من أشهر الأفلام التي أدانت مجازر الحرب العالمية الأولى.. وحذرت من كوارث الحرب العالمية الثانية.. فيلم المخرج الفرنسي آبيل غانس (إني أتهم) حيث يقف مئات آلاف القتلى في مشهد مذهل ليدينوا الظروف والأسباب السياسية والثقافية التي تسببت في مأساتهم ووأدت أعمارهم. أتذكر ذلك المشهد كلما أعدت قراءة الحالة التهامية وما يشتجر فيها. اليوم مئات آلاف التهاميين المنهوبين المهمشين المقصيين يقفون كما وقف القتلى في فيلم أبيل غانس , ليذكروا الآثمين بمسؤولياتهم و ليحذروا مسؤولي ما بعد ثورة الشعب السلمية من استمرار ممارسة البربرية ضد تهامة وأبنائها... ليس فيما يخص مصفوفة العنف المادي المتعلقة بنهب الأراضي والتهجير القسري للسكان والاستيلاء على الوظائف والإقصاء من المناصب والافقار.. وتخريب البيئة والصيد الجائر في البحر إلخ.. بل فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية تجاه تهامة وأهلها.. من حيث إعادة الاعتبار لها بوصفها المركز المثالي للمجتمع المدني في اليمن وبوصفها حاضناً للمراكز الثقافية والإشعاع الحضاري في عصور التاريخ الاسلامي لليمن.. وهذا يتضمن الاعتذار لأهل تهامة عما حاق بهم خلال العقود الماضية من ظلم وخسارات مادية وروحية وثقافية, ويتضمن إعادة تأهيل مدينة زبيد العظيمة لتواصل دورها وتقديم رسالتها للإنسانية.. كما يتضمن إعادة تأهيل مدن العلم الآهله والحفاظ على آثار المدن الداثرة ضمن عملية واسعة تشمل ترميم المساجد والمدارس والأربطة والزوايا والقلاع والحصون والمزارات وتقديم دور تهامة وأبنائها بشكل لائق في وسائل الإعلام والمناهج المدرسية.. والأبحاث الجامعية.. وتدشين سلسلة من مهرجانات وندوات وبرامج ثقافية تخدم هذا المنحى. وهذا يستدعي العمل على تفكيك البنية الذهنية التي أنتجت أبشع الصور النمطية لأهل تهامة خلال العقود الماضية.. تلك الصور التي بررت ما حدث لذلك النطاق الجغرافي وشجعت علية.. وهنا لا بد من التأكيد على عدم الركون على الأدبيات التاريخية السياسية الاجتماعية والثقافية , التي كانت تقرر خارج تهامة عبر ثمانين عاماً مضت.. ذلك أن تلك الأدبيات سواء كانت تكتب في صنعاء وما حولها أو في تعزوعدن إلى حد ما... وبغض النظر عن تباينها واختلاف مرجعياتها وأسبابها التي انطلقت منها.. كانت تكتب عن تهامة وانسانها مفصولين عن تاريخهما القوي.. وأصولهما الحية الفاعلة.. وفي ظل هزيمة وانحسار دور.. فبدت الصورة التهامية. غالباً – في تلك الأدبيات- ذابلة مشوهة وبائسة إلى حد بعيد.. لم يحدث أن ظهرت تلك الأدبيات على معرفة جيدة بتهامة وأهلها.. غالباً ما كانت المسلمات والقبليات والأحكام المسبقة والصور النمطية المتعددة المستويات تصبغ المكتوب وتطبعه، تؤكد عليه.. وتؤطره، ترسخه وتتمثله حتى يتحول إلى ثابت قطعي بديهي.. كان كل ذلك يتم من خلال مركزية صنعاءوتعزوعدن المدن التي كانت محاور حية للنشاط الاقتصادي والتعليمي والثقافي منذ ثلاثينيات القرن الفائت.. وهي مركزية ترتبت على كون صنعاء عاصمة.. يحتدم فيها النشاط السياسي ويصنع القرار ويكتب التاريخ... وترتبت على كون عدن مدينة كزموبوليتية تحفل بالأنشطة الاقتصادية والسياسية والثقافية.. وبينهما تعز التي كانت الحركة الثقافية والعلمية والتدوين