سريعاً هي الأيام تمر، لكن الذكريات تظل عالقة في الذهن عصية علي النسيان..وأنا أعيش تفاصيل أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت أستعيد تفاصيل دقيقة عشتها خلال شهر رمضان الفائت في وادي عبيدة على بعد كيلومترات عدة من مدينة مارب. كان لرمضان في مارب الأرض، والناس، والزمن، مذاقاً مختلفاً بل فريداً لا يشبه غيره، ورغم أني كنت بعيداً عن الأهل ورغم صعوبة العيش في الريف الماربي حيث يعاني الناس شحة في الخدمات إلا أن جمال قلوب أبنائها غطى كل تلك النواقص.
في بيت العم حسن عويضة كانت دعوة مفتوحة طيلة شهر رمضان لجدول يبدأ من قبل صلاة المغرب وحتى بعد صلاة التراويح مرت خفيفة كطيف وشعرت بحميمية صادقة، وتلقائية نابعة من تعامل عفوي لقوم يحبون الضيف حد إشعاره أنه واحد من أفراد العائلة.
على ضوء القمر كنا نتسامر لوقت قصير بعيد الإفطار نستعرض فيه أخبار الانتصارات والانكسارات التي تشهدها الجبهات المختلفة في مارب حين كان مقاتلو عصابة الحوثي وصالح لا يزالون على بعد قذيفة من مدينة مارب.
«آل عويضة» نموذج للأسرة المقاومة كان أفرادها يتناوبون على الجبهات وكأنما يدافعون عن منزلهم، لم يتسرب إليهم وهن، ولم يصبهم إحباط، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن الأسرة التي كان اثنان من أبنائها مصابين لم يحدث أن اجتمع كل الشبان القادرين على حمل السلاح على مائدة واحدة طوال الفترة التي قضيتها بينهم..
كنت أقرأ نصراً أكيداً لمارب في نظرات العم حسن، فحتى بعد استيلاء مليشيات الحوثي وصالح على مدينة الحزم عاصمة محافظة الجوف واستقبال المنطقة «عرب واجد» من المقاتلين المنسحبين إلى مارب، لم تتزعزع ثقة العم حسن بالنصر ولم يخب ظنه بالله.. «ترى ما بنسلم مارب للحوثة وما بايدخلوها إلا إذا صرنا جثث» يقولها العم حسن بصوت منهك بعد يوم مضنٍ قضى معظم ساعات نهاره متنقلاً بين الجبهات يزودهم بما ينقصهم من ذخائر متحملاً مشقة الصيام والحر، وثلاثة إلى أربعة من أولاده يشاركون المقاتلين في جبهات مختلفة.
كان ينظر إلى فناء منزله الواسع المحاط بمزارع البرتقال وكأنه يتخيل عصابات الحوثي تصل إلى المنطقة وتهين الرجال وتعبث بممتلكاتهم ويؤشر بسبابته «لا لا.. ما يمكن يدخلوا ديرتنا ونحن أحياء». عشت مع أهل مارب وتحديداً في وادي عبيدة وأدركت حجم التضحية التي قدمها الناس هناك دفاعاً عن بلادهم، وذاتية الدافع لدى معظم القبائل التي شكلت سداً منيعاً دون توغل الإنقلابيين شرقاً أو الوصول إلى حقول النفط والغاز .. ورغم أنهم يدركون أن خيرات هذه المحافظة تذهب لغيرهم فلم يكونوا ينتظرون إشادة من أحد وهم يسكبون دماءهم كل يوم في صحاري وجبال مارب.
لم يبق بيت في مارب تقريباً، وخصوصاً في مناطق «عبيدة ومراد وجهم» إلا وفيه شهيدٌ أو جريح سقط في معارك ضارية استمرت أكثر من عام، ولا تزال في صرواح، ظلت خلالها ماربالمدينة وما حولها عصية على جحافل الانقلابيين التي كانت تخوض هناك معركة مصيرية يتحدد على ضوئها مصير الإنقلاب.
واستقبلت مارب النازحين من معظم محافظات الجمهورية الذين سرعان ما تحولوا إلى مقاتلين دفاعاً عن الوطن الكبير الذي تحرسه مارب.
ولأن الرجال المخلصين كانوا يعتبرون مارب هي بيتهم انتصرت بفضل الله ثم بإصرارهم أن تكون مارب نموذجاً لتكاتف استعصى على محاولات بعض الفئران الذين حاولوا، بفعل لوثة العرق، خرق السد لكنهم لم يخرقوا سوى النسيج الاجتماعي لمارب التي احتضنتهم مواطنين كاملي المواطنة منذ جاؤوا إليها قبل قرون.
على بعد أمتار من عرش بلقيس وسد مارب العظيم تضوعنا عبق التاريخ الذي كانت تنبض به الآثار الشاهدة علي عظمة اليمن، وبين أشجار البرتقال تلونا التسابيح والابتهالات قبيل الغروب، وصلينا التراويح في مسجد النقيعا الصغير خلف المصور الفنان القادم من عمق القبيلة.
وفي «المحطة» كانت لنا ذكريات لا تنسى.. شكراً أصدقائي محمد الشبيري، حمد الصرارة، عبدالله القادري، سالم مثنى، وعلي عويضه، ولصديقنا مالك مصنع الثلج الذي مدنا بالطاقة وكان ثلجه يقاتل في الجبهات أيضاً.