كليّ ثقة أن الحوادث التي عرضت لي في بحر الأسبوع الماضي التقت بمحض صدفة من القدر. إلا أنها جميعاً صبت في نفس البحر الذي يجدر بنا الخوض فيه. تلكم هي ثقافة الاختلاف في العقل العربي. *** أولى تلك الحوادث كانت حديثاً عن الفتنة الكبرى التي جرت بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم جميعاً، وهي ما شقت جماعة المسلمين إلى سنة وشيعة. السؤال الذي طرحته عندها، وظل معلقاً، هو مدى صواب جمهور الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة وتجنبوا الاصطفاف إلى جانب جماعة المسلمين التي تولى أمرها الإمام علي كرم الله وجهه، أو إلى معسكر سيدنا معاوية رضي الله عنه، الذي صدق فيه وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه الفئة الباغية (بقتله عمار بن ياسر رضي الله عنهما). فلو افترض المرء اجتناب الصحابة الكرام الفتنة صواباً من الناحية الشرعية للدين، فهل يمكن وصفه بالصواب من الناحية الاستراتيجية للأمة؟ الحادثة الثانية، ما تزال تداعياتها ماثلة للعيان في الصحف والمنتديات الإلكترونية القطرية، وهي وإن بدأت بقرار إداري حول تحويل مكافأة صحفي قطري من الراتب الشهري إلى المكافأة بالقطعة، فإنها وصلت إلى طرح التساؤلات حول وضع الصحافة القطرية ومقدار الحرية المتاحة لها. ولمن لم يصله من علم المعارك التي تدور على صفحات الجرائد شيء فإني أعلمه بأن الوضع وصل إلى درجة التكفير السياسي والطعن في الولاء للوطن، تأكيداً لوصف الزميلة نورة آل سعد بأنها «صحافة ردح»! أما الحادثة الثالثة فقد جرت في مسجد منطقتنا، حيث أرسلت وزارة الأوقاف تعميماً يطلب من أئمة المساجد تأخير صلاة المغرب لعشر دقائق بعد الأذان عوضاً عن الخمس التي كانت تؤدى بعدها. وكم دُهشت لما آل إليه الوضع بعدما طرحتُ الموضوع للنقاش مجدداً، بعد نحو أسبوعين من تطبيق ذلك التعميم. وحيث كنت أرى الضيق على الكثيرين خلال فترة الانتظار الجديدة للصلاة، فقد رجح على ظني أن الاتفاق، أو على الأقل الغلبة، لم يريدوا تقليل تلك المدة سيكون هو الراجح على الموقف. إلا أنني وجدت الآراء المطروحة متباينة والتركيز على الموضوع قيد البحث معدوماً، لدرجةٍ أدت إلى وقف النقاش عوضاً عن محاولة البحث عن حل يرضي أطراف المسألة. وهذا ما جَرّني للحديث عن ثقافة الاختلاف لدينا.
*** أول ما جال بخاطري أنني التمست شيئاً من العذر أخيراً للزعماء العرب عندما يختلفون على قضايانا بل وثوابتنا. ذلك أنهم نتاجٌ طبيعي للبيئة التي أفرزتهم، وأفرزت معهم هذا الكمَّ الهائل من القدرة على عدم تغليب المصلحة العامة (مثل مصلحة الأمة بأسرها) على المصلحة الخاصة (حتى لو كانت من باب الخلاص الروحي للإنسان الفرد) بل والشخصية أحياناً. أذكِّر في هذا المقام بقول سيدنا عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، بعدما رأى ما كان سيدنا علي بن أبي طالب يعمل على وأده من تحول الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض. فكان تعليقه في آخر عمره بعدما انتقضت عروة الحكم في الإسلام أن قال» «ما آسَى على شيءٍ إلا أنّي لمْ أقاتِل الفِئة الباغِية»! الغريب في الأمر أن الخلاف في مسجدنا حول صلاة المغرب أنهاه بعض كبار السن بقولهم إن العرب لا يمكن أن يصلوا إلى اتفاق أيّا كان، وذلك رغم أن البعض لم يقل رأيه في الموضوع بعد!