التاريخي الأدبي يتخلق فيها من امتزاج مفاعيل المركزين.. صنعاءوعدن حين كانت تعز حاضناً لأهم حراك تثاقفي وتأليفي شهدته اليمن في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بسبب كونها مقراً لسيف الإسلام أحمد ولي عهد الدولة المتوكلية الذي اجتذب حضوره القوي ألمع رجال اليمن في ميدان الثقافة والأدب والتاريخ.. إضافة إلى استفادة نخب تعز القوية من صلاتها بعدن فكانت بذلك مركزاً آخر لصنع القرار وكتابة التاريخ. ولأن تلك الأدبيات الثقافية التي تجمع بين الإبداع (الشعري خاصة) والتاريخ والمثاقفات المتصلة بهما.. كانت تتسم بقصور الاطلاع والذاتية المركزية والانطباعية والعاطفية.. فقد بدت صورة تهامة فيها واقعة بين مطرقة الهزيمة التي لحقت بها جراء حرب الزرانيق وتوابعها وسندان التهميش الذي يطال المغلوب ويهز مكانته في عيون الغالب.. غير أن قصور الاطلاع والذاتية المركزية والانطباعية العاطفية التي اتسمت بها تلك الأدبيات تتجلى أكثر فأكثر من خلال سحب الصور النمطية التي وسمت أهل تهامة بعد فقدهم لمركزهم العلمي والثقافي والسياسي.. على تاريخها كله. بشكل تعميمي فج ومباشر.. حتى ليبدو كأنه عدوان مقصود على ذلك التاريخ المميز جداً. وهكذا فلا نصل إلى عقد الستينيات حتى تكون تلك الصور النمطية قد تسربت إلى الخطاب السياسي في وسائل الإعلام وإلى النصوص الأدبية وملاحظات الزائرين للمكان.. وإلى المثاقفات بأشكالها المتعددة... بل والأخطر من ذلك.. أن تجد تلك الصور النمطية المعممة على تهامة وناسها اليوم وأمس عبر تاريخها كله قد تسربت إلى مذكرات الدبلوماسيين الأجانب والرحالة. وزائري اليمن والمهتمين بشأنه من كتاب وصحافيين وآثاريين وأنثربولوجيين ممن يعيدون تصدير تلك الصور النمطية إلى اليمنيين الذين يأخذونها بشكل أكثر جدية (بحكم عقد النقص تجاه الآخر الغريب) ويعيدون من خلالها واعتماداً على المبرر الذي تقدمه لهم.. رسم تلك الصور النمطية بشكل أبلغ إمعاناً في التعالي والفوقية, وهو ما تترتب عليه تصرفات وسلوكيات عدوانية ومهينة مادياً ومعنوياً تجاه تهامة وأهلها.. لقد عوملت تهامة بوصفها لقمة عيش هنية لا تكدرها المنغصات.. بالتوازي مع ذلك كانت - من حيث القيمة الاعتبارية للمكان وأهله - تعامل كَخلقٍ رَثّ أو جزء من الجسد ميت.. كانت النخب الثقافية والسياسية والعسكرية وبيوت التجارة والأعمال في صنعاء ما بعد الستينيات كلها تحمل وصمة العار التهامي.. فقد تواطأت تلك النخب على مراكمة سلسلة من الصور النمطية للإنسان التهامي.. تم تعميمها عبر أساليب مختلفة تبدأ بالتباسط الخطابي في المثاقفات المقايلية.. ثم تمر إلى المنابر الاعلامية ومطابخ صنع القرار لتتحول إلى سلوكيات وممارسات تتجلى على نحو حاد ومريع في عدم مساواة أهل تهامة بغيرهم في المناصب الرفيعة وقيادة الجيش والسلك الدبلوماسي وسلك القضاء.. وإلى الوظائف العليا كما في نصيبهم من الوظائف بشكل عام.. ونصيبهم من ميزانية الدولة ورعايتها في مجال التعليم والصحة والخدمات والرعاية الاجتماعية... والمنح الدراسية... ودعم المزارعين.. وقد أدت تلك السلوكيات الإقصائية عبر أربعة عقود متوالية الى تخلف مريع.. في كافة نواحي الحياة.. فنسبة الأمية مرتفعة والمستوى الصحي متدنٍ جداً.. والمشاركة