عندما كنت في سن الخامسة (أو السادسة)، كنت أعتقد أن كل ما يُنشر في الصحف يكتبه الشخص نفسه. كانت جميع الصحف تبدو، على بعد مسافتي عنها، متشابهة ومتناسقة: عناوين كبيرة تليها نصوص مطبوعة بخط أصغر. حتى أني كنت أعتقد أن الصحف التي كانت تنتشر في المحلات ما هي إلا نسخ متطابقة للصحيفة نفسها. كان أبي يقرأ الصحيفة نفسها كل يوم، فلم انتبه وقتها أن للنسخ (الصحف) الأخرى أسماء مختلفة وأن هناك أكثر من صحيفة واحدة في العالم. انشغالي بعالم الأخبار تطور بعد فترة قصيرة. كان هذا عندما بدأت انتبه لنشرات الأخبار على التلفزيون، فأتيت حينها بإستنتاج آخر وهو أن من يكتب الأخبار في الصحيفة هو نفسه الذي يقرأها على الشاشة. كان ما اعتمدت عليه في إستنتاجي الجديد مطابق للإستنتاج الأول ولذا كان تحليلي منطقياً: كان أبي يشاهد القناة نفسها كل مساء عند الساعة الثامنة والنصف حتى أن المذيع نفسه لم يتغير، كان الصوت صوته دائماً، يتسرب من غرفة الجلوس إلى غرفتي. لكن بعد أن اكتشفت الحقيقة الصادمة، ولا أذكر كيف وأين، عرفت أن هناك أكثر من صحيفة وأن هناك نشرات أخبار تبث على جميع القنوات، حتى تلك التي كنت اتابعها لمشاهدة الرسوم المتحركة، في وقت آخر من اليوم، كانت هي أيضاً تعرض نشرة أخبار كاملة. ومنذ ذلك الوقت، صرت أحاول تمييز أسماء الصحف ووجوه مقدمي نشرات الأخبار.
كنت اطلب من أبي أن نحاول أن نشاهد الأخبار على قناة أخرى وكان يحقق لي رغبتي أحيانا. يحمل الريموت كنترول ويتنقل عبر القنوات. يقف عند واحدة، يسمع خبراً واحداً أو أكثر ثم يسخر من القناة أو (يشتمها)، يهز رأسه استنكارا، ثم يقول: ”شرفي”. قبل أن يرجع إلى حيث كان.
تطورت مع هذه العادة رغبتي في مشاهدة كل نشرات الأخبار وقراءة جميع الصحف، ربما محاولة مني لتعويض جهلي عن الخيارات الأخرى، تماما كما يكتشف الطفل، تدريجياً، ألعاباً جديدة في بيوت أخرى فيحاول الحصول على مثلها ليكتشف ميزاتها. لكن بقيت الصحيفة الوحيدة في العالم، كما اللعبة الأولى، صاحبة الحصة الأكبر والتأثير الأكبر في بيتنا و(حياتنا).
ثم، عندما فهمت أكثر، سألت نفسي: لماذا يختار ابي أن يقرأ صحيفة واحدة فقط، دونا عن غيرها من الصحف التي لا يبدو شكلها أقل جاذبية؟
‘إنه المضمون”. وكان الوقت قد حان لأتعرف على هذا المفهوم الجديد الذي لا علاقة له بالشكل أو الحجم أو التصميم . وبعد مرور عامين أو أكثر ، كبرت مع أسئلة جديدة: من يحدد المضمون المثالي الذي ينقل حقيقة الخبر؟ وما هي المعايير التي يتبعها الناس لتبني المضمون الأنسب، وما سبب اختلاف المعايير هذه عند جارنا الذي كان يقرأ صحيفة أخرى؟ ثم، كيف يمكن لهذا المضمون أن يحافظ على ثقة متابعيه مهما اختلفت الأحداث؟ في الحرب والسلم، في المناسبات والأعياد وحتى في أحبار الرياضة والفن؟
كانت هذه الأسئلة من نوع الأسئلة البريئة والعميقة في الوقت نفسه، وكان أحد الأقارب يرد على أسئلتي هذه بضحكة تقول لي أني غبية: ”بكرا بتفهمي أكتر، على شو مستعجلي يا عمو.”
