في أعماقنا براكين متأججة، وحُمَم ملتهبة: خوف وشجاعة، أمانة وخيانة، عفة ووقاحة، حب وكراهة... فما الذي تقذفه هذه البراكين من أفواهنا؟ وأعيننا؟ وأفعالنا؟! ليس غريبا – إذن – أن يحب الإنسان وطنه كعاشق ولهان، أو يكرهه كما يكره الناسك الشيطان. وليس غريبا أن يكون درعا في جسد النفاق، أو يكون لساناً في فم الإيمان... فكل ذلك ليس غريبا عندما تسير العملية في خطوط متوازية، واضحة لكل ذي عينين. لكن عندما تتأجج (داخل إنسان) ألسنة الكذب والزور والبهتان، ثم يتظاهر أنه لسان أهل الصدق والإيمان – فإنه حطام!! وعندما تجف أودية الحب في عروق شخص ما، ثم يزعم أنه يتدفق بشلالات المحبة – فإنه حطام!! وعندما يركض حيوان العبودية بداخل إنسان، فيتغذى من لحمه، ويشرب من دمه، ثم يتظاهر أمام جماهير الناس أنه داعي دعاة الحرية، ورائد روادها – فإنه حطام!! وعندما يضع إنسان سكينته الحادّة على عنق القيم والأخلاق، ثم يدعو الناس إلى الحفاظ على (المَحْميّات) الأخلاقية – فإنه حطام!! وعندما يدخل المسئول رأسه بين فكّي تجار الوطنية، ويضع رقبته في الأيدي التي تلطخت ببكارة الحرية، ثم يدعي أنه حامي حماة الوطن – فإنه حطام!! وعندما يدّعي موظف أنه يجلس على كرسي النزاهة، ثم لا يتورع أن يغمزك بعينه: (خذ وهات) – فإنه حطام!! هؤلاء الحطام – ألا يخجلون من أنفسهم إذن؟!! إن أوطاننا لم تجن عليها أيادٍ ملوثة بدمائنا، ولا عقول مصممة على سحقنا، ولا قلوب مفطورة على كراهيتنا، ولا عيون رموشها مصنوعة من سهام الاحتقار لنا – كلا، فما جنى على أوطاننا إلا المراءون، الذين يظهرون غير ما يبطنون، ويعلنون غير ما يكتمون، ويقولون غير ما يفعلون!! لتكاد تلعنهم أنفسهم!!! حين يكذبون على أنفسهم، ويحتقرونها، ويخدعونها قبل أن يخدعوا الناس... ولكن لماذا يتوارى الصادقون المخلصون؟! ثم يلعنون أولئك المرائين!! إما أن يكون الصادق صادقا مع نفسه، فيقول: هاأنذا. وإما يكون كاذبا مع نفسه، فهو ليس إلا وجه من تلك الأوجه التي تبعث رؤيتها على الملل، وتمنحنا (صكوك التقيؤ)!! مجتمعاتنا التي نريد صيانتها، وصناعاتنا التي نريد تطويرها، وأراضينا التي نريد استثمارها، وأمننا الذي نريد حمايته، وميزانياتنا التي نريد مضاعفتها، ... الخ – كل تلك بحاجة إلى مخلصين، يناضلون لإنقاذ أنفسهم أولا، ثم إنقاذ من حولهم. شجار هنا، وحوار هناك!! ثم تتلاشى تلك الحوارات، وتتلاشى معها أمانينا التي علقناها على حبال الوهم، وتسقط أحلامنا التي أسندناها إلى جدار الزيف... لم نعد بحاجة إلى من يقول وما يقول، فحاجتنا إنما هي لمن يعمل بإخلاص وصدق وتفانٍ، دون طنين يوجع آذاننا ولا يُسمعها. *** "- زوربا: هؤلاء الحطام ألا يخجلون من أنفسهم؟ - صديقه: ماذا تعني بكلمة (حطام) يا زوربا؟ - زوربا: كل هؤلاء الملوك، الديمقراطيات، النواب، المرائين!" [من رواية (زوربا) للروائي اليوناني(نيكوس كازَنْتزاكس)]