*** المهم الآن أن نبحث عن وسيلة الخلاص من شُقة الخلاف إلى ثقافة الاختلاف. فالأولى هي التي تمزقنا أشتاتاً، والثانية هي السبيل لتقبّل الآخر وتغليب المصلحة العليا على مصالح الأفراد. مهمٌ أولاً أن نعرف أننا ما نزال في المربع الأول، حيث نحتاج الكثير لتعلم ما نفتقده من أبجديات الحوار البناء. وذلك على الرغم من أن في تجربة الأمة التاريخية ما يساعد على بلوغ المرام في هذا السياق. ولعل بإمكاننا البدء بتجاوز ذلك الوهم بأن الخلاف بين العرب حتمية تاريخية، لا مناص من التعايش معهاً عوضاً عن حلها. وهذا لن يتم إلا بتأكيد انتمائنا للأسرة الإنسانية التي لا تخلو من خطأ في سبيل الوصول إلى الصواب. فالخصوصية السلبية التي يرغب البعض في تأكيدها لنا (أو بالأحرى علينا) ليست إرثاً جينياً نزعناه من آبائنا الأولين، كما يحاولون إقناعنا. بل هي نتيجة طبيعية للظرف التاريخي الذي نعيشه والبيئة التي تحيطنا والثقافة التي نتداولها يومياً. كما أن من الضروري الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال. ومن باب معرفة الفضل لأهله، فإن الحضارة الغربية المعاصرة تمكنت اعتباراً من عصر النهضة الأوروبية من تقنين ثقافة الاختلاف بين مختلف الناس. صحيح أن ذلك جاء نتيجة مراكمة خبرات مئات السنين، لكن المهم أنهم وصلوا إلى مستوى راقٍ في الحوار. حيث بات متعارفاً عليه بين الغالبية منهم تغليب العقل على العاطفة، والتركيز على الموضوع قيد البحث لا على الشخص المقابل، وكذلك التفريق بين الأفكار التي يدور حولها النقاش وبين المتكلم بها، وكل هذه المسائل تبدو شبه معدومة لدينا في الحوارات التي يشهدها المرء (هل أحتاج للاستشهاد ببرامج فضائياتنا الحوارية)؟. وأزعم أن المحاضن الأولى للأطفال هي المنبت الطبيعي لتلك الثقافة الإيجابية، مثل البيت والمدرسة. فمن هذين المكانين تنشأ ثقافة الطفل وقيمه الأصلية التي تبقى معه بقية عمره. إذ ينبغي تشجيعه على ممارسة تلك الثقافة مع القيم الإيجابية التي تصاحبها مثل حقه في التعبير عن رأيه، حتى لو كان مغايراً لعموم ما يقال، واحترامه للآخرين عندما يقولون ما لا يقبله من وجهة نظره الخاصة، بل والتأكيد على أن الإنسان، مهما كان عمره أو جنسه أو جنسيته، لا يمتلك الحقيقة كاملة. فمن المهم تربية الأبناء على أن كلامهم قد يكون صواباً لكنه يحتمل الخطأ، وأن كلام غيرهم قد يكون خطأ لكنه يحتمل الصواب أيضاً. وختاماً، سيكون من الضروري أن نتعلم أن مصلحة الجماعة تبقى مقدمة على رغبات الفرد، ما دامت لا تضره بشكل مباشر. وهذا أمر نحتاج تعلمه بأنفسنا أولاً، ومن ثم تعليمه لأبنائنا ليدركوا أن الأمور لن تسير دائماً على هوى ما يشتهون، وأنهم مطالبون باحترام قرار الأغلبية بعدما يثبتون وجهات نظرهم وينتهي النقاش. هذه الثقافة تحتاج لأن تدخل في أساليب الوالدين التربوية ومناهج المدارس التربوية حتى تغدو عادة فطرية يمارسها الجيل المقبل في كل شأنه. وليس مثل الممارسة الجادة ما يجعل هذه الثقافة حاضرة في كل خلافاتنا، لتساعدنا على الوصول إلى ما يرضينا جميعاً دون تخوين أو تعصب أو فرقة. إذ من المهم أن نتفق على حاجتنا للاختلاف. فليس قدراً علينا ألا نتفق!