من الواضح سيطرة الانتماءات الحزبية والولاءات الشخصية في تناولات غالبية الصحفيين ووسائل الإعلام اليمنية غير الرسمية لحادثة الهجوم الإرهابي على مجمع الدفاع بالعرضي، فمنذ الساعات الأولى للهجوم تسابقت وسائل الإعلام الحزبية والموالية للقوى الرئيسة في البلاد في توجيه أصابع الاتهام لخصومها بالوقوف وراء الهجوم الإرهابي، ضاربة بعرض الحائط ما تقتضيه المصلحة العامة في مثل هذه الحالات والحاجة إلى توحيد الصف وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية وتناسي الخلافات الضيقة، وتركيز الجهود في المساعدة على كشف الجهة المتورطة في الهجوم مهما كانت وضمان نيل الجناة العقاب الرادع بغض النظر عن انتماءاتهم وأهدافهم. -لكن ما نراه عكس ذلك، فكل ينظر إلى الهجوم من الزاوية التي تتناغم مع سياسته ومصالحه، والنتيجة المساهمة في تعقيد أكثر للمشهد وإرباك للتحقيق ومساعدة المتورطين، بقصد أو بدون قصد، في الإفلات من يد العدالة، وما يعنيه ذلك من إبقاء الباب مفتوحاً على مصراعيه لهجمات أخرى في المستقبل القريب قد تستهدف هذه المرة دار الرئاسة أو منزل الرئيس أو مقر رئاسة الوزراء أو فندق الموفمبيك أو الفضائية اليمنية أو.... من يدري؟ - مع مثل هذا المشهد المرتبك وما يحويه من معلومات متضاربة وتعدد الجهات المشكوك في تورطها في الهجوم، تكون معرفة الجهة التي تقف وراءه صعبة للغاية، لكنها ليست مستحيلة وبالإمكان في أسوأ الحالات تحديد المشتبه فيه، لكن بشرط التعاطي بمهنية وتجرد عند تحليل المعلومات المتوافرة عن الهجوم وتقييم منطقي للمبررات التي يسوغها كل طرف في اتهاماته لخصومه. - في عالم الجريمة أول ما يهتم به المحققون معرفة الشخص المستفيد من الجريمة، وهذا الأمر ينطبق أكثر في حالة العمليات الإرهابية الكبيرة، فهجمات سبتمبر 2011م مثلاً كانت إسرائيل والمحافظون الجدد في أمريكا المستفيد الأول من وقوعها، وكانت القاعدة المستفيد الثاني منها في تقاطع غريب للمصالح، لذا قدم الطرف الأول الدعم والتسهيلات غير المباشرة في حين قام الطرف الثاني بالتنفيذ،ورغم أن الكثيرين لا يصدقون ذلك إلا أن التطورات التي شهدتها السنوات التالية للهجمات والأدلة العديدة التي ظهرت تؤكد صحة ذلك رغم غرابة الأمر لدى البعض. - تكشف الصور المتناقلة في مواقع التواصل الاجتماعي للرئيس هادي ومرافقه أثناء تواجدهما في مجمع الدفاع بنفس الملابس التي حضرا بها الحفل العسكري في اليوم السابق للهجوم الإرهابي، عن تواجد الرئيس في المجمع من اليوم السابق ما يرجح فرضية أن هدف الهجوم كان اغتياله،طبعاً ومثل هذه المعلومة لا يمكن معرفتها إلا ممن له عيون داخل المجمع، كما أن حجم العملية الكبير وما تقتضيه من امتلاك إمكانيات مالية ضخمة واتصالات متطورة ودعم لوجيستي، كل ذلك حصر المشتبه فيهم في القوى الرئيسة على الساحة مع عدم استبعاد وجود دور ما لقوى خارجية في الأمر. - مع كثر التناولات لهذا الموضوع سأكتفي بالحديث عن دور القاعدة وخفايا الدور الأمريكي في العملية. تنظيم القاعدة يفترض أن تنظيم القاعدة هو المتهم الرئيس بالوقوف وراء