وبالفعل، كبرت لكنني لم أفهم تماما ولم أجد، حتى الآن، الأجوبة الشافية لكل هذه الأسئلة. إلا اني فهمت ما كان يقصده قريبي وقتها، غير أن هذا ”الفهم” لم يجب عن سؤال واحد، بل عقّد المشكلة أكثر وخلّف اسئلة أكبر.
وبعد أن أصبحت واحدة من صناع المضمون، اتنقل من صحيفة إلى قناة إلى وكالة أنباء، مراقبة كيف يتكون هذا المضمون عن قرب وكيف يتغير محتواه من الوكالة إلى الصحيفة أو القناة، اكتشفت فاعل أو كاتب آخر للأخبار. نحن، القراء، من يكتب الأخبار ويقرأها، ليس هناك صحيفة واحدة في العالم كما كنت أعتقد في طفولتي، لكن هناك شيء شبيه لهذه الفكرة، طالما أن هناك تعصب لفكر واحد في كل بيت، مهما اختلفت الظروف. الفرق فقط أن القنوات والصحف تنقل لنا هذه الأفكار التي اخترناها مسبقا ولا نريد أن نغيرها، وهي بذلك تقدم لنا خدمة تجارية، شيء شبيه لما يطلبه المستمعون أو المشاهدون. وطالما ان كل منا يعيش في عالمه، سيكون هناك اكثر من عالم في هذا العالم، وسيكون هناك صحيفة واحدة وشاشة واحدة لكل عالم حتى لو اختلفت الوجوه والأسماء والصور. وليست الصحافة، في أيامنا هذه، سوى مهنة تجارية، وكنت قد حاولت مرارا رفض التعامل معها على أنها مهنة، لكنها كذلك، وهي كذلك في كل عالم من العوالم الأخرى. والحقيقة أن ما يغذي هذا الضياع أنه هناك عدد قليل جدا من التحليلات لمحتوى الصحافة المكتوبة أو المرئية وتأثيرها على المتلقي والرأي العام، وهناك غياب شبه تام للدراسات التي تتناول مدى تأثير السلطة والمصالح السياسية والإقليمية على حياتنا الثقافية والنمطية. وبذلك يصعب على الناس فهم ما يجري في هذا العالم الواحد، لأن الكل مشغول في ”إثبات” مثالية عالمه (وليس فهمه)، عبر الأخبار التي يختارها. وتبقى الأخبار، وفق هذا المنطق، خالية من العنصر ”الإخباري”. وضمن هذا المنظور، من الصعب جداً أن يكون هناك تقييم قائم على الدقة أو الحقيقة، أو وجود أدلة متفق عليها يمكن أن تكون مشتركة. ليس هناك دراسات كافية، مثلاً، حول العلاقة بين الأحداث العامة والاستنتاجات السياسية التي يرسمها الجمهور أو العلاقة بين هذه الاستنتاجات والعمل السياسي.
في الآتي مثال صغير على عالمين كبيرين يختصران بشاعة هذه الحقيقة. وهذه العناوين، في المناسبة، كلها مأخوذة من تقارير ”إخبارية” نشرت على الصفحات الأولى لصحف معروفة أثناء تغطيتها للحدث نفسه وفي الفترة نفسها، وهي ليست مقتطفات من تصريحات سياسيين تم استثمارها في عنوان لخبر، وهي ليست، أبداً، مقالات رأي.
”تحالف العدوان على اليمن” - ”تحالف إعادة الشرعية في اليمن”. ”العسيري يعلن انتصار الفشل” – ”الخطر الحوثي انتهى، اليمن يستعيد الأمل” - ”انتصر الحلم والدم في اليمن على وهم الحزم السعودي” – ”بعد تحقيق أهداف استراتجية، عاصفة الحزم تركز على حماية المدنيين وصد الميلشيات” . اعلامية وكاتبة لبنانية