبني افكاره، المطالبة بادخال سيرته في المساقات المدرسية، المطالبة بتسمية شوارع باسمه، بناء متاحف له، تشجيع كتاب ومؤرخين لانجاز تراجم له، تسمية مركز بحثي بإسمه، جمع اعماله الكاملة وطباعتها و...الخ، ولكن الوعي الريفي يكرم الرمز الوطني ب"تقريب" الولد، فهؤلاء من ريحة المرحوم -هناك منشور جيد للدكتور معن دماج حول هذه الممارسات- وحين يفكر حزب سياسي في تكريم رمز وطني، فإنه يعين احد اولاده او بناته في منصب حزبي او مؤسساتي، ومثال صغير على هذا هو مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، فما هي بواعث اعطاء العضوية للسيدة آسيا عبدالفتاح إسماعيل، على سبيل المثال لا الحصر؟ طبعا لا شيء الا انها إبنة الشخصية الوطنية المعروفة، وقس على هذا في بقية الأحزاب.. فكلها تعاني من هذا الخلل المفجع.
بسبب كل هذه العوامل، يجد الأبناء انفسهم في قلب اغراءات "فتات" السلطة، وهو فتات يأتي بلا تعب ولا كد، بعكس الفاسدين واللصوص الكبار الذين كان طريقهم للمناصب في جهاز الدولة شاقا ومليئا بالتملقات والاهانات والذل واقتراف الجرائم، وبالتالي فمن الطبيعي ان يكون الأبناء مساقين في هذا التيار، بل وبأريحية يضمنها الشعور بالمظلومية والحق في "العيش" والتنعم بعد تضحيات الوالد.
الذي يستحق الإعجاب والتعجب فعلا هو اولئك الأبناء والبنات الشرفاء والمقاومين لفتات السلطة رغم وزن الأب الوطني والأخلاقي، اولئك الرافضين لاستثمار ذكرى والدهم من خلالهم لتجميل قذارات أنظمة رثة ومتخلفة.. وهؤلاء ايضا موجودون في العالم العربي، ولكنهم مثل كل الجيدين في المجتمعات البشرية قليلون.