الهجوم، لكن الحقيقة أنه الأداة التي نفذت الهجوم و بصماته واضحة للعيان في العملية خاصة ما يتعلق بأسلوب الهجوم المشابهة لهجمات القاعدة السابقة في بلادنا وفي دول أخرى، وتنفيذ الهجوم على مرحلتين وارتداء المهاجمين للباس العسكري وقتل خدمات البوابة الخارجية ثم إدخال السيارة المفخخة إلى داخل المكان المستهدف وتفجيرها واستخدام الأحزمة الناسفة، والتركيز على إسقاط أكبر عدد من الضحايا بين المدنيين والأجانب، إضافة إلى تبني القاعدة للعملية في بيان منسوب إليها. - لكن هناك العديد من النقاط التي ترجح أن المهاجمين هم من فرع القاعدة المخترق من قبل أحد مراكز القوى في البلاد ومن ذلك الشكوك في صحة البيان المنسوب للقاعدة لعدة أسباب هي: 1- تبني القاعدة للعملية عبر تغريدة في تويتر في أسلوب جديد وعدم نشر مواقع القاعدة المعروفة له و سرعة تبنيها للعملية، خاصة أن القاعدة لا تعلن تبنيها للهجوم إلا بعد أسبوع أو أكثر وليس تبنيها خلال الهجوم، لكن في اعتقادي ليس هناك ما يمنع من سعي القاعدة لتطوير أسلوبها واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لإيصال رسالتها في أسرع وقت. 2- الصيغة الخبرية للبيان، كون بيانات القاعدة تحوي في العادة آيات قرآنية وإشادات بمنفذي العملية، إضافة إلى إطلاق مسمى على العملية كغزوة العرضي مثلا لكن البيان خلا من كل ذلك. 3- بالنسبة لقتل المهاجمين لكل من وجدوه داخل المستشفى فهناك هدفان على الأرجح، الأول ضمان تصفية الرئيس هادي في حال تنكره كأحد المرضى أو الزوار أو لتأكيد وقوف القاعدة وراء الهجوم بقتلها للعاملين الأجانب في المستشفى، لكن القاعدة لا يمكن أن تخصص هجوماً بمثل هذا الحجم من أجل قتل أطباء وممرضين أجانب، وكان من المفترض تخصيصه لقتل خبراء عسكريين أو مدربين أو دبلوماسيين، كما أنها لم تعد بحاجة لعمليات إرهابية لإثبات وجودها وقوتها في اليمن بعد سيطرتها على أبين وأجزاء من شبوة وسلسلة من الهجمات الكبيرة في حضرموت والبيضاء والأمانة. 4- ذكر البيان المنسوب إلى القاعدة أن الهدف من العملية هو استهداف غرف عمليات الطائرات التجسسية بعدما ثبت لدى المجاهدين أن المجمع يحوي غرفاً للتحكم بالطائرات بدون طيار ويتواجد فيه عدد من الخبراء الأمريكان، لكن حسب علمي ان عمليات التجسس من اختصاص المخابرات الأمريكية (سي إي ايه) ومن ثم فان غرفة العمليات المشتركة في بلادنا ستكون على الأرجح في الأمن القومي وليس في وزارة الدفاع. -أذا ما افترضنا صحة وجود غرفة عمليات لطائرات بدون طيار، لكن اللافت أن المهاجمين ركزوا خلال العملية على السيطرة على المستشفى ومبنى المختبرات، في حين أن البيان لم يشر إلى أن الهدف من الهجوم اغتيال هادي رغم أن القاعدة لا تخفي رغبتها في تصفيته. - جنسية المهاجمين - لعل أكثر ما يثير الاستغراب بشأن الهجوم ما ذكرته لجنة التحقيق في تقريرها الأولي بأن غالبية منفذي الهجوم سعوديو الجنسية وذلك لعدة أسباب هي: 1- تعتبر المرة الأولى التي يتم فيها تنفيذ هجوم إرهابي في بلادنا من عناصر غالبيتهم غير يمنيين، صحيح أن هناك هجمات إرهابية سابقة شارك فيها سعوديون، لكن عددهم لم يتجاوز ال2 أو ال3 على أقصى تقدير في الهجوم الواحد، وربما هناك من سيقول إن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب جاء نتيجة اندماج فرعي القاعدة في اليمن والسعودية قبل عدة سنوات، لكن المعروف أن نسبة السعوديين فيه لا تزيد عن الثلث وتتركز أهميتهم في تمويل معظم نشاط التنظيم. 