في الحياة السياسية وصنع القرار تكاد تكون منعدمة.. كما ترتب على كل ذلك إبعاد أبناء تهامة عن أي مكاسب مادية ومعنوية يمكن أن تتأتى من فاعلية حضورهم في المجالات المشار إليها.. حتى المجالات التي بقي لهم فيها يد تمت تنحيتهم عن المنافسة فيها بطرق مباشرة وغير مباشرة.. على سبيل المثال كان يمكن أن يبقى لهم أمل في ميدان الزراعة والصيد البحري ... ولكن حال فقرهم وتخلفهم دون أي تطوير يلزمهم في هذين الميدانيين.. بالتوازي مع ذلك تم غزو هذين المجالين من قبل نافذين عسكريين وقبليين ومسئولين في رأس السلطة من غير أبناء تهامة.. واستعمل النفوذ والسلطة والثروة المسروقة من أبناء الشعب.. سنداً في عمليات ترغيب وترهيب أدت إلى خسارة التهاميين للبر والبحر.. صاحب ذلك كله قتل مقومات الخصوصية والهوية الثقافية للمكان وناسه بتجفيف محاضن العلم والثقافة المتمثلة في زبيد وعشرات المعاقل العلمية المتناثرة حولها. والعمل على استبدال منظومات القيم الاجتماعية و الثقافية المتأصلة في التراث الروحي والموروث الشعبي.... من خلال فتح المجال للتيارات الفكرية المناقضة لتاريخ المكان وتراثه.. فقد كانت تلك التيارات جاهزة لتقديم الكثير من الخدمات المتعلقة بالشراكة الاقتصادية والدعم المادي المتمثل في الرشاوى والهبات والهدايا وحتى الحصول على مرتبات من جهات غامضة ومجهولة ناهيك عن الفتاوى التبريرية لما يفعله الناهبون والتصدي لمهام تجميل سمعتهم على منابر المساجد وقاعات الدرس وفي مجالس الوعظ مقابل إطلاق يدها في البلاد والعباد تدمر الآثار الروحية.. وتخرب منظومة القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية.. وتزري بما راكمه التهاميون على مدار قرون من العلم والتنوير والإبداع. كان الموقع المركزي والمهيمن لممثلي التيارات الدينية الجديدة.. عبر العقود الثلاثة الأخيرة قد تمكن من التساند مع قوى التسلط والنهب والنفوذ الغاشم على أساس أن بين الطرفين لغة مصالح مشتركة.. فكلاهما له مهمة تجاه تهامة وإنسانها.. ثمة مستهدف بالإلغاء والإقصاء والتهميش والنهب يتمالئ الطرفان عليه... بالنسبة للتيارات الدينية الجديدة.. كانت المهمة إلغاء تاريخ تهامة الفقهي وتراثها العلمي وإقصاء ممثلي تراثها العظيم عن الساحة الاجتماعية وعن أي دور سياسي أو ثقافي أو اعتباري مؤثر يتضمن ذلك تجريم وتكفير التصوف أهم مقومات هوية المكان وناسه ونهب الآثار والمخطوطات واستهدافها تهريباً وتدميراً وحرقاً.. وهذه التيارات لم يكن مركزها في أي مكان ولكن اتساع دائرتها كان في كل مكان وقد مكنها نفوذها المتساند مع نفوذ الفاسدين المتسلطين كما مكنتها إمكاناتها المادية وحداثة وسائلها في التحرك وتوصيل الخطاب وتعدد الأذرع من خلق حالة من الإغواء أخفت عن أغلب الناس حجم الخديعة وفداحة الجرم. بمعنى آخر يمكن توصيف ما حدث لتهامة وأهلها خلال العقود الماضية من قبل السلطات المتعاقبة ونخبها السياسية والعسكرية والقبلية بحالة حصار سياسي ممنهج – ان صح التوصيف - وهو يعني في الدراسات المهتمة بقضايا التهميش والإقصاء.. قمع جغرافيا معينة في الوطن وإضعافها مقابل تنشيط جغرافيا أو جغرافيات أخرى وتقويتها والغرض من كل ذلك في حالة تهامة واضح ومفهوم وقد تمت المهمة على أكمل وجه ....