2-كان يفترض عدم الكشف عن هذه المعلومة حتى يتم إرفاقها بمعلومات تفصيلية عن المهاجمين كأسمائهم وصورهم لتعزيز مصداقيتها، وظهر الأمر وكأن هناك جهة ما تحاول الزج بالسعودية في القضية وتوجيه أصابع الاتهام إليها بالوقوف وراء محاولة اغتيال الرئيس ضمن محاولات لتصفية الحساب مع الرياض، وهنا يمكن أن نتحدث عن احتمالين غير مستبعدين هما : -الأول: وقوف مستشار الرئيس الجنرال العجوز ومن خلفه جماعة الإخوان وراء ذلك ضمن عملية تصفية حسابات مع السعودية لقيادتها التيار المعادي للإخوان في مصر وعدد من دول المنطقة خاصة مع توطيد الجنرال والإصلاح لتحالفهم مع قطر على حساب علاقتهم بالسعودية . -الاحتمال الثاني: وقوف واشنطن وراء الزج بالسعودية في القضية ضمن عملية كسر العظم المتصاعدة بين الرياضوواشنطن على خلفية توتر العلاقة بينهما في الأسابيع الماضية، وفي كلتا الحالتين لابد أن تقدم لجنة التحقيق أدلة واضحة ومقنعة تؤكد صحة كلامها وإلا فقدت مصداقيتها ومصداقية كل ما ستضمنه في تقريرها عن الهجوم، كما سيظهر الرئيس هادي في موقف صعب إما بكونه مطلعاً على ما يحدث ومن ثم مشارك بدرجة ما في استخدام ورقة الإرهاب لاستهداف السعودية ولتحقيق مصالح ضيقة حتى ان كان على حساب دماء اليمنيين وأرواحهم، أو أنه مغيب تماماً عما يجري حوله حتى بالنسبة لتحقيق في عملية استهدفت حياته. تربص أمريكي.. ليس خافياً أن التسهيلات العديدة التي حصل عليها الأمريكيون في عهد الرئيس هادي في مجال مكافحة الإرهاب سواء في قاعدة العند أو سقطرى أو في محيط السفارة الأمريكية بصنعاء أو في اتساع رقعة عمليات طائرات بدون طيار لتشمل جميع المناطق اليمنية منها العاصمة والمدن الرئيسية، وكل ذلك جعل من الرئيس هادي حليفاً استراتيجياً بالغ الأهمية بالنسبة للامريكيين يجب المحافظة عليه، لذا يمكن فهم الحرص الأمريكي على تأكيد مواصلة دعم ومساندة الرئيس هادي. -بعد استكمال إجراءات هيكلة الجيش وما نجم عنها من تفكيك قوات الحرس الجمهوري وإزاحة أقارب الرئيس السابق من مناصبهم العسكرية والأمنية تجاوز الرئيس هادي عملياً عقبة الرئيس السابق في طريق إحكام سيطرته على الجيش، لكن الوضع كان مختلفاً بالنسبة للجنرال العجوز، فتفكيك الفرقة وإزاحته من قيادة المنطقة الشمالية الغربية لم يؤثر في نفوذه في الجيش إن لم يكن قد زاد مع تعيين عدد من القيادات الموالية له في كثير من المناصب والمواقع المهمة ليس في الجيش فقط وإنما في البلاد بشكل عام . - بعد تعيينه كمستشار للشئون الأمنية والعسكرية أخذ الجنرال يتصرف كنائب للرئيس، ورغم أن هادي يستمع إليه في كثير من الأمور، إلا أنه يريد أن يكون المتحكم في كل شيء وصاحب الكلمة الفصل، فتحول الجنرال العجوز إلى عقبة حقيقية أمام طموح هادي، وكانت نتيجة ذلك تصاعد التوتر في علاقة الرجلين، وقد حاول الجنرال مرارا إخضاع هادي وإقناعه بعدم قدرته على إدارة البلاد من دون مساعدته عبر إرسال عدة رسائل بدأها بتدشين صحيفة أخبار اليوم التابعة له لشن حملة إعلامية ضد التمديد . - في حين كان الهجوم على مبنى القيادة العسكرية الثانية بالمكلا الرسالة الأقوى للجنرال، وقد تفاقم الخلاف بين الرجلين بعد محاولات الجنرال الإفراج عن قادة عسكريين متورطين بأحداث المكلا، إضافة إلى رفضه تسليم مقر الفرقة إلى أمانة العاصمة والشكوك القوية بوجود يد للجنرال في سلسلة الاغتيالات المتلاحقة بحق قيادات أمنية وعسكرية. -يبدو أن الرئيس هادي حصل على دعم أمريكي في صراع النفوذ مع الجنرال، لذا تجاهل هادي هذه المرة بذل أي محاولات لاحتواء الخلاف مع مستشاره، وكانت القطيعة واضحة بينهما في الفترة الأخيرة مع تغيب الجنرال عن اجتماعات هادي مع القيادات الأمنية والعسكرية، وهناك معلومات عن مغادرة الجنرال غاضباً قبل نحو أسبوعين جراء عدم تمكنه من مقابلة هادي بعد انتظار لأكثر من ساعة . -لاشك أن قرار الجنرال ترك القصر الجمهوري تحت ذريعة حادثة تسرب الغاز في البوفية الملحقة بمكتبه واعتبارها محاولة لاغتياله، واستخدامها ذريعة للعودة إلى مقر إقامته السابق داخل الفرقة، مثل هذا التأزم الخطير في علاقات هادي بمستشاره -الذي قد يقدم على أي شيء للحفاظ على مصالحه- لم يكن غائباً عن عيون واشنطن، التي ظلت تراقب الوضع عن كثب وبهدوء شديد منتظرة أن يقدم الجنرال العجوز على اغتيال هادي عندما تحين الفرصة المناسبة. -يبدو أن واشنطن سهلت للجنرال الوقوع في الفخ عبر الإيعاز للرئيس هادي بالانتقال إلى مجمع وزارة الدفاع بعد حضوره العرض العسكري بمناسبة عيد الجلاء، وتم تسريب معلومات عن وجود الرئيس في المستشفي لزيارة حفيده، في حين كان متواجدا في مكان محصن داخل المجمع، وقد سعت واشنطن من ذلك تحقيق عدة أهداف أهمها جعل هذه الحادثة محطة انطلاق للتمديد للرئيس هادي بعد المعارضة الكبيرة لذلك من قبل الجنرال والرئيس السابق وغالبية قيادات المؤتمر الشعبي، حيث تم استخدام الحادثة بذكاء شديد لمصلحة الرئيس هادي الذي يعتبر الكاسب الأبرز منها وذلك من خلال: 1-لاشك أن الحديث عن محاولة اغتيال الرئيس وبالذات من قبل إرهابيين ومن حملة الجنسية السعودية سينجم عنه موجة تعاطف شعبي غير مسبوق بصورة قد تمكنه من استعادة جزء كبير من شعبيته التي استنزفها طيلة العام الماضي خاصة مع سقوط أحد أقاربه في الهجوم الإرهابي. 2-رفع شعبية الرئيس عبر تقديمه في الحادث في صورة مغايرة تماماً عن الصورة النمطية له لدى الرأي العام جراء اتهامات خصومه له بحكم البلاد من البدروم، فظهر كقائد شجاع صلب متحد لخصومه وغير مكترث بالمخاطر المحيطة به. 3- استغلال الهجوم لإزاحة الجنرال تماماً من السلطة أو في أسوأ الحالات تقليم أظافره والحد من نفوذه وتدخلاته، ولاشك أن تطورات الأيام القادمة ستكشف مدى صحة هذا الطرح من عدمه. [email protected] * المصدر: صحيفة "المنتصف" الأسبوعية